كبر الفراغ في قلبي فأوجعني وأوجعتني خيبتي، خيبة من ظن أنه وَجَدَ ثم أدرك أنه ضيع ما وجد. هل كنت أحلم؟ أكان كابوسًا؟ أركض في السوق من زقاق إلى آخر ولا أصل؟ سقطت عيني على قدميَّ المغبرتين، قدميَّ اللتين تركضان ولا تصلان إليه، شعرت بألم ركضهما الحافي، أين سقط نعلاي؟ أطلت النظر إليهما، تذكَّرتُ لمَّا كان حصى الوادي يحرق باطن قدمي فيُقْطِر أبي الزيت في كفه ويدهنهما به، لم يكن الألم يزول مرة واحدة، بل يتلاشى مع الوقت وهو يغني لي ثم أتبعه في الغناء، من منا كان يغني للآخر؟
بشرى خلفان كاتبة قصة وروائية من سلطنة عمان صدر لها رفرفة - مجموعة قصصية غبار- نصوص صائد الفراشات الحزين- مجموعة قصصية مظلة الحب والضحك- نصوص حبيب رمان - مجموعة قصصية الباغ- رواية مديرة مختبر السرديات العماني كتبت المقال الاسبوعي في جريدتي الوطن العمانية والرؤية.
كعادة بشرى خلفان، تبهرنا بالتفاصيل، بالشخوص وبالإماكن ! تقرأ وكأنك واحد منهم، تتعاطف معهم، و تحس بجوعهم و قهرهم. - جاءت الرواية مكملة للجزء الأول، دلشاد سيرة الجوع والشبع. لا تفصّل بشرى عن الحقبة الزمنية بالضبط، ولكن من السرد تستطيع أن تحدد إنها من فترة الثلاثينيات إلى الخمسينيات تقريبًا ؟ -
عتبي أن بداية الرواية كانت الأحداث تسير بروية، ولكن في النهاية كانت الأحداث متسارعة جدًا ! - الرواية جاءت على ألسنة عدة شخصيات، يحكون الموقف نفسه من زاوية مختلفة، أحبب التنقل بين الشخصيات وبين الأحداث. -
"… أولاد الحمرا يريدونا نحميهم ونحارب عنهم، لكنهم ما يريدوا حتى يجاورونا، شوف هين هم وهين نحن، حتى خيامهم بيضاء مثل وجوههم ونحن خيامنا كما وجوهنا غبرا."
أنهيت العمل بتساؤل: هل هناك ما أرادت الكاتبة قوله حقاً في هذا الجزء؟ أم أنها "ابتلشت" فيه وجاء استمراراً لأحداث لا تستحق أن يُفرد لها جزء كامل، كان يمكن أن تطيل الكاتبة عملها الأساسي لتُضمن هذه الأحداث، فهي لم تقدم أي جديد ولم تنجح في الحفاظ على دهشة القارئ وجذبه لإكمال العمل.
حتى أن الأحداث (القليلة) نفسها كانت مخيبة، دراما ونكد وغمّ، ليس هناك أي نهاية سعيدة لأي قصة! لماذا علقتنا بعلاقة "كان يمكن أن تحدث" بين نظام رسلان وبين مريم دلشاد ثم في شخطة قلم بددتها؟ لماذا تركتنا على أمل أن يلقى دلشاد ابنته ثم على طريقة الأفلام الهندية جعلته يموت عند باب منزلها؟
للأسف هذا الجزء هو تكملة باهتة للجزء الأول، لكن رغم ذلك سأبقى حريصة على قراءة أي أعمال جديدة للكاتبة التي أعتبرها أحد الأصوات الروائية الخليجية الفذّة.
بعد قراءتي للجزء الأول من “دلشاد”، كان حماسي كبيرًا للجزء الثاني “سيرة الدم والذهب”. الرواية حملت نفس الروح الجميلة، بأسلوب سردي ممتع ولغة غنية كالعادة مع بشرى خلفان. غير أن النهاية لم ترتقِ إلى مستوى الأحداث التي بنيت طوال الرواية، شعرت أنها كانت سريعة ومفتوحة بشكل محبط بعض الشيء.
