«الاستدارة الأخيرة » كتابة مغامرة تستعيد طقسية البدء وطفولة الرواية وإيقاع الملاحم في العصور الغابرة وتحاكي حكايات الشعوب في كل زمان ومكان. وما أشبه الرواية بالحكاية «تصونها ذاكرة الجدات»، و «الحكاية وإن أصاب مفاتيحها الصدأ » تظل «صناعة عبقرية من محض خيال الحكائين لا يجيدها المدونون» «أشبه بكرة ضخمة من الخيوط المعقدة» «تيه عن البدء دخول مستراب «إلى ممالك النساء» وقد كان لا بد لهن من قتل الرجال كل الرجال» ليصرن ملكات بل هي رواية الأجناس مجتمعة، لا الجنس الواحد فيها آثار من الملحمة تماحك التاريخ المخيّل بالحقيقي وتعري زيف صحائفه وتفض جلاميد صفائحه. تحاكي «الاستدارة» التاريخ ولا تماهيه. فهي ساكنة فيه مفارقة إياه لأنها رواية مرموزة بإتقان. «صناعة عبقرية من محض خيال الحكائين لا يجيدها المدوّنون». الشخصيات فيها منتقاة بدقة، لكن بلا أسماء ولا هوية هي مجرد كنى وصفات القصد منها مداناة حقائق الإنسان كما هو، بلا إفراط في وهم المثالية. يتنامي الحدث في «الاستدارة» متذبذبا دائريا، متوترا ، مدوّرًا متكوّرًا على ذاته، حتى يبلغ نهاياته. لكنه سرعان ما يرتد على أعقابه مفسوخا من كل إحالة مرجعية تشفي الغليل تصل الاستدارة إلى ذروتها و «ساعة صفرها»، بعد أن خطا البطل كل خطواته البهلوانية، سائرا كلاعبي السيرك على حبال العبث والتيه. الدائرة هي خطنا المصيري، طرفاه «الأزل» و«الأمد» يدعونا إلى تأمل قضايا السلطة والعدالة والحب والجنس وفنون الترويض والركوب على صهوة كل متعاود، معهود نحسبه تاريخنا وسفر التكوين
"الإنسان ميدان كبير لصراع الخير والشر. لا ينتصر أحدهما على الآخر دائماً، وفي أحوال كثيرة قد نتوهم انتصار الخير، مشاعرنا وحدها تُحدد ذلك."
تطرح رواية "الاستدارة الأخيرة" شكلاً معكوساً للصراع الأزلي بين الذكر والأنثى؛ وأقول صراعاً لأن النوعين يحاولان باستماتة إلغاء الآخر، مما أدى إلى ظهور اضطرابات في الميول والأفكار قد يصل مداها إلى التطرف، فيطرح الكاتب فرضية بديلة، ماذا لو ثارت النساء على الرجال؟ ماذا لو أصبح العالم نسوياً؟ هل سيكون عالماً وردياً؟ وهل سيكون هذا العالم صالحاً للرجال؟ وعندما تقبض النساء على موازين القوة في العالم، هل سيتم استغلالها في صالحهم فقط؟ ولماذا ننسى دائماً أن العالم نساء ورجال؟ وتساؤلات عديدة نُحاول مع الكاتب القبض على إجاباتها من خلال رواية لو حاولت إيجاد جنس أدبي لها لانتابتك الحيرة، فهل هي رواية تاريخ بديل؟ هل هي رواية فانتازيا وخيال؟ هل هي رواية فلسفية تطرح أفكاراً لتُثير ذهن القارئ؟ أم إنها جميع ما سبق؟ أعلم أنني قد أزعجتك بدائرة من التساؤلات غير المُجابة، ولكن، بمجرد أن تبدأ صفحات الرواية، تعثر على إجاباتك، ولكنني لا أعدك أن تجدها كلها.
