What do you think?
Rate this book


105 pages, Kindle Edition
Published March 2, 2023
ولنستهلّ حديثنا عن الفضيل والصدق بهذه القصة الكاشفة، يقول أبو رَوح حاتم بن يوسف: أتيت باب الفضيل بن عياض فسلمت عليه، فقلت: يا أبا علي معي خمسة أحاديث، إن رأيت أن تأذَنَ لي، فأقرَأَ عليك. فقال لي: "اقرأ". فقرأت فإذا هي ستة!
فقال لي: "أفٍّ، قم يا بُني تعلّم الصدق، ثم اكتب الحديث".
وكأنّ الفضيل كان يتأمّل عبارة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عندما رسم الدنيا بريشته النورانيّة: "الدنيا جيفة! فمن أرادها فلْيَصبِرْ على مخالطة الكلاب!"
أما الفضيل فبتعبيره الساخر يأتينا بصورة جدّ معبرة فيقول -رحمه الله- "لأنْ أطلُبَ الدنيا بطبل ومزمار أحبُّ إليَّ من أن أطلبها بالعبادة".
في زمن يعتقد ميمون بن مهران أنّ الخوف قد بهت في نفوس العباد، أخذ يطوّف بذكريات أيامه الخوالي، ثم قال: "أدركت من لم يكن يملأ عينيه من السماء فَرَقًا من ربه عز وجل"
أما الحسن البصري فيقول واعظًا كعادته في الوعظ: "والله لأنْ تصحَبَ أقوامًا يخوفونك حتى يدركك الأمن خيرٌ لك من أن تصحَبَ أقوامًا يؤمنونك حتى يلحَقَك الخوف"
أما إن أردت أن يذهلك ابن سيرين -رحمه الله-، فتعالَ معي لتسمَعَه وهو يقول: "إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي، فأصرف بصري عنها"
فها هو [سعيد بن المسيب] يبتدئ درسه بعبارة ذات أبعاد لامتناهية، فيقول - رضي الله عنه-: "من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة"
مرّ به [سعيد بن المسيب] رجل يلبس جبّة حسنة، فسأله عنها معجبًا بها، فإذا بذلك الرجل يبدي تحرّجًا من لبسها، لأنَّها تنتمي إلى ما يمكن وصفه بالبذخ والترفّه! فقال له سعيد: "أصلِحْ قلبَك والبَسْ ما شئت"
وكان سفيان -ورضي الله عن سفيان- شدَّ مِئزَرَه في الحياة استعدادًا للموت! وكان يقول فيما ��قول: "لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون؛ ما أكلتم منها سمينًا"
ثم ها هو سفيان في ذلك الدرب العتيق يعبّر عن ذاته، وعن طموحاته، وعن شغفه فيقول -رحمه الله-: وددت أن أنجوَ من هذا الأمر كفافًا، لا عليّ ولا لي"!
هذه طموحاته؟ أن يخرج منها كما دخل فيها! وكأنّه يعيد صياغة عبارة ابن عباس -- عندما سُئل عن رجلين، أحدهما: قليل الطاعة قليل المعصية، والآخر: كثير الطاعة كثير المعصية! فقال --: "لا أعدل بالسلامة شيئًا"! فقلة حمل الظهر من المعاصي لا يعدلها عند ابن عباس شيء.
وهذا رجل يسأل محمد بن النضر الحارثي عن المكان المناسب لعبادة الله، فيأتي الجواب مشيرًا إلى وجهة أخرى أحق بالاهتمام، فيقول -رحمه الله-: "أصلِحْ سَريرتَك واعبُدْه حيث شئت"
يحكي لنا محمد بن المنكدر عن ليلة من الليالي أمرها عجيب! يقول: "بات أخي عمر يصلّي، وبتُّ أغمز قدَم أمي، وما أحبُّ أن ليلتي بليلته"
وهنا ميمون بن مهران -رحمه الله- يرى بعض عصاة زمنه يتوب، فيعلن للناس عن بعض غدراته وفجراته مما أظلمت عليه لياليه، ظانًّا أن شروط التوبة التصريحَ بالموبقات، فيقول ميمون لهؤلاء: "من أساء سرًّا فلْيتُبْ سرًّا، ومن أساء علانية فليتب علانية فإن الناس يعيرون ولا يغفرون والله يغفر ولا يعير"