الرواية جاءت كدهشة عميقة ، كعمل مكمل ، يثير الكثير من التساؤلت ، هل كانت كل شخصية في الرواية هي لهفتنا وشوقنا وفقدنا ! هل كل هذا البعد يشفى باللقاء ! قرأت هذه الرواية؛ وأنا مابين مشاعر مضطربة، تارة أبتسم، وتارة أحزن وتارة أضحك ، ماذا فعلتِ بنا يا بشرى لنقرأ بتلهف ، ندور في حارات مسقط كلها ، نتأمل مطرح وجمالها ، نشعر بطعم البحر وملوحته، نتأمل سردكِ الذي لا يملَ، وكل الشخصيات تدور في أمكنتها ، نطلق زفرة هنا وهناك ، نبكي على كل شخصية، ، من قال إن الأدب لا يحرك فينا، وهنا أنا المتلهفة لعودة الشخصيات ، كل هذا السرد التاريخي البسيط الذي يأخذنا مع كل هموم هذه الشخصيات ، لا أريد إلا قول أنني كُنت في أوج فرحتي بهذه الرواية .
مازالت تعجبني لغة أهل مسقط كان مريم بنت دلشاد هي بطلة هذا الجزء ، عانت من الفقدان الأب ، والزوج ، وكل شيء أحبته. كانت مريم سند لحسن وفاطمة في مطروح. أما فريدة كانت العنصر المبهج في بيت مريم ، لم تعجبني قسوتها على أمها. أما شنون فظلمته أمه وأهل مطروح
رواية اجتماعية مع بعض الأحداث التاريخية التي ذكرت بشكل طفيف ..تتطرق فيها الكاتبة لمرحلة البحث عن النفط وبداية انحسار الظلام عن المجتمعات المسحوقة تحت وطأة الفقر والجهل ...كثرة التفاصيل والحشو وزحمة الشخوص افقدت الرواية مغزاها وكست فكرتها بالضبابيه.. للأسف لم تكن بمستوى دلشاد الجزء الاول..
كتب بشرى لذيذة، تبدأ بالقراءة فتجد نفسك غرقت فيها. أحب وصف بشرى لمسقط ومطرح والحارات فيها، أحب أنه الكتاب من منظور شخصيات مختلفة بس كلهم يربطهم شخص؛ مريم. حزنت على شنون وتمنيت له نهاية أفضل. شوي ما حبيت نهاية الكتاب.
"الجهل أشدّ الضعف"، و"أنتم بحاجة إلى ما تبكون عليه، لا إلى ما يخيفكم". هاتان العبارتان تصلحان مدخلًا لقراءة رواية دلشاد بجزئيها، لما تحملانه من روح النص. اقرأ لتعرف تاريخك، ولتميّز عدوك من أخيك، ولترى كيف تُصاغ الحياة في هامش المدينة أكثر مما تُكتب في دفاتر المؤرخين. تبدأ الحكاية برضاعة طفل عربي من امرأة بلوشية لا تمتّ له بصلة، ويُمنح اسمًا غير عربي: دلشاد. يكبر الطفل في مفترق الوادي بلا تحيز، فلا يرى فرقًا بين العربي وسائر الأعراق، إذ يوحّدهم الجوع الذي يصبح هوية تُعرف بخواء البطن وقلة الحيلة. تسرد بشرى خلفان تاريخ مسقط في زمن الحرب العالمية الثانية، وتستحضر مزيج سكانها من العرب والبلوش والزدجال واللوغان والبانيان والهنود واللواتيا، فتستعيد تفاصيل الموروث العماني من طقوس التجارة والإبحار إلى أعراس الزفاف والمآتم مانحة هذه التفاصيل حياة تنبض بالبساطة والمفارقات. وفي ثنايا الحكاية، تلتقط الكاتبة التحولات السياسية والعلاقات الملتبسة بين السلطان والإنجليز وشيوخ القبائل، وتكشف عن التفاوت الطبقي بين فقراء يتوارثون الجوع وأغنياء يثملون بالشبع. حتى اللغة نفسها تتأثر، إذ يختصرها الفقر في أوصاف لا تبلغ الإيجاب إلا بالشبه: "يشبه الفرح"، "يشبه الشبع"، ولا شيء مكتملًا، وكأن الحاجة تنخر الكلام كما تنخر الجسد. وفي قلب هذه الصورة، تلمس الرواية ذلك الخط الرفيع الفاصل بين الجوع والعبودية. الدين في الرواية ليس يقينًا روحانيًا بقدر ما هو طقس اجتماعي، فالشخصيات تكرر الحركات والأقوال بلا فهم، ويغيب الوعي الإيماني رغم حضور المظاهر. ومع ذلك، تعرض الرواية ديانات أخرى كدين البانيان وأتباع الناصرية في "بيت البادري"، كما تعرض تعددية المجتمع دون حكم، لتكشف عن