إن دائرة الحياة لا تتوقف، بينما المحطات التي نستقل العمر من أجلها قد تبخل علينا بمسافة زائدة. لذا يحدثنا الكاتب عن الموت، لكي نكون أكثر دقة، نحن أمام حديث عن الفقد بجميع أحواله، وفي خضم تلك المرثية تأتي أفكار حول معان مغايرة للحياة، الفرح، الألم، والموت كخصم أساسي بطبيعة الحال
مصري مواليد 2002 محافظة المنوفية، يدرس العمارة والتخطيط. صدر له رواية " أول دروب العودة- آخر دروب الحنين" عن دار المرايا للثقافة و رواية "الموت عادة يومية " عن مؤسسة بيت الحكمة. وبعض القصص على موقع الكتابة وجريدة إمتداد
هذا العنوان الذكي الأكثر التصاقًا بأيامنا، يبدو من أكثر العناوين توفيقًا سواء في تمثيله لموضوع الرواية، أو في تعبيره عن واقعنا المأساوي الراهن، حيث قصص وحكايات الموت والقتل أصبح مجرد عادة متكررة يومية، . للمرة الثانية يؤكد شكري سلامة على امتلاكه ناصية السرد، والكتابة الروائية المتقنة، ينتقل بنا هذه المرة إلى واحدة من أكثر الأفكار الفلسفية التي شغلت الناس، فكرة "الموت" ,, وينقلنا معها إلى مساحت أخرىـ بمصاحبة الحكايات والأساطير، فيحضر جلجامش ومقامات الخمذاني بشخصياتهم، يتمازج الخيالي بالواقعي والفانتازي، ويبقى قادرًا على شد القارئ إلأى تفاصيل روايته مع كل فصلٍ من فصول الرواية .. حتى النهاية (هل كان عليك أن تتعلم كل الكلمات لتقول فقط "وداعًا أيها الأصدقاء"؟!)
من هذا المفتتح لوديع سعادة تبدأ الرواية التي تشير بشكلٍ واضح لتلك العلاقة التي ستظل مهمينة على طول الرواية، وهي تلك الحكايات التي تربط بيننا وبين الموتى/الغائبين/الأصدقاء، هل يمكن أن نستحضرهم من خلال "حكاية"؟ هل تملك الحكاية فعلاً سطوة إحضارهم والاستئناس بهم من جديد؟!
في كتابها (عن الأسى والتأسي) تتحدث إليزابيث كوبلر عن الحكاية ودورها في تخفيف الألم:
((يساعد قص الحكاية على تخفيف الألم؛ فالمداومة على قص حكايتك وسرد تفاصيلها ركن جوهري من سيرورة الأسى. يجب أن تُعبِّر عن ذلك الألم. يجب أن يكون على الأسى شهود لأجل التعافي؛ فحين نُشرِك غيرنا في أسانا، ينحسر الأسى. ومجموعات الدعم والثكل مهمة، ليس فقط لأنها تتيح لك مصاحبة آخرين مروا بالفقد، ولكن أيضًا لأنها توفر ساحة أخرى للكلام عن الأحداث الكارثية التي حلَّت بعالمك. قُصَّ حكايتك؛ لأن ذلك يؤكد على أهمية ما فقدت
أنت هنا المحقق الذي يبحث عن أدلة لمساعدته على فهم كيفية حل اللغز. عندما تحكي الحكاية، تكشف ارتباكك أمام تضاريس تتطلب الاستكشاف. ولكن ثمة شيئًا في التعبير عما يراودك من أفكار باطنية والتحدث عنها جهرًا يساعد على تنظيم شؤونك. قد يكون ذلك بمنزلة دعامة مؤقتة تضم أجزاء البنية المحطمة لعالمك. يساعد حكي الحكاية على إعادة خلق النظام وبنائه.))