مع تقدم الأحداث في الرواية، شعرت بأنني أقرأ أحد الملاحم الأسطورية، عوامل جذب متعددة، خيال ممتع، فلدى بطل الرواية نهم وشغف لمعرفة التاريخ، في الوقت الذي تُسيطر فيه النساء على الحكم، كيف يعيش رجلاً يبحث عن الإجابات؟ كيف يتنقل وكيف يُعامل؟ لا لن أدخل في دائرة الأسئلة التي تؤرقني مرة أخرى، فقد وجد البطل الطريق إلى معرفة التاريخ، أو هكذا يدعي صاحبه، فنتابع رحلة النشأة من البداية، حروب ومعارك، تقلبات وخيانات، شخصيات تُقتل وتقتل، طقوس مُهيبة وعشائر تتحد، إسقاطات ورمزيات عديدة طوال الأحداث، وتجد نفسك أنك في دائرة ولكنك لا تزال تدور وتدور وتدور، ربما بحثاً عن الإجابات أو حباً في الحكاية، لا فارق، هذه الرحلة المدوخة ستكملها حتى النهاية، حتى الاستدارة الأخيرة.
ختاماً.. بمجرد أن نتجاوز حيرة البداية والتعرف على الشخصيات وأركان الحكاية وأزمانها المختلفة، ندور مع هذه الرواية وندوخ في دوائرها الممتعة، ولا نفوق إلا مع الاستدارة الأخيرة، عمل مدهش بعالمه المخلوق من التضاد، بسرد غير اعتيادي يلف ويدور كما تدور الرواية.
مُتعبة هي القراءة لأحمد الزمام؛ لأنها دائمًا تأتي مغايرة عن كل عادة! ولعله اختار الاستدارة الأخيرة في العنوان لمعرفته المسبقة أن مسارالقارئ بها سيكون دائرياً لا ينتهي… فيتوه، وكلما ظن أنه سيتمكن منه ومن مقاصده، تهاه معه أكثر فأكثر…
شخوص بلا أسماء، وأحداث لأزمنة متداخلة…تدخلها فارغًا وتخرج منها ممتلىء بالعديد من الأسئلة ذات النهايات المفتوحة، التي تعرفأثرها بك من واقع الفراغ الذي تخلفه بعدها..…
رواية مختلفة لقارئ مختلف.
ماذا بعد القراءة ؟ لا يضرك الجهل متى ما احترمته! وتضرك المعرفة بلا شك متى ما ادعيتها.
"كان يا ما كان" كان هناك مملكة تحكمها النساء بكل ما أوتين من قوة وسلطة مُطلقة، وكان الرجال فيها عاجزين على هامش الحياة. تسير هذه المملكة بواقعها الوحشي في دهاليز مظلمة بمستقبل معدوم.
تدور رحى هذه الحكاية الملحمية القائمة على الصراع الضروس بين الرجل والمرأة ومدى خطورة هذا الصراع على كافة المستويات التكوينية و النفسية والجسدية والاجتماعية والسياسية ولا تتوقف. في الحكاية جمع من الحكايات والتساؤلات التي تدور حول الاستدارة الأخيرة.. حكاية الكاتب الذي يسعى للمعرفة والحقيقة عبر التاريخ وحكاية الملك ودوره الجوهري في المملكة وحكاية الملكة الرئيسية وحكاية العجوز النبيل الذي يُعتبر الجسر لكل الحكايات وحكاية داخل حكاية داخل حكاية داخل حكاية.
متعة ومهارة لملمة الحكاية من أطرافها بتتابع غير منتظم ويؤدي إلى صورة نهائية في قمة البراعة، وكأن القارئ يقوم بتركيب أجزاء من قطع الفُسَيْفِسَاء ومن يقرأ للزمام سيَعَّي ما أقصد تماماً ، و اللافت في هذا العمل هو محاولة الخروج من جميع القوالب المكانية والزمانية والمسميات فالرواية برمتها تستند على الأفكار والمكنونات الداخلية للنفس فشخوصها جميعهم عبارة عن صفات مجردة ما عدا اسم العلم (لورا) والذي يحمل رمزيّة الأنوثة والنقاء والصفاء والاعتدال.