مفارقة: الناس لا يرتبطون بالدين بوعي روحي، لكنهم يخشون العمل لدى "البادري" لئلا يُقال إنهم تركوا دينهم. القول هو الذي يحركهم، لا الإيمان، وحتى التساؤلات عن الله لا تأتي إلا دفعًا من الجوع وقلة الحيلة. ولأن الرواية مشبعة بروح المكان، كان من التحديات التي واجهتها كقارئة تعدد الكلمات والأغاني غير العربية، ما اضطرني إلى الرجوع إلى من يفسرها، لكنها تضيف إلى النص طابعًا محليًا لا يمكن الاستغناء عنه. دلشاد في الرواية يتيم فقير، "القلب السعيد" لم يعرف السعادة يومًا، يضحك في وجه الألم والجوع، وكلما ارتفع صوته بالضحك، اتسع قلبه وتجاوز وجعه. لكنه يغيب عن معظم فصول الرواية بعد الثلث الأول، ومع ذلك يظل حاضرًا ممتدا في الشخصيات والأحداث. اختياره عنوانًا للرواية ليس لأنه العتبة الأولى للجوع، والنقطة التي تتفرع منها كل الحكايات. ومن هنا تُكتب الرواية لا بما هو حاضر، بل بما هو غائب، إذ تصنع الكاتبة المعنى من الخواء، وتحمل الغياب رمزية تفوق الحضور نفسه. اليُتم هو الشكل الأول لهذا الغياب؛ أم دلشاد، رغم وجودها الجسدي في البداية، وأم مريم ماتت أثناء ولادتها فأرضعتها نساء من مختلف الأعراق، لتصبح ابنة الجميع وغريبة عن الجميع في الوقت نفسه، وأم ناصر التي ما عرِف اسمها. وكذا الحال مع الآباء كغياب اب دلشاد المجهول، ثم فراق دلشاد وابنته وغياب أب لوماه. وكأن العائلة في هذا العالم معطّلة، مجتزأة، تعكس مجتمعًا ينهشه الجوع والطمع. ومع ذلك، تفرّق الكاتبة بين الغياب والنسيان، بين الفقد الذي يهوي فجأة، والتعوّد الذي يطمس الأشياء حتى تغدو غير مرئية مؤقتًا، وتترك في المسافة بينهما رمادية. في هذا السياق، يصبح الجوع خيطًا آخر يربط الحكاية، لكنه جوع يتجاوز المعدة إلى القلب والروح. مريم تجوع لحضن أبيها، وفردوس تتضور إلى لمسة حب، فيتنوع الجوع باختلاف الطبقة، وهذا الجوع كما تقول مريم " يبقى في الدم مثل مرض، ولا يمكن لأي شبع بعده أن يشفيه منه". ليست دلشاد رواية حدث، بل رواية حياة. عمل بحثي جريء ودقيق يرسم تفاصيل الزمان والمكان والعقل الجمعي، ويتقاطع مع التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. أسلوب بشرى خلفان يقترب من الواقعية النفسية، إذ لا تكتفي بوصف الخارج، بل تنفذ إلى الحلم والذاكرة واللاوعي، وتترك الشخصيات تدور في دوائرها الخاصة، حيث لا أحكام جاهزة ولا خطوط فاصلة. هذا المزج بين التحليل النفسي والواقعية يذكّر بهنري جيمس ودوستويفسكي. ورغم أن جلّ الأحداث تدور في مسقط، تكسر الكاتبة المركزية لتأخذنا إلى صحم والسيب وقطر والهند، وإلى البحر والجبال، وتجعل من الطبيعة كائن متفاعل آخر؛ فالبحر والريح والجبل والمقبرة والرمل تعكس مشاعر الشخصيات وتتحرك بإيقاعها. "نحن قدامى جوعى مسقط، نعرف الجوع جيدًا ونفهمه، لكن لا أظن أننا سنفهم الشبع أبدًا." كنت خائفة من إغلاق الصفحة الأخيرة، لئلا أخرج من عالم الرواية، لكنني حين استسلمت وأغلقتها، وجدت الشخصيات كلها معي، تتحرك في واقعي المسقطي.
This entire review has been hidden because of spoilers.
بعد ثلاث سنوات من قراءة الجزء الأول #دلشاد: سيرة الجوع والشبع، أعدتُ قراءته مجددًا، وإذا بالمتعة كما هي، بل أعمق وأشد وقعًا. وكأن الحكاية لم تغب عني قط. ثم انتقلت للجزء الثاني دلشاد: سيرة الدم والذهب، وأنا أحمل في قلبي حبًا لشخصيات بشرى خلفان وفضولًا لمعرفة ما آل إليه مصيرهم.. وإذا بي أُفتتن مجددًا!