والقارئ سوف يلحظ بجلاء أن هذا ما يفعله الكاتب/ السارد والبطل على السواء، فثم تماهٍ بين الكاتب وحكايته التي يقرر أن يحكيها بضمير المخاطب حتى يكون القارئ شريكًا في الحال والأحداث، ففي الوقت الذي يأتي فيه الإهداء لأرواح عددٍ من الراحلين بأسمائهم (ليسوا مجرد أصدقاء) نجد بطل الرواية "عمر"يعاني من حالة فقد الأب/الغائب، الذي لا يعلم أفارقه لأنه مات أم قرر أن يغيب، تلك الحالة الخاصة تجعله يتأمل حالة الفقد، وينتقل بها إلى تأمل الموت بطريقة مختلفة.
تبدأ الرواية مشهد افتتاحي فانتازي بعنوان (كعادة البدايات القلقة) حيث رجال سقطوا من السماء، ثم يأتي الفصل الأول (ذكرى تصلح لتبدأ الحكاية) نجد فيها البطل مع صديقه "يوسف" يعود لاستحضار ذكريات الماضي، وفيها يبدأ يوسف بالحكاية التي تحمل عنوان (يشبه حلمًا عنك) والتي نتعرف فيها على تفاصيل تلك الحكاية/ الحلم الفانتازي الذي يتناول رجلاً ينتقل إلى قرية غريبة من خلال قطار، وهناك يكتشف عالمًا غريبًا لأشخاص يتعاملون مع الموت باعتياد، ويجد نفسه يعيش معهم أيامهم:
(حين حكى عن أيامه تلك أخبرني أنها سارت على نمطٍ واحد، في الصباح يستيقظ ليجلس تت شجرة موز ضخمة يتأمل الحياة العجيبة التي يحياها، وتثار دهشة يوميًا من تتابع الجنازات واستمراريتها، ففي الصباح جنازة عابرة، وفي المساء جنازة عابرة، كأن الناس هناك لا شغل لهم سوى الموت، لا تسمع صريخ أحد ولا تشعر أن أحدهم يوشك على الموت، جميعهم يبدون بصحةٍ جيدة، لكنه سرعان ما يأخذون في الاختفاء، يموتون فجأة دون إشارة مسبقة، وفي هدوءٍ تام كأن الموت عادة يومية، ومن كثرة التكرار الذي يراه ثبت في نفسه أنه مذنب وسيلقى حتفه هو الآخر)
تأتي حكاية يوسف واستحضار عالمه في البداية كوسيلة من البطل للتعلب على فقدانه، ذلك الذي سيكتشف القارئ متأخرًا، وبعد أن يطرح السارد بشكلٍ مباشر وغير مباشر عددًا من أسئلة الرواية سواء ما كان منها متعلقًا بالموت والحياة والغياب والجدوى، أو حتى بالاستئناس من خلال الحكايات العادي منها والغريب، ونسج تفاصيل جديدة يتماهى فيها الواقعي مع المتخيل، أو يأخذ هذا من ذاك، بحيث يدور القارئ مع السارد وأبطال الحكاية على نحوٍ ما وتصبح تلك الأسئلة المؤرقة أسئلته، وتلك الحكايات الغريبة شديدة الشبه والاقتراب من حكاياته وعالمه.
والرواية التي تبدأ مهداة إلى الراحلين لا تسقط في فخ أن تكون مرثية طويلة لهم، ولا بكاءً على أيام الصداقة والود المسكوب/ الفائتة، بل تنتقل من ذلك كله إلى حالة شديدة الخصوصية من رسم عالمٍ موازٍ لعوالم الغائبين، واستنطاق حكايات أخرى، سواء تلك التي تخص والد عمر "حافظ إبراهيم" وحكاية حبه القديمة لسيدة، وحكايته مع "الأنصاري" وما يمكن أن يكون من تفاصيل أخرى تخصه في بلدة أخرى، أو حكاية عمر نفسه وارتحاله إلى مكانٍ آخر هربًا من ذكريات المكان القديم ذاك، ومحاولة لبناء عالم آخر من جديد، لكن الماضي والذكريات والأصدقاء لا يزالون يحاوطونه!
