يندر أن تجد كتابا مخصّصا لحنبعل بالعربية. فما بالك لو كان مفصّلا ومجدولا وفق منهجيّة أكاديميّة آمنة. إن معرفتي عن سيرة هذا الرّجل متواضعة وترجع إلى المقرّرات المدرسية وكتب الطفولة (أذكر منها كتاب الراحل حسن جغام) وبعض المعلومات المتفرقة. وكنت بحاجة إلى عمل يغوصُ في التفاصيل، ويقدّم لي صورةً أكثر شمولاً للسياقِ الذي ترك فيهِ بصمةً خالدة. ومع تهافت القومِ الذين انبروا يكتبون عنه انطلاقا من دوافع اديولوجيّةٍ سخيفة، يعتبرُ هذا الكتابُ هديّةً قيّمةً للقارئ العربيِّ. فصاحبُه من أولئك الذين يمكن الاطمئنانُ لأمانتهم العلمية، ولسعة اطّلاعهم على التاريخ البوني لتونس، ولتعفّفهم من الغوغاء الشوفينية المتهوّرة. وهو، أعني الكتاب، تأكيد على القيمة العلمية لمحمد حسين فنطر، الذي ينجز هذا العمل الضخم وهو في هذه السنّ، فلا يلقى من الدّعم إلا القليل…
وأول الخذلان يبدأ مع النّاشر، وهي دار كلمة Kalima. وهي دار نشرٍ تعملُ دون مدقّقين لغويين، ويبدو أنها لا تملك محرّرين أيضا، وهذا بالعودة إلى كمية أخطاء الرقنِ وطبيعتها. لا شكّ أن الكاتبَ وهو يضعُ فصول هذا الكتابِ الضخم، يملك معضلة في لوحة المفاتيح، تجعله يستعمل تطبيقات التحويل من الكتابة العربية بالحروف اللاتينية إلى الحروف العربية (مثل Yamli). وهو لذلك عاجزٌ عن تشكيلِ الحروفِ حينما يحتاجُ إلى ذلك (في أسماء الأعلام وبعض المصطلحات المهمّة)، فنجده يشيرُ إلى حركة الحروف بين قوسين أحيانا. لكنّ الناشر لم يكلّف نفسَه عناءَ تحويل هذه الإشاراتِ إلى تشكيلٍ فعليٍّ، وتركها كأنما لم يقرأ شيئا من كتابٍ ضخمٍ يهمُّ بنشرِه. وأحيانا نجد الحرفَ المضعف يكتب مرتين متتاليتين عوض استعمالِ الشدّة، كما في اللغات اللاتينية. أضف لذلك الخلط المزريَ بين الضاد والظاءِ، فيستعملُ فعلُ الضلالةِ للتدليل على البقاءِ. وباختصارٍ فلو كان الكتابُ عملا أدبيّا لما تجاوزتُ الصفحة الثلاثين منه، ولكني احتراما لعملِ صاحبِه، ولقيمته العلمية، تجشمت عناءَ السيرِ وسط كلّ هذه اللامبالاة حتى النهاية. إن دار كلمة عارٌ على صناعة الكتبِ لأنها لا تحترمها ولا تحترم أصحابَها.
يبقى الكتابُ مع ذلك قيّما لأسباب مختلفة. أولها أنّ تبويبه يسمحُ بتمثل أطوار الحرب، وتحقيب سيرة حنبعل. سوف نجد بابا عن نشأته واستعدادِه في إسبانيا لتولّي الأمور، ثمّ بابا عن مغامرتِه الكبيرة نحو إيطاليا، ثمّ بابا يشمل كلّ أطوار الحرب في إيطاليا، ثم بابا عن الحربِ في إسبانيا، وآخر عن الحرب في سردانيا، وآخر عن الحرب في صقليّة، وبابا سابعا عن الحرب في إفريقيا، ثمّ بابا عن حياة حنبعل في إفريقيا بعد الحرب، وبابا أخيرا عن خروجِه منها والتجائه إلى ملوك آسيا الصغرى حتى نهايته المأساوية.
وعادة ما تُروى الحرب البونية الثانية تركيزا على مسيرة حنبعل من إسبانيا إلى إيطاليا ثم عودته إلى إفريقيا، ويتمّ تجاهل جزء مهمّ من أطوارها، حدث في إسبانيا بعد رحيل حنبعل، وآخر لا يقل أهمية في صقلية وسردانيا في نفس وقت المعارك الإيطالية. إذ تسمح لنا هذه الأجزاء بالحصول على رؤية أكثر منطقية ودقة للحرب، وفهمٍ أعمق للعوامل التي صنعت الهزيمة بعد الانتصارات الباهرة. كما تدحض الكثير من الأحكام السطحيّة، مثل أنّ قرطاج كانت ترفض مدّ حنبعل بيد العون، والحال أنها حاولت ذلك أكثر من مرة وتكبدت جراءها خسائر مروّعة.