بشرى، أو كما أحببت أن أُسميها: شهرزاد مسقط، لا تكتب رواية، بل تسرد الحياة بكل تفاصيلها، ومآسيها، وضحكاتها الخفيفة التي تسبق الدموع. تمتلك قدرة نادرة على أن تجعل صوت كل شخصية حيًّا، كأنك تسمعه بلهجته الخاصة، تراه ينطق، يتحرك، يتنفس. الشخصيات حقيقية لدرجة مُربكة. تفهمها جيدًا، وربما تعرف حتى ردود أفعالها.. تكرهها، تُحبّها، تُعاتبها، تعذرها، وتتفهم دوافعها حتى وإن لم تتفق معها.
وما أدهشني، أنها رغم أني شعرت بأن ما كتبته في الجزء الثاني لم يكن حاضرًا في ذهنها بالضرورة أثناء كتابة الجزء الأول، إلا أنها ربطت الحكايات ببراعة، وأعادت إحياء شخصيات هامشية؛ كشاهد زواج عبد اللطيف لوماه ومريم دلشاد، وجعلت منه شخصية محورية دون أن تُشعر القارئ بأي افتعال.
لكن – بالنسبة لي – فقد شعرت أن الجزء الأول حمل فلسفة الجوع بعمق أكبر من وضوح فلسفة "الدم والذهب" في الجزء الثاني أو أني لم ألتقطها جيدًا، كنت مشغولة بالأحداث والشخصيات الكثيرة. وربما لأن بشرى بدأت الرواية بعبارة ثقيلة: "وما الشبع إلا وهم"..
وكأن الذهب هنا مرادفٌ للفقد، والدم هو الثمن المدفوع في الطريق إليه. في هذا الجزء، كان الثمن باهظًا: تضحيات، وموت، وخسارات، وخيبات أمل، وانكسارات لا تحصى.
وبين مشهد يضحكني ومشهد يبكيني، كانت الرواية تمضي بي كأنني أعيشها لا أقرأها.
يا بشرى، ماذا فعلتِ بي؟ قلمك يدهشني ويصالحني مع قسوة الحياة ويجعلني أتأمل كل شيء حولي بنظرة مختلفة.
#دلشاد رواية أحببتها، ولا مانع من أن أعود لها مرة أخرى. قلم بشرى خلفان.. يعجبني وأحبه، على الرغم من كل شيء.
بالمناسبة أعجبني أن غلاف الجزء الأول باهت الألوان يتناسب مع الجوع وافتقاد كل شيء لمعناه وعمقه وكأن الغلاف كذلك يفتقد لعمق الألوان؛ ووضوح الاختلاف بينه وبين غلاف الجزء الثاني..
#دلشاد ليست حكاية رجل واحد، بل هي مرآة لكل من عبروا أزمنة الجوع والدم والذهب.. وكل من نجوا بالحكاية فقط
ما الذي تريد بُشرى ايصَاله من هذهِ الجزئية من روَاية دلشاد؟ شَبع البطن لا يتبعه شَبع الروح كما يَظُن البعض! الأمَل خَيط رَقيق يتأرجَح امامنا دائمًا رُغم ضئالة نسبة وجوده! الذَهب والدَم؛ كُل ما هوَ غالِي لا يَتم الحصول عليهِ بسهولة، وبقاءه يتطلّب الكَثير، وخسارته دون ادنى شَك فادِحة.
دِلشاد، لا زَال يتجرّع مرَارة قراره، رُغم النَدَم. رَكض في كُل الأنحاء ولَم يَصل الى يديّ مَريم؛ قَد تكون هذهِ الحقيقة مرّة بالنسبة لبَعض القرّاء ولكن من منظوري أنا، هذهِ نَتيجة مُستحقّة، وعادِلة له. ضَريبَة التخلّي لا بُد ان تَكون مُكلفة، وهذا ما تمّت ملاحظته ايضًا في تخلّي مَريم عن فريدة، او فريدة عَن مَريم! وكُلما كانت درجة التخلّي أخَف كانت عواقبه أهوَن.
وجود مناطق جَديدة في هذا الجزء اضاف مُتعة ظاهِرة، وتَشويق للقارئ، وخَلفية اوضَح عَن شكل الحياة قي تلك الفترة. الشخصيات، وسلاسة الترابط بينها كُتب وسُطّر بذَكاء -ب استثناء شخصية واحِدة-، لَم يَظهُر عناء الكاتبة في الرَبط، كُل التفاصيل تماشَت بهدوء مع الأحدَاث والمشاعر والمَنطق.