تبدو الرواية في النهاية قادرة بالفعل على التجاوز، وتأتي الحكايات لتحمل للسارد والكاتب على السواء حالة خاصة من الصفاء الذهني أو على الأقل محاولة جادة للتصالح مع العالم:
((في ذلك النهار البارد، جلست عند الترعة أرى العالم كأنه شيءٌ خارجٌ عن إرادتي وعن وجودي، وكان ذلك إحساسًا رائعًا بأني مسلم بلاعقلانية للوجود منسجمٌ فيه، جاءتني فراشة صغيرة حطت على إصبعي الصغير ثم طارت، وتبعتها حتى وجدت ظل كائنٍ على العشب، وحين دنوت منه تناثر كقطعٍ بنيّة، ملأت الدنيا حولي فراشات، مسكينة تاهت عن النعيم لاشك تجاوزتني، كما تجاوزتني الدنيا، وشعرت بها حول بدني حتى اقشعر جلدي، طارت للغرب لتلف حول أشجار البرتقال عوضًا عن غربان تلك المنطقة، كان نهارًا مزيفًا من تلك التي تشعر فيها أنك تستعيد عافيتك، وتوجت ملكًا على الحياة، رأيت الأفق ملطخًا بحبرٍ انسل من قلبي، قلبي الذي اعتصرت فيه زهرة الحياة ... )) ورغم ذلك فالرواية تبدو في النهاية شديدة الإخلاص لفكرتها، حيث الوعي التام بدوران فكرة الموت والحياة، وأنه لا نهاية حقيقية لذلك الصراع وتلك الحالة مهما كان الوعي، ومهما امتلأنا بالحكايات، سيعود الموت مرة أخرى بعد دوران الحياة، أو تعود الحياة بعد دورة الموت، لذا تنتهي الرواية باستدعاء الحكاية مرة أخرى بعد كل ذلك، بالمفتتح الشهير للحكايات (كان يا ماكان ..) تستدعي الرواية منذ عنوانها وفكرتها الكثير من النصوص التي تناولت وواجعت الموت، ولكن الجميل أن حكاية شكري تبقى منتمية أكثر إلى حكايته الشخصية وعالمه الذي ينطلق من أشمون إلى العالم ........ مقالي عن الرواية https://alriwaya.net/post/structure-o...
" فأنا أستطيع تقبل حقيقتي الخرافية، إن كان أحدهم يشاركني في تلك الحقيقة". "فهذا ما أظنه، فإن تقابل شخصان على المستوى نفسه من الخرافة والغرائبية؛ أفلن يكونا واقعيين بالقدر الكافي الذي يجعلهما يتناسيان حقيقتهما الخرافية؟ وربما سيكون علينا -نحن الخارجين على هذا الإطار الخرافي- أن نكف عن اعتبارهما غير حقيقيين!". :" يكمل يوسف كلامه: "تتذكر حين قلت أنك طرت صدقتك، لِمَ لا؟! البشر يطيرون أحيانًا!".
ترد عليه بابتسامة، وأنت عاقد يديك أسفل رأسك فوق قدمه: "وأحيانًا يسقطون من السماء".
____
-'في هذا الحوار الدائر بين البطل وصديقه يوسف، تظهر قيمة المؤانسة والمشاركة الإنسانية؛ فهذا الصديق، الذي طالما شارك صديقه أحلامه وطموحه، بل هو بلسانه من شهد لصديقه بقدرته على الطيران بينما كذَّبه الآخرون. هذه القيمة الإنسانية أكدها النص وكرر التشديد على أهميتها في مواجهة الحزن؛ فظل الموت شبحًا يطارد البطل أينما ذهب، وتحل به ذكرى من مات، بينما تغيب الآلام في حضور يوسف، الصديق الرفيق المتحدث، الذي بحكاياته وفلسفته الخاصة يُبهر عقل وقلب صديقه عُمر، حتى نجد أن في تلك الساعات تنتهي عذابات نفسه، حتى وإن راودته فجأة، يكفيه أنه بحضور يوسف، يمكنه أن يبيح بما في قلبه، مؤمنًا:
"أن البكاء ليس عيبًا في حضرة الأصدقاء، وأن الدموع يمكنها أن تجري متى شاءت، وأن القلب يجب أن يستريح متى أحب أن يستريح".