من الوصوف البديعة في نهاية الرواية والتي قد يشعر بها القارئ ايضاً اثناء القراءة، وصف الكاتب حاله "لقد أصبت بإرهاق شديد، ويخُيَّلُ إليَّ أنّني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفكُّ تدور بلا توقُّف، مقاومًا السقوط إلى نهاية الحياة"
ويبقى السؤال ... ماذا لو تحوّلت السلطة الذكورية، التي لم نعرف غيرها في عالمنا ،بكل تفاصيلها وتناقضاتها، إلى سلطة أنثوية في عالم أنثوي؟ رواية فلسفية تخيلية تتقاطع فيها الاسطورة بالخيال، مملؤة بالدوائر والتي خُيّل إليّ في مواضع كثيرة بأنها ثقوب سوداء تحاكي الواقع المُتخيل والمشوه بنهاياته الضبابية المُرعبة.
«لم أنتبه، مُنذ البداية، لكوني ولدت من أجل الحكايات الضائعة، كما لو أنّها الحياة حينما تتعلّق بحدث غامض قد فجرها لتتبعثر أشلاء في كل مكان، وعليّ جمعها وحدي»
ما أن تتجاوز الصفحات الأولى حتى تكافؤك الرواية بالدخول إلى عالمها، ستحتار في تصنيفها، ففي هذه الرواية يتماهى الخيال مع الواقع، الفنتازيا مع التاريخ المتخيّل، أو التاريخ البديل. لا يحضرني متى قرأت رواية مثلها. نّص متشّعِب تتوّالد منه الحكايات، حكايات يحمل بطل الرواية هّم تدوينها، وكتابة التاريخ -تاريخ مثل هذا- هي عمّل شاق، ومن هذا الهم الذي تتزايد صعوبته في هذا العالم المتناقض في عوالمه وأزمنته، تنطلق مغامرة شخصية الرواية مجهولة الاسم كما جميع شخصياتها باستثناء شخصية واحدة «لورا». ستأخذك الرواية من زمن لآخر، من زمن العالم فيه يحكمه الرجال، إلى ممالك تعتّلي عرشه سلطّة النساء، ستتماهى معها حين تضعك الرواية داخل هذه الافتراضات، وهذه الاحتمالات، التي لكل واحدة منها صراعاته حين يسعى فيها كل جنس لقمع الآخر، لإلغاء وجوده -ما لم يكن لأغراض بيولوجية أو لغرّض التدوين- ستكون قراءة هذه الرواية فارقة بين جميع قراءاتك، ولن تغادر رواية كهذه ذاكرتك، ستهرول بين صفحاتها، ستركض بين حكاياتها وأزمنتها، حتى يسمح لك بعبورها.. حتى تكمل 360 درجة من الاستدارة الأخيرة.
المشاعر -وإن كانت سيئة- هي حتمًا إنسانية، حيّة. الإنسان ميدان كبير لصراع الخير والشر. لا ينتصر أحدهما على الآخر دائمًا، وفي أحوال كثيرة قد نتوهّم انتصار الخير، مشاعرنا وحدها تحدد ذلك.
الكلمات لها قدرتها الساحرة على التحكم في مصائر الناس؛ إنها تحييهم وتقتلهم، وتعيد إحياءهم من جديد.
الكلمات التي تدفع بنا إلى الحياة هي أبسط ممّا نعتقد ما دامت وُلدت من رحم شعور حقيقيّ، حتمًا ستلازم أرواحنا إلى الأبد.
أن الإجابة التي ندافع عن صحتها لترتاح أنفسنا هي إجابة خاطئة.
اللحظات السعيدة لا شيء يدعوها إلى الذاكرة وحدها تزورني حين أعلق في زحام الآلام. أما اللحظات الحزينة، فماكرة، أنانية، خبيثة، تباغت سعادتي تاركة وراءها ألمًا يظهر في كل الأشياء حولي فور وقوع نظري عليها. وحين يجتاحني ألم قديم أشعر به كأنه ولد للتو، الألم رفيق النهاية.
يقال بأنه يجب التشكيك بكل ماكتبه الرجال حول النساء لأنهم خصم وحَكم في الوقت نفسه.