الى نَهاية الرواية يوجد تساؤل واحِد، ما سَبب وجود نظام أحمد رسلان! هل ارادت بُشرى أن توضّح من خلاله كَيف لعب الدَم في تلك الفَترة دورًا مُهمًا! وما قِصّة ارتباطه بمَريم! شَعرت في النهاية، أنّه لا توجد رابِطة فعليّة بعَقل الكاتِبة، غَير أنها لَم تكُن تُريد أن تكون احدى الشَخصيات منفردة كليًا ولا تَمّت لمَريم -بطلة الرواية- بصلَة. وكأن الرابطة بينهم وهميّة فقَط لإشبَاع فضول القارئ!
المُفردَات المُختارة والسَرد، رائع، لا تفشل بُشرى بشدّ انتباهك، وهنا تَظهر شَطارة الكاتِب، متى تَجعل القارئ يتوقّف عن القراءة، وكيف تدعوه للإبحار بكلماتك دون توقّف حتى النهاية. دخول المُصطلحات العُمانيّة بَحت، لا يُشعرك بالغُربة، عَلى العكس؛ مما ساعد أن تَصل روح الرواية بصورة نَقيّة وحقيقيّة للقارئ دون شوائب.
غُلاف الكِتاب، آهه، مُبهر مُبهر، في كُل مرّة تقع عينَاي عليه؛ يشدّني، اختيار موفّق جدًا وذَكِي.
بعدَ انتظارٍ طال، ها قد رأى الجزءُ الثاني النور، وأصبح بين يديّ.
ما إن شرعتُ في قراءته، حتى باغتتني شخصيّاتٌ جديدة، لم تكن واحدةً أو اثنتين، بل طيفًا واسعًا من الوجوه والأسماء. أربكني هذا التدفّق المفاجئ، فتملّكني شيءٌ من التوجّس، وتساءلت: أهو امتدادٌ فعليٌّ للجزءِ الأول؟ أم وُضِعتُ على عتبةِ حكايةٍ أخرى؟ لكن، بعد طَيّ الصفحةِ تِلوَ الأخرى، يَلتحم كلُّ شيءٍ ببعضه، وتتّضح الصورة، وتترابط الأحداث، وينتقل السردُ من وتيرةٍ بطيئةٍ إلى وتيرةٍ سريعة.
كعادةِ بُشرى خَلْفان، قلمُها يجعلني أغفر لأمورٍ كثيرة، فأتغاضى عنها كأنّي لا أراها، فأغُضُّ بصري، وأُلجم فضولي عن مواطنَ رجوتُ لها تفصيلًا، وما وجدت.
النهاية… أحبطتني؛ لم أتمنَّ نهايةً كهذه، ولم أتخيّلْها! غير واضحة، وشبه مفتوحة. طَوالَ طَيّي لهذه الصفحات، كنتُ أترقّب اللقاء… ولكنّها الحياة، تلك التي لا تجيءُ على مقاسِ الرجاء.
الجزء الثاني من رواية دلشاد للكاتبة المبدعة بشرى خلفان وهو لا يقل روعة عن الجزء الأول تدور أحداث الرواية بعد الحرب العالمية الثانية وبداية اكتشاف النفط في دول الخليج وتحسن الاحوال الاقتصادية في المنطقة وتنجح الكاتبة مرة اخرى فى وصف الأماكن والأشخاص في ذلك الزمان وان يعيش القارئ ذلك الزمان في انتظار الجزء الثالث
الكتاب الأول من العام 2025 دلشاد: سيرة الدم والذهب الكاتبة: بشرى خلفان ""كبر الفراغ في قلبي فأوجعني وأوجعتني خيبتي، خيبة من ظن أنه وَجَدَ ثم أدرك أنه ضيع ما وجد. هل كنت أحلم؟ أكان كابوسًا؟ أركض في السوق من زقاق إلى آخر ولا أصل؟ سقطت عيني على قدميَّ المغبرتين، قدميَّ اللتين تركضان ولا تصلان إليه، شعرت بألم ركضهما الحافي، أين سقط نعلاي؟
أطلت النظر إليهما، تذكَّرتُ لمَّا كان حصى الوادي يحرق باطن قدمي فيُقْطِر أبي الزيت في كفه ويدهنهما به، لم يكن الألم يزول مرة واحدة، بل يتلاشى مع الوقت وهو يغني لي ثم أتبعه في الغناء، من منا كان يغني للآخر""
ألجوع "هو حالة تصيب الجسم تشعره بالضعف بالعجز بسبب عدم الحصول على امدادات الطعام والسعرات الحرارية الكافة"، ونستطيع القول ان الجوع يعني هدما كبيرا لهرم ما سلو للأمن بدرجاته الخمس حيث يقودنا الى الأمان والاستقرار النفسي والتفكير بالرفاهية لكننا هنا نواجه ونحاول الصمود فالفقر لعين والجوع مذل والتقسيم لم يتغير بين الشبع للأغنياء والجوع للفقراء وهذا ما فهمناه في الجزء الأول جزء الجوع "، أي أن الحواري الثلاث ودلشاد ومريم وفريدة وماما حليمة والأشخاص الجدد التي رسمتها الروائية "بشرى خلفان" بكل مهارة واقتدار في الرواية كانت كلها صورًا مختلفة للجوع، على اختلاف الزمان والأماكن بل وطبقة المجتمع التي تناولتها. وهو ما يمنح شعورًا آخر بالترقب لما ستكون عليه البنية والتفاصيل في الجزء التالي الذي يحمل عنوان "الشبع"!
