«شرعتُ في شهر كانون الثاني من عام 1991، بتخطيط عدد من الوجوه القابعة حول موقد الشتاء، جسّمها ضوء فانوسي القديم، كما هوّلها (حلم العقل) الذي رآه الرسام الاسباني (غويا) في ليل مدريد العامر بالهواجس والأشباح قبل قرنين. وتحتوي كراسة كانون تخطيطات مرسومة في ليالي التعتيم التي أعقبت الهجوم الجوي، وقد حان الوقت كي تصرّح أحلام الكراسة بحقائق نصوصي التي تتخطّى: اليوم عامها العاشر».
كتاب متفرد، السرد هنا يمر بين الق باتجاه الرواية، محاولة متواصلة من الكاتب العالمي في إنجاز كتب لا تحتفي بالتجنيس قدر أهتمامها بفتح مناطق بكر في التجربة الإبداعية ككل.
محمد خضير كاتب قصة قصيرة عراقي من الطراز الأول. بقليل من النصوص استطاع لا أن يفرض اسمه كقاص فحسب، إنما أن يشكل ظاهرة في القصة العربية ويحدث اختراقاَ نوعياَ مازال يتواصل مع نتاجه الكثيف والمميز.
في مدينة البصرة، ولد محمد خضير عام 1942. وفيها عاش وأصرّ على البقاء، حتى في فترات القصف اليومي الذي تعرضت له المدينة خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ورغم الهجرة شبه الجماعية لسكانها أثناء تلك الحرب.
ينتمي خضير إلى جيل الستينات الأدبي في العراق. وقد عرفه القراء من مواطنيه حين نشرت أولى قصصه: (النيساني) في مجلة (الأدب العراقي) قبل أكثر من ثلاثين عاما. ثم لفت اسمه أنظار القراء والنقاد العرب بعد نشر قصته (الأرجوحة) في مجلة (الآداب) البيروتية، التي ثنّت بنشر قصته (تقاسيم على وتر الربابة) عام 1968.
صدرت المجموعة القصصية الأولى لمحمد خضير: (المملكة السوداء) عام 1972، وعُدّت عملاً تجديدياً ومغايراً، يشير إلى (عالم متشابك معقد ومركب وبسيط في آن، ومتجذر ووهمي، وواقعي وسحري، محبط ومتفائل، تلعب فيه اللغة والذاكرة والمخيلة والتاريخ والأسطورة والتشوّف الإنساني النبيل أدواراً لافتة للنظر).
وفى عام 1978، صدرت مجموعة خضير القصصية الثانية: (فى درجة 45 مئوي)، وتلتها المجموعة الثالثة: (رؤيا خريف) 1995. وسجلت كل من المجموعتين مرحلة متقدمة عما سبقها في العالم القصصي للكاتب، الذي لم يكفّ عن محاولته الدؤوب لإقامة المتخيل الخارق للمدن، وخلق عوالم مدينية تضرب جذورها في عمق التاريخ الواقعي والخيالي.
وضمن سياق احتفاء محمد خضير بمدينته البصرة، أصدر عام 1993 كتابه": (بصرياثا - صورة مدينة)، الذي سجل فيه وتخيل حياة البصرة في تسعة مشاهد. وصاغ بهذا الكتاب (بياناً شخصياً) يؤكد فكرة (المواطن الأبدي) التي يعمق خضير ـ من خلالها ـ وجوده الإنساني والكتابي، وانتماءه لمدينته.
يقبض علوان على كراسته ويتنقل وسط مشاهد الدمار في العراق يلتقط منها ما سيقرر أن يرسمه ويخلده كغويا أو بيكاسو .. نساء يهبطن من السماء بالعباءات السود .. جماجم لأطفال على التل.. دودو الآلهة السومرية تطبق بيديها على جثث الأطفال وعتمة المكان.. يرسم ولكنه يرسم بالكلمات يشرح لنا ( سكتشات) كراسة كانون.
وفي مقاربة ذكية بين وظيفة الرسم ووظيفة الكتابة في تخليد المعاناة الإنسانية لاسيما ما يتصل بالحرب وبشاعتها يستفيض محمد خضير في فصول هذه الرواية عن غويا ولوحاته يحاكي وحوشه ويتتبع مسيره المعتم وكذلك بيكاسو في الجيرنيكا وهنري مور ومنحوتاته .. يختار من مدينته ما يمكن أن يحاكي تلك الأعمال بل ويتجاوزها حيث المأساة أعمق. رواية كان مشهدها الأساسي هو ضوء الطائرات التي تنير سماء بغداد المعتم .. الناس الذين أعادتهم الحرب لعصور الظلام فصاروا كلهم بروميثيوس حاملين مشاعلهم ومظهراً محاولتهم للعيش والصمود كبقعة ضوء شاحبة وسط عتمة الخراب. علوان شاهد على الحرب و يريد أن يترك كراسته التي تضمنت معاناة عشرة (كوانين) بكل مرارتها ومأساته الشخصية التي ضمنها على استحياء لتلك الكراسة وسخريته من العالم الذي لا يحفل بما يحدث .
نهاية الرواية كانت نهاية عبقرية توضح إلى أي مدى فقد العراقي ثقته في مستقبل واعد حتى صار حلمه أن يعود للوراء أو هذا هو على الأقل ما حصل له .. حيث إرثه العظيم هناك ينتظره.
رواية كتبت بطريقة مختلفة جداً كانت في مكتبتي منذ سنوات ولكنها استعصت علي .. الآن فقط أدركت روعتها..
كثر الحديث عن تصنيف ( رواية ) محمد خضير من حيث انها رواية ام لا ، حقيقة قراءتها رحلة في الخيال ، اعطيتها خمس نجوم و هو امر لا يحصل معي عادة ، ( كراسة كانون رواية لم تكتب بعد ) و هنا تاتي عظمة محمد خضير ، لم اقرأ رواية ( ميتاسرد ) مثل كراسة كانون
اذ لا أميل الى الاستعراض بحجّة العارف، ولكني أمهد للعارف بأنها إشارة تستحق الوقوف.. لم اعهده قصاصا او روائيا؛ بل "بورخسيا قديرا" بمعنى انه يكتب قطعا سردية مُمتعة، مُتقنة التفاصيل وأحيانا فيها إشارات الى كتب ومفاهيم مرت بالقرب منه، فالتقطها بحسّ عالٍ، اذ تميزه عن غيره كمثقف فاعل مبتكر، له وجه واحد.. متشبّع بالضوء، حاد، وتعهد ضوءه طاغ على السردية العراقية، ولو صنفته - بين جنس القصص والروايات لما نصفته.. انها كتابة - أذكى من كلّ ذلك بكثير.