كان يوسف رمز الونس الحقيقي؛ إذ يعلم عن صديقه عُمر كيف ينتشله من الألم. عُمر ينجو بالحكاية...يوسف كان يعرف الدرب إلى قلب عُمر. كان يحكي، يحكي كثيرًا، فتذوب الأشباح التي تطارده، وتغيب ملامح الموتى الذين يسكنون ذاكرته. مع يوسف، كان البكاء طقسًا مقدسًا، لا عيب فيه، وكانت الدموع تنساب حين تريد، وكان القلب يستريح حين يحب أن يستريح. لأن دومًا، الحكاية تضمن لك الخلود.
فيبدأ يوسف قائلاً: "سأحكي لك الحكاية... كان يا مكان، يا سعد يا إكرام..." فيرد عُمر: "يارب ما تجعلها حكاية خالدة...".
And in my dreams, you're alive and you're crying As your mouth moves in mine, soft and sweet Rings of flowers 'round your eyes and I'll love you For the rest of your life when you're ready Brother, see, we are one and the same And you left with your head filled with flames And you watched as your brains Fell out through your teeth, push the pieces in place Make your smile sweet to see, don't you take this away I'm still wanting my face on your cheek And when we break, we'll wait for our miracle God is a place where some holy spectacle lies When we break, we'll wait for our miracle God is a place you will wait for the rest of your life
عن الموت والصداقة والحب وأشياء أخرى.. ذلك الخيط الرفيع الذي يشبه دخان بخورٍ يلتف حول روحٍ تبحث عن مخرجٍ لا يعرف اسمه.
في "الموت عادة يومية" لا يتحرك الزمن إلى الأمام، بل يدور كمسبحةٍ في يد شي�� نائم، تنفرط حباتها كلما حاول عمر أن يلمس السرّ. لا أحد هنا يموت تمامًا، ولا أحد يعيش كما ينبغي. كل شيء معلّق بين ظلٍّ فقد صاحبه، وقلبٍ يحاول أن يتذكر شكله قبل الألم. كان عمر يمشي في تلك السنوات الثلاث كمن يطارد طيفًا يسبق خطوته بنبضة. يرى العالم بلون الماء قبل المطر صافٍ، لكنه على وشك الانكسار. يبحث عن معنى يشبه نافذة تُفتح وحدها حين يشتد الليل. يمشي بين الحياة والموت بخطوات شاعر، يرى القسوة كأنها وجهٌ آخر للرقة، ويختبر الحب والصداقة كأشياء تتشكل من الألم وتعود إليه، كأن الوجع هو الطين الأول الذي تُصنع منه أرواح البشر. روحه معلّقة بين سؤالين هل ننجو لأننا أقوياء؟ أم لأننا مجبرون على النجاة؟ شعورًا بأنك تمسّ شيئًا هشًا ومقدسًا، وتتركك بعدها أمام نفسك، تتساءل هل الموت هو النهاية فعلًا أم هو مجرد بداية أبطأ؟ صوت أحمد منيب، وأشمون، وبحر أبو غالب، وفنجان القهوة، ورئحة البرتقال.. أصدقاء الحكاية الذين مرّوا في الخلفية، يربتون على كتف الرواية كلما ثقل قلب عمر. وكلما ثقل قلبي، تذكرت، أن الموت عادة يومية، واننا كالببغاء شكري، في يومًا ما.. نتلوى، نتخشب، نموت، كأننا لم نعرف الشِعر قط.