في جزئها الثاني (دلشاد.. سيرة الدم والذهب) والصادرة عن دار طباق بنسختها الفلسطينية ودار تكوين بنسختها العربية تعود بشرى خلفان إلى رصد وتصوير حياة البسطاء والمهمشين في بلدها عمان، جنبًا إلى جنبٍ مع الأغنياء والموسرين، ذلك أن الجوع لا يبدو _ كما قد يتبادر إلى الذهن، لاسيما مع الفصول الأولى من الرواية _ مرتبطًا بعالم الفقراء وحدهم، ولكن ثمة جوع مختلف، ربما يكون أشد قسوة وعنفًا يلتهم كبار الأغنياء والتجار بغير رأفة!
تنتقل بنا الرواية عبر ثلاث مناطق/ حارات مختلفة في مسقط بين "لوغان" و"ولجات" و"حارة الشمال"، وترصد من خلال انتقال أبطال الرواية بين تلك المناطق وغيرها حال عمان وحياة أهلها في الربع الأول من القرن العشرين، وكيف كان أثر الحماية البريطانية على أرضها، وكيف جاء أثر الحرب العالمية عليهم، نتعرف في البداية على "دلشاد" ذلك الاسم الذي يثير حيرة القارئ لمعرفه معناه وهو الاسم الفارسي الذي منحته أم دلشاد له ويعني "الضاحك" ليواجه به قسوة الحياة، ولكن حياته لم تتسم بالسرور والضحك ولكن جاءت المفارقة أنه أصبح يضحك ويزداد صوت ضحكاته في أقسى المواقف والأزمات التي يتعرض لها!
في الجزء الأول نسير مع دلشاد الذي رغم شظف الحياة وقسوتها إلا أن دلشاد يتمكن من الزواج بامرأةٍ من البلوش ولكنها سرعان ما توافيها المنية بعد ولادتها لابنتها "مريم" ويتولى هو هم ومسؤولية تربية البنت والقيام على مصالحها حتى يشتد عودها فيضطر إلى أن يتركها في أحد بيوت "ولجات" حيث يمكنها أن تحد قوت يومها وتحظى بمكانةٍ لا تقلل من شأنها في "بيت لوماه"، وهناك يقع في غرامها سيد البيت "عبد اللطيف" فتنتقل حياتها نقلة نوعية إلى حياة الدعة والرخاء، إلا أن الأمر لا يستقر لا بمريم ولا بدلشاد أو عبد اللطيف، فسرعان ما تتقلب بهم الأحوال وتتغيّر، فبينما يهاجر دلشاد مسقط كلها بحثًا عن لقمة عيش سرعان ما تنقض الحرب أوصال "بيت لوماه" لتخرج مريم وابنتها فريدة باحثين عن فرصة أخرى للحياة في حارة الشمال.
في الجزء الثاني نذهب مع مريم وفريدة فهنا لا نتحدث كثير عن سيرة الجوع والشبع الخاص بدلشاد وحده ولكن سرعان ما يتكشف له الأمر بين فصول الرواية القصيرة المحكمة، أن الرواية تحكي عن أبطالهم كلهم، والتي يحمل كل فصلٍ منها صوت أحد رواتها، بل يبرز بينهم صوت "مريم" ابنة دلشاد بشكلٍ خاص، تبدو هي فيه وكأنها بطلة العمل بلا منازع، ولكن يحضر باقي أبطال العمل ويعبرون عن أنفسهم بوضوح، فتغدو الرواية هنا لتنقلنا الى الواقع يروي كل شخص من جهته ما يراه وما يحدث له، وكيف يواجه الحياة، سواء كان فقيرًا معدمًا أو تاجرًا غنيًا، وتكمن البراعة في تمثل كل شخصيةٍ من شخصيات الرواية في طبقاتها المختلفة رجالاً ونساءً وقدرة الكاتبة على التعبير عنهم بواقعية شديدة، ثم حياة تنشأ وصعاب وصراعات تحيط بالجميع، وبين هذا وذاك نتعرّف على طرفٍ عزيز من تاريخ الوطن العربي من خلال حياة أهل عمان، عاداتهم وتقاليدهم، وكيف واجهوا ظروف الحياة الصعبة، وتغلبوا عليها.