وعند انتهاء من قراءة الاستدارة الأخيرة للروائي المبدع أحمد الزمام تسأل نفسك: هل آن الأوان أن يحلم النساء بعالم السلطة الخاص بهن وبإخضاع الرجال تحت سيطرتهن، وعلى يد من ؟ على يد صانع حكّاء يدير عجلة الزمان والمكان ويخلق القصص والأساطير بمنتهى الدقة ليضع تاج الحكم فوق رأس امرأة!
كيف سيكون شكل العالم عندما تكشر النساء عن أنيابها ؟ ولا يسمح للرجال بممارسة أدنى حقوقهم دون أخذ الإذن من السلطة النسوية.
رواية مدهشة ابتداء من الشخصيات، واللغة البديعة والحبكة المتمكنة التي تشد انتباهك من الصفحة الأولى إلى الفصل الأخير ومشهد إكتمال الدائرة.
تسير الأحداث بوتيرة متناغمة وبإنسيابية تأسر القارئ، أشبه بملحمة قديمة سطرت قبل مئات سنين، يعتلي فيه الظلم والحرب عرش القوة ، وتدار مملكة النساء وفق قوانين وضعت خصيصاً لرفع مكانتها ودحض شأن الرجل!
كل شيء في هذا العمل قابل للتشكيك ، ابتداء من التاريخ الذي يحمل الزيف بين صفحاته ، وانتهاء بالشخصيات التي يختلط فيه الذكر بالأنثى !
وبغض النظر أيهما يستطيع إدارة العالم بشكل أفضل، فإن السلطة إذا منحت للمرأة أو الرجل، فإن كلاهما يظهر وحشيته بمجرد امتلاكه لها. من هم الأشرار ومن هم الأخيار ، هذا ما لن تعرفه أبداً.
دائماً تكون الحقيقة مؤلمة إذا حاول أحد إظهارها، وهنا ما يظهره الكاتب لنا من المصير المأساوي للإنسان في زمن الحرب والصراع على السلطة وإخفاء الهوية أو دحضها للبقاء على قيد الحياة.
رواية ساخرة، عبقرية ، مكثفة بالرموز والدلالات العميقة، مليئة بالأحداث، بالأسئلة والاستفهامات، احترافية السرد جعلت من ٤٢٤ صفحة كأنها مشاهد قصيرة تحبس أنفاس القارئ تارة وتارة أخرى تدخله في دوامة من التشويق والغموض.
رواية تترك بصمة خالدة في ذاكرة القارئ، تجربة أدبية ممتعة تستحق القراءة والتقدير .
واضعًا على منكبيّه عباءة الحكّاء، ساردًا علينا أكثر القصص براعة وأكثر الأسئلة ارتيابًا. يموج في جنبات العقل فيجيء ويروح مُلقيًا المزيد من الأسئلة والكثير من الأفكار، وفكرة وحيدة يتوهج شُعاعها فتومض قائلة " إن للحكايات سحر .. وللسحر قوى تخرج من بين فكيّ هذا النص ". إنه أحمد الزمام وحده من يقدّر على أن يضع عملًا روائيًا مُكتمل الأركان. شُيد على أرض صُلبة وهذه هي الملكّة التي يكتب بها دومًا الزمام.
إنها مهارة وضاءة تشكلت بفعل الحياة وصقل بها أحمد الاستدارة الأخيرة، الرواية الصالحة لكل مكان وزمان. لأن الاثنين معًا مزيج ممتد لا نهاية له، حتى وإن كان عنوان الرواية الاستدارة الأخيرة. لكنها الحياة فعل مستمر، والزمان مستمر حتى وإن توقف المرء في بقعة جغرافية واحدة فهي تستمر وتمتد حتى يُدرك المرء فجأة إن للمكان خاصية التغيّر المستمر تمامًا كالحكايات فهي تستمر وتستمر، لأن الحياة بالأصل حكاية بدأت مذ أن خلق الله القلم فقال له اكتب. وللحكايات هنا سطوة أساسية فهي تُشكل طفولة المرء وخياله، وتعاطيه مع الحياة. فنحن الذين كبرنا على حكايات كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا سنشعر بهذه الحلاوة وسنفهم على المدى البعيد أن كل الحكايات أساسها المرء نفسه. فقد نسمع حكاية ما ثم نقوم بتخيلها وبعد أن نتخيلّها نُحدث بعضًا من التغييرات التي نُحبها أو نشتهيها حتى وإن كانت خاطئة، فالمرء لديه نزعة اشتهاء الخطأ وحبّه.