لفتت هذه المعاركُ النظرَ إلى محدوديّة التفوق القرطاجيِّ في بداية الحرب، فقد اقتصر الانتصارُ على حنبعل، وتلقى أخَواهُ وقادةٌ آخرون هزائم ثقيلةٍ خسرت بمقتضاهم قرطاج عمقها الإسبانيَّ المهمّ وأمل استعادةِ حضورِها في صقلية. وهو أمرٌ يأخذنا إلى حقيقة أنّ حنّبعل فلتة عسكرية حقيقية لم يكن ممكنا صنع مثيلها. إنه استثناءٌ في الواقع القرطاجيّ، وليس ممكنا تفسيرُه بحضارةِ قرطاج وازدهارها. وفي حين كان فلتةً عسكرية، فالواضح أنه فشل فشلا ذريعا في نقل قدراتِه إلى الآخرين وخصوصا أخويْه اللّذين هلكا دون تحقيق أي شيء.
وأخيرا، فقد كانت معاركُ الجزرِ (سردانيا، صقلية) والمعاركُ الأولى على الساحل الإفريقي، مهمّةً للوقوفِ على حقيقةٍ هي الأكثرُ تأثيرا على نتيجة الحرب: فقد شدّد فنطر على الجودةِ الكبيرةِ للسفن القرطاجيّةِ، وأبرز استعمال الرومانِ لها بعدَ الحربِ في معاركَ ضدّ أممٍ أخرى، وما هزائمها المتتالية في المعارك البحرية، إلا لنقصٍ فادحٍ في المواردِ البشرية ذات المهارة الملاحية العالية. يرى المتأمُّل في تفاصيل الحربِ بوضوحٍ معاناة القرطاجيين مع الموارد البشريّةِ، واعتمادهم بشكلٍ مفرط على المرتزقة الّذين يبادرون بالهرب ما إن يصعب الموقف. كما يصعب إيجادُ المهرةِ منهم، الذين تلقوا تكوينا أكاديميا يسمحُ بحروبٍ من المستوى العالي. لا ننسى هنا أن قرطاج أمضت قرونا في حروبٍ متواصلةٍ فما إن هدأت الجبهة الإغريقية، حتى بدأت الحرب الأولى مع روما. وفي حين كانت المدينةُ الإيطاليّةُ تصنعُ مفهوما جديدا للدولةِ يتجاوزُ المدينةَ، ويقبلُ بمواطنة أهالي المدنِ الأخرى، زادت قرطاجُ في الانكماشِ على نفسها، وعدم الاعترافِ بمواطنة اللوبيّين والنوميديين من حولِها، بل حتى بالفينيقيين الذين يقطنون المدن الأخرى. ولقد ركز فنطر كثيرا على هذه النقطة وأبرزها بشكلٍ يثير الإعجابَ.
لقد اعتمد محمد حسين فنطر بشكل أساسيٍّ على الوثيقة الأدبية، وأساسا على ما تركه تيتوس ليفيوس، وأبيانوس، وبوليبيوس. ولكنّه لا يفعل ذلك تقاعسا عن البحث عن مصادر أفضل، ولكن لأنّ تاريخ هذه الحروب لم يصل إلا عبر كتب المؤرخين، تماما مثل التاريخ الإسلاميِّ تقريبا. ومع ذلك، فلقد قدّم لنا الكتابُ، معلوماتٍ أثرية مهمّةً عن الحضور البونيّ في جنوب فرنسا، وفي مناطق إيطالية تثبت حقيقة مغامرة حنبعل. كما أفرد الكاتبُ حيّزا مهمّا لاستقراء الأمكنة التي وردت في هذه الوثائق المكتوبة، وتحديدها على ضوء المعارف التوبونيميّة واللقى الأثرية المختلفة. فكان حضور الوثائق الماديّة مهما في عملية استنطاق النصوص التاريخية وتحقيقها. إذ لم يكتفِ الكتابُ بنقل ما وردَ على ألسنة المؤرخين، وإنما ناقشهم، وقارن بين ما رووه، وحلّل وتقصّى على الطريقة الخَلدونيّةِ. وذهب أبعد من ذلك، بتسجيل تصوّراتِه الخاصّةِ لبعضِ الأحداثِ التي إما سكت عنها التاريخُ (مثل هروب حنبعل من عند أنطيوكوس وظهورِه في أرمينيا) وإما رفضها فنطر استنادا لحقيقة أن المصادر الثلاثة إما لاتينية وإما إغريقية متعاطفة مع الرومان. ولكنّه لا يجنح إلى قراءة خاصّةٍ إلا ويرفقُها بمؤيّداتٍ تاريخية ومنطقيّة قد يقبلها المرءُ أحيانا وقد لا يقبلها ولكنه لا يمكن أن ينكر "مقبوليتها". وفي سبيل تحقيق ذلك، كثيرا ما اعتمد فنطر على هرمنوطيقا ديلتي Dilthey لمحاولة فهم دوافع حنبعل (أو أبيه عبد ملقرط) واستعمالها للكشف عمّا لم يبح به التاريخ. ومن الطبيعيّ أن تتحلى هذه العملية بروح أدبية لا ينكرها الكاتبُ ولا أجدُها تنتقص من صرامة البحث الأكاديميّ العلميّ.
باختصار، ليس هذا كتابا لمن يريد معرفةً موجزة لسيرة حنبعل، وإنما هو مرجع أساسيّ لسيرته المفصلة باللغة العربية. ربما نجد فيها بعض حماسة وطنية، لكنها لا تهوي إلى حضيض السرديات الشوفينية الشعبوية التي باتت تنهش تاريخ قرطاج وتشوّهه.