وعد الحب الذي ينشأ.. ولا يزول (عندما عدت إلى مسقط، كانت لهفتي عليها أكثر من لهفتي على البيت، وبالتأكيد كانت أكثر من لهفتي على أختي، وعندما وجدت أن البنت التي كانت قد بدأت بترك طفولتها قبل أن أغادر، قد تبدلت وطالت، ولمعت بشرتها واحمرَّت وجنتاها، واستدارت ثمارها خفق لها قلبي بشدة، وعندما قبَّلت كفي وهي تسلم علي، اجتاحتني شهوة جاهدت كي لا تظهر علاماتها عليَّ كنت أراقب حركاتها، وضحكاتها، وبريق الذكاء في عينيها، وشفتيها الواعدتين بالسكر، فعرفت أني أريدها كما لم أُرِد أحدًا من النساء) رغم ظروف الحياة الصعبة وما يقاسيه أهل مسقط من مآسي الجوع والفقر، يحضر الحب في حياتهم أكثر من مرة، وتخفق قلوبهم، ويتناولون في حكاياتهم قصص أهل العشق والغرام، يحضر الحب لا في الحكايات فحسب، بل بين أبطال الرواية مرهفًا وشاعريًا وجميلاً، يعبّر عبد اللطيف بصوته وحكايته عن ولعه بمريم منذ دخلت بيتهم، وتصوّر الكاتبة ببراعة حيرة البراءة عند مريم التي لم تكن تعرف في الحياة أبعد من ما تقيم به حياتها، وبعدهم بأعوامٍ نجد الجيل التالي الذي تمثله فريدة وقاسم، الذي نتتبع خيوط حكايتهم، وما يحدث بينهم من صد ورد، حتى تكون تلك الحكاية مسك الختام للرواية.
يأتي الجوع في الرواية بأشكال عدّة، أجلاها الجوع إلى الطعام والشراب، وأعمقها الجوع إلى الأمان، فكما حمل الجوع عدم الأمان حمل الشبع أيضا عدم الأمان ربما نصيبنا نحن الا نشعر بالأمان في حالات الجوع او حالات الشبع.
ربما استغرب ربط الكاتبة الجوع بالشيع والدم بالذهب فهنا لخصت الكاتبة عمان بكل جوانبها جوانب الفقراء جوانب البناء والقهر والبلوش والبدو وابدون والبشر وما بين هذين هناك جوع إلى الحب، وجوع إلى الأهل، وجوع إلى السفر، وجوع إلى الولد، وجوع إلى النساء، وجوع إلى العِلم، وجوع إلى الفرح. فراغ كبير يستوطن جوف الإنسان: بطنه، قلبه، روحه، عقله، نفسه. ما إن يشبع من جوع منها حتى يداهمه جوع آخر، في متوالية من الجوع والشبع يحضر أحدهما في شيء ويغيب الآخر ليطل برأسه في موضع جديد. يقول دلشاد: «كنت قد بدأت أشبع وأنا آكل مع البحارة، أما الأكل مع الشيخ وابنه فقد أعادني إلى الجوع، ولكن ليس ذلك الجوع الذي ينهش البطن، بل الجوع الذي يأكل القلب»
وفي ملاحظة عبّرت عنها الكاتبة سارة المسعودي في الحوار مع بشرى خلفان آنف الذكر، تقول: «الرواية طبّعت الجوع، وجعلته الحالة الطبيعية التي لا تستدعي الرفض أو النظر إليه بصفته شيئا غير مستحق وينبغي تصحيحه، وإنما كان طوال الوقت هو الشيء الطبيعي والبديهي». وأتذكر جواب بشرى إذ قالت: «الجوع في زمن الرواية كان سائدا حتى اعتاده الناس، فهم ما بين جوع شديد أو جوع أقل، ولم يكن هناك مكان للشبع»، إلا لمن كان حظه وافرا، ونال نصيبا من حياة الأغنياء. ولكن حتى في هذه الحال، كان هناك جوع على الدوام، الجوع الذي يبدل أحواله، ويغيّر مادته وموضوعه، تقول مريم دلشاد: «أحدث الشبع جوعا آخر، جوعا لا أستطيع فهمه، وبقي الخواء على حاله، كاملا ومستديرا وفارغا، ولم يكن ليملأ مكانه إلا الجنين في بطني، والآن وما إن خرجت الطفلة من رحمي حتى امتلأت بالخواء ثانية، الخواء الذي لا يملأه إلا حضور أبي أو الجوع» (ص219). ليس الجوع في رواية دلشاد شأن الفقراء وحدهم، ولكنه جوع عام بالمعنى الاقتصادي السائد الذي يتقلب فيه الغني في النعيم من جهة، وفي قلبه خوف من جوع قادم تحمله الحرب من جهة أخرى، فهم ما بين جوع أو خوف من الجوع. أما أشكاله الأخرى فقد تقسّمت بينهم جميعا كذلك، فكما تقسّم الأرزاق كان للجوع قسمته التي لا يعلم حكمتها إلا الله وحده.