الاستدارة الأخيرة نصٌ خرج به الزمام من عباءة الفضيلة والأخلاق، مُتحديًا نفسه تحديًا بالنسبة ليّ أراه عظيمًا وكبيرًا. فقد خالف كل التوقعات عن رواياته السابقة، وهذه نقطة تُحسب له. إذ إنه جعل من قارئه هذه المرة يلّج مملكته الخاصة بشكل عنيف وصادم، حيث لا وجهة للراحة في هذه الرواية. إنها رواية الشقاء، رواية البحث عن أجوبة لتساؤلات لن تنتهي. فكل صفحة تحُيك خيطًا رفيعًا لتساؤل ما. وكل تساؤل يُقحمني شخصيًا في نوع لذيذ من التيه ألا وهو تيه تفكيك وتحليل النص فور التقاطه، وأنا أُحبّ هذا النوع من الروايات، حيث تجعل ذهني في حالة يقظة تُشبه السماء التي تلتقط النجوم لتُعيد تشكيلها.
الاستدارة الأخيرة ليست مجرد صراع بين جنسيّن – أنثى وذكر – بل هي رواية أعمق من ذلك بكثير. ولا أستطيع أن أقف على هذا الصراع فقط ذلك أن الرواية بُنيت على العديد من الصراعات، وهذا الصراع هو أحدها. وربما بهذا الصراع القارئ يُعيد المرء مفهوم فهمه لهويته وجنسه، فهل الرجولة أو الأنوثة جسدية أم نفسية وأيهما يطغى في حين أن كلًا من الجنسين يحمل هرمونات الذكورة والأنوثة في داخله بنسب متفاوتة.
ببراعة الكاتب يُمسك الزمام بالقلم كما يُمسك المُحارب بالسيف، فيُعيدنا لتاريخ قديم ولكنه في فعوله مستمر من قتل، طغيان، سفك دماء، وقانون الغاب الذي يسود العالم. ولطالما كانت خطيئة الإنسان الأولى فوق الأرض هي القتل.. وأينما وجد القتل ظلماً فسدت البقعة التي يسكنها. وتم محَق بركتها. وبفعل استمرار الحياة ونحن نكبر ونكبر نُدرك أن الشرائع قد تُحور وتُغير تماشيًا مع أهواء الناس، طالما كان كمن ( أمن العقاب فأساء الأدب ). لنجد من يستغل سلطته مُحققًا تلك المقولة بأبهى أشكالها واختلاف صنوفها. حينها وربما يكون الموت هو الحياة. لأن السُلطة وضعت بيد من يجعل أهواءه تحكم عوضًا عنه.
ثم لدينا " الأرض امرأة " تشبيه الزمام هنا أكثر من بليغ ففعل الولادة حكّرًا على دور الأنثى والأرض امرأة فهي تُعطي بلا ملل أو كلل وربما هي غريزة الأنثى في جميع المخلوقات فهي من تبدأ الحياة من عندها لتقوم بتوزيعها على بني جنسها وتتوالى الحكاية ويستمر فعل الولادة فهو فعل مستمر. منطلقًا بعد ذلك في الصراع النفسي الذي يعيشه كل من الرواة: الراوي الكاتب ، الرجل النبيل، الملكة. جاعلًا إيانا متبعين خيوط شبكِتها كما لو كانت بيت عنكبوت، بدأه الزمام بالراوي الكاتب وأقحمنا بعدها في الملكة والرجل النبيل. إن هويات الشخوص المجهولة كما رأيتها قد تعني أن كل التاريخ سيكون ذات يوم عن مجهولين، فمن هو الآن معروف سيغدو مجهولًا. فالجهل في زمن ما سيكون فضيلة ومنها ستطلع لنا أجيال لا تعي من المعرفة سوى القشرة من الأمور الحياتية.
