ازداد الترقب في أعيننا وانحبست الأنفاس، فيما راحت خالتي تواصل حديثها الملغز: "حكتْ لنا جدتكم حين كنّا صغارًا في مثل أعماركم عن السرّ وراء ضروب النحس التي أخذت تكرّ على بيتها وأهل بيتها. قالت بأنها ذات يوم، قبيل أذان الفجر، خرجتْ متدثرة من حجرتها تقطع الحوش الرملي، قاصدة بيت الخلاء للوضوء. كان الفصل حينئذ خريفًا، يهب بريح خفيفة عبثت ببقايا نعاسها، فبسملت هامسة وهي تخوض بالظلمة التي لمّا يشقها ضوء الفجر بعد. ارتعدت أطرافها وهي تقطر بالماء البارد، ثم تلمّست حوائط (بيت الأدب) الحجرية بعد أن أكملت وضوءها وهمّت بالخروج. نشطت الريح لحظتئذ وسفعت وجهها بهبة رمل، فاستعاذت بالله من الشيطان الرجيم، ومن جن الأرض الذين حدست أنهم يعابثونها. كانت جدتكم امرأة مؤمنة، وتعلم أن هناك طوائف من الجن الأخيار، الذين سخرهم الله لها، فلم تعد تخشاهم حتى وهي تخوض في ظلمة ذلك الحوش الموحش
منذ مدة طويلة لم أقرأ مجموعة قصصية على هذه الدرجة من العذوبة والقرب وجمال العبارة. ربما لأن من كتبتها شاعرة تجيد انتقاء المفردة وتذويب الأفكار في قالب مناسب من اللغة، ثيمة واحدة، عن العائلة الصغيرة، تحديدا الأم وعلاقتها بابنتها وابنها وزوجها وصديقاتها، عن العلاقات الإنسانية وخيوطها الممتدة منذ الطفولة، الراوية على امتداد الصفحات كانت تخاطب القارئ بلا تكلف، وتمنحه فرصة الإصغاء لفضفضة أبطالها وتلمس التجارب التي عاشوها. هناك حنين بين الأسطر ورهافة حس وتوق للتحليق والمكاشفة، وكأن الكاتبة أطلقت أبطالها نحو حريتهم الداخلية في نهاية كل قصة
كنفاه مجموعة قصص قصيرة للكاتبة الكويتية نجمة إدريس. مجموعة قصصية مميزة ذات لغة جميلة عذبة وأحداث ومشاهد تم حياكتها بدقة وعناية متناهية من نسيج الذكريات وعبق الماضي كقطعة قماشة الكنڤاه.
قصة كنفاه تحاكي علاقة البنت بأمها "متقشفة الحنان." كانت الأم تهرب من قسوة زوجها بحياكة الكنفاه حيث"تلوذ بكهف الكنفاه كلما عاقبها بالصمت الطويل الذي يخرق روحها، دون أن تعرف دواعي ذلك الخَرَس السمج." وبدونها تصبح البنت أماً وتهرب إلى الكنفاه: "لا أنفكّ ميالة إلى مساحة من الخصوصية، أتأمل فيها ما علق بطفولتي من شوائب."
قصة أخرى من ضمن المجموعة القصصية قصة الفريج. هذه القصة تصف بأسلوب رائع ولغة عذبة يتخللها مفردات كويتية قديمة لأحداث الأحياء الكويتية القديمة (الفريج وجمعه فرجان بمعنى الحي أو الحارة. تمنيت ان تجد هذه القصة إلى مناهجنا العقيمة في مدارس الأبناء ليتعرفوا على كويت الماضي بأسلوب جميل ومسلي في نفس الوقت.