وإذا كان دلشاد وامتداداته البيولوجية ال��تمثلة في ابنته مريم، وحفيدته فريدة، تجسيدا لأشكال الجوع المختلفة إذا ما نظرنا إليهم كمتوالية خطية في الزمن، فنجد تغيّرا تدريجيا في مقاومتهم له عبر الضحك، فدلشاد ينفجر بضحكات صاخبة تسد جوع صاحبها إلى حين، أو حتى يلملم نفسه من ضحكِه ودموعه من دون سبب غير سماعه صوت قر قرات معدته الفارغة، التي تتحول إلى كتلة من الهواء تصعد إلى رئته ويتقلب إثرها على حجر الوادي حتى يهدأ. ومريم أخذت من أبيها الضحك وراثةً، ولكنها صارت تطلقه سخرية مضمّرة من التناقض الذي وجدته بين فقر الحياة في حارة لوغان، والنعيم الذي عاشته في بيت لوماه، وإن بقيت لا تعرف له سببا كأبيها. وتضاءل الضحك عند فريدة التي عرفت النعيم ولم تعرف عن الجوع إلا في مشقة ما بعد وفاة أبيها، ولم تذقه بنحو صريح، فبقيت تطلق الضحك مجاراة لأمها فقط التي تعرف معنى الجوع أكثر منها.
تكشف لنا رواية دلشاد أوضاع عمان الاقتصادية في النصف الأول من القرن العشرين، وأحوال أسواق مسقط وما يأكل الناس وما يبيعون، وما يستوردون وما يصدّرون، فليست الحياة كما تصورها الرواية/ أي رواية إلا منطلقا لطبيعة العلاقات المبنية على عامل الاقتصاد بدرجة أو بأخرى. فهو الذي يرسم حياتهم الاجتماعية، وحياتهم الثقافية، ويبرز العلاقات بين بعضهم ومستوى معيشتهم وحتى لغتهم، وإن لم تدخل فيها لغة الأرقام وتعاملات التجار وأخبار سوق المال.
ولمّا كانت الرواية تصوّر ذلك التمازج بين الأعراق العمانية المتعددة، فلأن مطرح ومسقط ما هما إلا فرضة وبندر كما تصفهما الرواية، وفيهما يجتمع الضد وتنصهر وتتعايش، وتأتلف بقدر ما تختلف. ولعل هذا يستحضر الملاحظة التي وُجهت للرواية بأن جميع شخصياتها كانت تستعير لسانا واحدا في سردها الذي اختارت له بشرى خلفان تقنية تعدد الأصوات، ولكنه تعدد في الأسماء والحكايات في حين بقيت اللغة واحدة، ولهذا ما يبرره إذا قسنا اختلاف الحكايات وتراوحها من شخصية إلى أخرى، وإن اتفقت أحيانا في سرد الحدث نفسه ولكن من زاوية أخرى.
تعود فريدة ورحلتها بعد الشبع لتتساءل: هل امتلأ قلبها كما بطنها؟ فلا زالت تبحثُ عن دلشاد في صحوها ونومها؛ فتضيعه حين تجده، لتتساءل وأنت تختم الكتاب: من الذي أضاعهما؛ الجوع أم الشبع؟
في هذا الجزء تستكمل رحلة الإنسان والمكان عبر أزقة مطرح ومسقط وطُرق السيب، والرواحلَ والبواخر والآلات عبر الدقم والدوحة، وحكاية الدم المُراق والسجون الممتلئة في سبيل الذهب والسلطة.
ظهر في هذا الجزء صوت حسن لبن وشنون السرسري، وصوتٌ لحكاية صالح بن سيف، وغاب دلشاد مع غياب ذاكرته وسجنه، وبقيت بعض الحكايا والأصوات العالقة في رأسي منذ السيرة الأولى دون صدى في هذا الجزء الذي أغلقته وأنا أتخيل الفراغ الذي سكن قلب فريدة ودلشاد.