مع كتاباتي لهذه المراجعة لا يُمكنني عدم التطرق إلى لورا المرأة الوحيدة في هذا العمل الروائي التي تم تعريفها للقارئ، حيث تم توظيف دورها بأن تُساهم في مساندة الراوي، وتجعله يعبّر عن نفسه برحابة صدر، حتى وإن كان في بعض الأوقات يعمل الراوي على إخفاء أمر ما عنها نجده لاحقًا عند لورا يُفكر بصوتٍ عالٍ، فلورا كانت مرآة عاكسة للراوي عدا نقطتين أو ثلاثة نتلمسها أثناء قراءتنا.
الحبّ يدّين ممدودتين متى ما اكتملت أطواره أخذنا لنقطة الاطمئنان البالغ، وهذا هو الحب الحقيقي، الذي يجعل من المرء شفيفًا أمام الآخر. فأحمد حينما يكتب عن الحبّ لا يُسهب به، بل يختزله في مواقف، أو إيماءات أو حتى نظرات تتبادلها الشخوص فيما بينها، ذلك لأنه الحب الذي يشرح كل شيء.
من يبدأ في الرواية سيتوه قليلًا لكنه سيصل في النهاية لعالم شيّده أحمد. عالم الحكايات سواء صادقة كانت أم كاذبة فالتاريخ عرضة لكليهما. ففي هذا النص لم أجد أحمد الذي يُخاطب قارئه بل كان أحمد الذي يُخاطب العالم أجمعه ففساده طفح وزاد حتى ما عاد يُمكن مداراته أو حتى مُحاولة تجميله. فمنذ البداية ومن العنوان الذي يعكس محتوى النص كاملًا نتساءل عن الحياة بوصفها حلقة تُعيد تكرار الأمور ولكن باختلاف أسماء البشر ووقت تواجدهم، لكن من كان قبلهم ومن كان بعدهم فهم موجودين بتصرفاتهم وما يفعلونه.
الاستدارة الأخيرة عالم روائي مُختلف ومُرهق في تتبعه للقارئ. ولكنه كما قُلت سيصل لمّا يريد أن يقوله الزمام. فما أن أنهيتُ قراءتها شعرتُ كما لو أني خرجتُ من محراب أحمد الزمام المُقدس لأعود لهذا العالم الوضيع.
الإنسان في مركز الصراع حول رواية الاستدارة الأخيرة لـ أحمد الزمام
" لقد أصبت بإرهاق شديد و يخيّل لي أني أركض على أسطوانة التاريخ التي لا تنفك تدور بلا توقف مقاوما السقوط إلى نهاية الحياة " ... الرواية
قدم الأدب العديد من التجارب الإنسانية ، و رفد الكثير من الأفكار ، ليحاكي التحولات و يستجيب للمتغيرات المتسارعة في الواقع ، و تأتي الرواية في طليعة هذه الأعمال التي تمس المتلقي بنحو شديد التأثير ، كلما صدقت مبانيها ، و أُحكم عمرانها .
رواية الاستدارة الأخيرة للكاتب الكويتي أحمد الزمام و الصادرة عن دار ميلاد -رشم – جدل ،رواية تحمل لمتلقيها تجرية إنسانية خالصة خارجة من اعتياد المألوف ، حاملة إنسانها –إنسان العمل – إلى مركز دائرة الصراع الذي يمتد صانعا ارتدادات متزايدة كلما تقدمت الأحداث . إن هذه الرواية البليغة التأثير تحاكي الواقع بنحو مائز من التجريب ، بحيث أنها لا تدلقه بنمطيته ، بل تقدمه – مُرمزا - عبر مستويين ( متناظرين ) ، و دوائر عديدة من الحبكات . كي يكون ذلك التناظر مفتاحا لفهم الرواية – و بؤرة لدلالات المعنى ، و كي تقول الرواية لقارئها : الحكم الأخير لك ، لتقرر -بعد تلقي العمل – أن تدين أي جهة أو تقبل بأي جهة ، أو تقف مع إنسان الرواية في مركز الدائرة تماما- في المنتصف بلا تطرف - مقيدا بالأسئلة .
-التناظر و الصراع : تقوم الرواية على صراع دائر بين سلطتين :الذكر و الأنثى ، و قبل أن نسم هذا الصراع بالطبيعي ، سنجد أن الرواية ترسمه بنحو مفجع ، قائم على : تهميش و امتهان و استضعاف كل طرف لآخر ، مما يجعل المهاد المكاني متشظ بسلطة طرف و مقموع بقهر طرف آخر في نطاق تبادلي بين السلطتين . وفي تلك الدائرة التي تبدو لا نهاية لها ، تتحرك الأحداث في مملكة – فانتازية – لها قوانينها و تفاصيلها و دستورها و طبقات شعبها ، و كل تلك العجائبية التي تحيل المتلقي لعمل ملحمي فريد من نوعه يُبدي صبرَ الكاتب و عنايته بالنص و تفاصيله .
في تلك الملحمة ، سيظهر جليا أن مملكة الرجل الخارجة من عمق سحيق من التاريخ ، ستناظر تماما مملكة الأنثى في البطش ، و ما بين المستويين المتناظرين العديد من الحبكات المتداخلة التي تحرك النص إلى وجهة يسعى لتوثيقها و إلى رسالة مبطنة لم تأت على ألسنة الشخوص و لم تنكشف في الأحداث غير أنها تتجلى بقوة في المصب الأخير التي تصب فيه جميع المآلات ، لتستمر الدائرة مرة أخرى . و هذا ما يمكن أن نسميه بالوجهة التي يتجه النص إليها ليخاطب المتلقي _إنسان التاريخ _ و يرشده إلى ضرورة فهم الحياة على كونها تكاملا و ليس صراعا .
إن التجارب الدموية التي قامت عليها مملكة الرجل ، لم تردع مبتدأ مملكة الأنثى من سلوك ذات الطريق ، مما صب المملكتين في المؤدى ذاته ، و استمر بشطر المجتمع إلى شطرين : مستبد و مستضعف ، و في قلب تلك الدائرة ظهرت شخصية النص : الفتى الكاتب ، المقدم بلا اسم ، الضاج بأسئلته .
و عادة ما تكون الشخصية هي ذاتا تتماهى مع الذات الجمعية في مجتمعها غير أن بطلنا ظهر في النص مختلفا ، لم يستطع أن يتماهى مع ضعف الرجل – في تلك الحقبة – و لم يقدر أن يستجيب لسلطة المرأة الباطشة بدءً من زوجة أبيه القاسية التي لقبها بالضفدعة إلى الملكة المجهولة ، و لم يستعر الكره الطافح في قلوب الرجال ضد المرأة فمال إلى نهج عمته التي لم تزل تجد أن الرجل كائن محترم يستحق الاحتفاء به ، و خفق قلبه للورا المتزنة . هذه الشخصية التي تعاني أزمة الهوية لا تتكرر نمط المجتمع و لا تدور في تلك الحلقة المتبادلة بل نجدها تستمر بطرح الأسئلة ، و تخوض صراع المعرفة و التجربة عبر الكتابة تارة و لقاء رجل التاريخ تارة أخرى و عبر السفر إلى أزمنة النشأة الأولى لمملكة النساء ، كما أنها – شخصية الفتى الكاتب – تناظر شخصيات عدة ، حاولت التماس مع الذوات الأخرى لخوض مسّ الحقيقة ، عين الحقيقة بتضاريسها و خفاياها .. الحقيقة الغائبة .
-جسر اللغة : لا يقتصر الحديث عن لغة النص على جمالياته و تجانسه مع مهاد الرواية الزماني و المكاني ، بل يمتد إلى اكتشاف كونها محركا فاعلا يدفع بالعمل إلى غاياته . فاللغة في الرواية معيارية ، كأنما كتبت لها ، خاضعة أيضا لسلطة المملكة ، حيث تتضافر ( سردا - وصفا - حوارا ) لتشكل هوية المكان و ارهاصات سكانه . مثلا لا نجد لفظة ( الله ) في العمل مرة واحدة ، مع علمنا أن هذه اللفظة قد تحيل لعدة أفكار ، و قد يستخدمها النص سهوا بغرض الاستحسان أو الرجاء أو الوعيد ؛ لكن ذكاء الناص غيبها تماما ليُظهر خروج تلك المملكة ( عقائديا و معرفيا و ثقافة ) من كل التصورات المألوفة الممكنة و لتكون تلك المملكة عالما يقوم على السرد و يؤول إليه .
كما أن اللغة وظفت توظيفا معطاء في أماكنها في الرواية ، فنجد لغة السرد في المدينة و البيت و أروقة الجامعة تجانس منطلقاتها ، و تختلف عن لغة قرية العجوز بعجائبيتها ، و عن لغة سُعاة البريد و شيخ التاريخ . هذه الرواية و كما قال البطل تشبه الركض في ممرات التاريخ بل تشبه الركض على اسطوانة تستمر بالدحرجة و التقلب فهل يا ترى يواكب إنسان اليوم هذا الركض المستحيل ؟ أم يهوي ؟ أم يملك إرادته البادئة من ذاته الواعية ليوقف ذلك التقلب و يفهم أن التوازن مفتاح الاستمرار .
الاستدارة الأخيرة للمبدع أحمد الزمام، رواية فنتازيا تضعنا في مواجهة تكوين النفس البشريّة بنزعتها الجندريّة على وجه التخصيص. هذه النزعة التي ترتب عليها ظلمٌّ تاريخيّ للمرأة اسمًا وشكلًا ومضمونًا وحتّى وجودًا. تغيّب الأسماء بنسبة كبيرة جدًا في العمل، وكأن من وراء هذا الفعل قصد، وهو التركيز على الفِكرة فالعمل برمّته قائم على الفِكرة التي تبدأ وتتبلور بطريقة تتناقض مع الواقع المعاش، وقائم أيضًا على الرمزْ الذي أتقنَ المؤلف توظيفه لخدمة الفِكرة. في زمنٍ افتراضيْ تسير أحداث الرواية ضمن أكثر من خطٍّ سردي بشكلٍ متوازٍ، ينقلنا بطل العمل وهو الراوي الشغوف بالتاريخ والحكايات إلى أكثرِ من زاوية تطلّ على كينونة الأنثى. الأنثى المنقذة، الرفيقة، المتسلّطة، الحاكمة، الحكيمة، المظلومة، القاتلة والقتيلة. لورا رفيقة الراوي الوحيدة في العمل التي تمّ منحها اسمًا واضحًا وصريحًا على طولِ خطِ سير العمل، وكأنَّ في ذلك إشارة إلى أنَّ المرآة معلومة وما عداها مجهول إلى أن يثبت العكس. قراءة هذه الرواية المليئة بالأحداث الملحميّة الواقعيّة المغلّفة بالفنتازيا هو عمل مهمٌّ بحدِّ ذاتهِ لأنَّ هذه القراءة ستعيد تشكيل لو جزءًا يسيرًا من وعينا بالتاريخ وحكاياته وصحّة تدوينه من عدمها. أعجز حقيقية عن وصف طاقة العمل العجيبة التي وصلت إليَّ بعد أن أنهيت قراءته إنّها طاقة أشبه بالسِّحر، جعلتني بعد أن كنت محصورة بالتفكير بأنَّ الحريّة حقّ للمرأة فقط أن أطالب بها للرجل.
رواية أضعها في خانة الأرقام الصعبة تحتاج إلى قارئ متمرّس يبحث من خلال فعل القراءة عن رسالة تضيف له ولو القليل من الوعي والإدراك.
رواية رائعة جداً استمتعت بقراءتها. فهي رواية الحكايات وعالم الحكائين، فالإنسان كائن حكّاء يهوى القصص والحكايات. جاء السرد في 424صفحة جعلنا نتعرف على عوالم شيقة وأزمنة وآراء وأفكار جديدة كتبها الأستاذ أحمد بأسلوب رشيق ومتناغم خارج عن المألوف.
فكرة مكررة في الروايات والأفلام لا جديد هنا لا عمق لا إبداع لا ابتكار سلطة المرأة وانقلاب الأدوار فكرة مستهلكة ولكن ما يزيد من سوأ الرواية السطحية الواضحة في الأفكار والجمل الإنشائية.