كل كلمة تصلنا من كتابات أبي حيان التوحيدي الفيلسوف المتصوف والأديب البارع هي منحة وهدية. بينما عرفه التاريخ بكثرة التأليف استسلم أبو حيان التوحيدي ذات لحظة وأحرق الكثير من كتبه لأن لحظة اليأس أخبرته بلاجدوى هذه الكتب. أراد أن يضن بكتبه على قارئ لا يعرف قيمتها ونجح، لكن كان لنا الحظ نحن القراء في بعض الكتابات التي وصلتنا ومنها هذه الرسائل. من ألقاب أبي حيان التوحيدي: فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، محقق الكلام ومتكلم المحققين، شيخ الصوفية، وإمام البلغاء، لكنه كان من عداد مثيري الجدل أيضا في التاريخ العربي الإسلامي من حيث قناعاته الفكرية. عاش أبو حيان التوحيدي من ألف عام في القرن الرابع الهجري، لم نعرف على وجه الدقة تاريخ ميلاده ولا مدة حياته، مما يزيد الهالة من حوله غم&
أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب، وقد امتاز بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي بعد ذلك مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب، وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي بشقيها الشخصي والعام- قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله، ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم الأدباء (كتاب) مما حدا بالحموي إلى التقاط شذرات من مما ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من رد الاعتبار لهذا العالم الفذ ولو بصورة غير مباشرة.
هذا الكتاب الذي صدر بأَخَرة عن دار آفاق ممسوخ مسلوخ من جهد المحقق إبراهيم الكيلاني في كتابه "رسائل أبي حيان التوحيدي" وقبله في كتابه "ثلاث رسائل لأبي حيان التوحيدي" كما ذكر واضعه في مقدمته، ويظهر من مصادره وحاشيته.
وكان الأولى بما يزمعونه وبالأدب الذي ينشرونه وبالأديب الذي يقدرونه أن يبعثوا كتاب الكيلاني من جدثه نافضين عنه تراب النسيان وأكفان الفقدان، ثم يلبسوه الطباعة الحديثة، كما فعلوا من قبل مع كتابَي عين المؤلف "الإمتاع والمؤانسة" و"الهوامل والشوامل" اللذين نشرتهما لجنة التأليف والترجمة والنشر قديماً، ثم بادت اللجنة واندثرت نسخها من الكتابين أو كادت.
كان الأولى بهم أن يصنعوا ما ذكرت لأن المقلد الناسخ الناقل لا يصح له بحال أن يدعي اجتهاداً وتحريراً ووضعاً، وما أقبح ما سطّروا على طرّة الكتاب: تحقيق وتعليق! وليس من هذين فُتات بعرة، فحتى الحواشي بعضها مأخوذ بعينه من تحقيق الكيلاني.
ويحسن هنا أن أنوه بالأستاذ المحقق إبراهيم الكيلاني وببعض تحقيقاته المنسية، وجهوده المطوية. رسالته للدكتوراة كانت عن أبي حيان بجامعة السوربون الفرنسية، وترجمها إلى العربية، وهو أول من نشر رسالة السقيفة المشهورة لأبي حيان ورسالتَي الحياة وعلم الكتابة، بل هو أول من جمع مع التحقيق كل ما وصلنا من رسائل أبي حيان بين جلدتين، وقد حقق كتاب البصائر والذخائر في نشرة طيبة أفادت زماناً ثم اندثرت لما ظهر أجود منها تحقيقاً، وأيضاً حقق الصداقة والصديق، لكن نُسيت جهوده حتى ما يكاد يُعثر عليها إلا ببعض الشقاء، فغفر الله له وجزاه خيراً عن الأدب بهذه اليد البيضاء.
"إنّ العلم يُراد للعمل، كما أن العمل يُرادُ للنجاة، فإذا كان العملُ قاصراً عن العلم، كان كلاًّ على العالم. وأنا أعوذُ بالله من علمٍ عاد كلاًّ، وأورث ذُلا، وصار في قلبِ صاحبه غُلاّ."
نبذه عن الكِتَاب 🔍 :
في هذا الكتَاب اختار المحقِّق أربعة عشَر رسالةً كتبها أبو حيان التَّوحِيدي في مناسباتٍ شتَّى وظروف مختلِفَة، مِنها ما هو فلسفي مثل الرِّسالة الأولى؛ وهي رسالة الحياة التي تناول فيها حيوَات الإنسان ومسوياتها، كما ضمَّ بعضًا من الرسائل التي يصور فيها التوحيدي حالة ويصف دخيلة نفسه، كما يُبرِّر ما أقدم عليه من حرق لكُتُبِه بعد أن أصابه اليأس من بلوغ ما يصبو إليه.
رأيي 📝 :
هُنا رسائل أبي حيان صاحب قلم سيَّال، وثقافةٍ عاليَة، واطِّلاع واسع، ولغة عذبة، اختارها المُحقق خميس حسن. طرح سؤالا: ماذا حرق أبو حيان التوحيدي بالضبط: مؤلفاته ؟ أم مكتبته ؟ راق لي تعليقات المُحقِق على بعض الرسائل وطَرح بعض التساؤلات العميقة.
كتاب رسائل أبي حيان التوحيدي الذي بين أيدينا مكون من أربعة عشر رسالة مختارة، قام المحقق بتولي مهمة جمعها واختيار التعقيب على ثلاث رسائل منها فقط. ولعل المحقق وفق في اختيار أهم رسائل أبي حيان التي وردت في مؤلفات أخرى كالإمتاع والمؤانسة والمقابسات وغيرها، إضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي ألفت عن حياته.
عاش أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري، وهو أحد أعمدة الأدب العربي قاطبة، إذ وصفه ياقوت الحموي بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، كما يعد ممن تتلمذ على مؤلفات الجاحظ واقتفى أسلوبه الأدبي واعتنى به، لذا اختار المحقق أن يورد رسالة في تقريظ الجاحظ لأبي حيان التوحيدي كدليل اهتمام وتقدير.
من الرسائل التي تتبعها المحقق بالتعقيب رسالة يوم السقيفة التي وردت في كتاب المقابسات والتي يكاد يجمع المتخصصون على أنها وإن تحققت فعليا فإنها لا يمكن أن تحدث لفظيا وهو ما يعني أن التوحيدي أعاد صياغة الحادثة بأسلوبه وألفاظه وطريقة كتابته المعهودة. أما الرسالة الأخرى التي تتبعها المحقق بتعقيب على لسان زكي مبارك ومحمد عمارة هي رد التوحيدي على القاضي أبي سهل يبرر فيها حرق كتبه، ويخلص المحقق إلى أن التوحيدي لم يقم بإحراق مصنفاته وإنما أحرق مكتبته فقط، وفي هذا نظر إذ أن وجود مؤلفات التوحيدي في أيامنا هذه لا يعني أن التوحيدي لم يحرّقها للأسباب الكثيرة التي ذكرها في رسالته، حيث يجوز أنه أحرق النسخ التي بين يديه وسلمت تلك النسخ التي سارت بها الركبان وانتشرت في بقاع الأرض في حياة الرجل، إضافة إلى إمكانية إحراق الكتب التي جمعها في مكتبته والتي ضن بها على قوم عاشرهم عشرين عاما ولم يحفظوا له وداد!. أما القطع بالنفي والإثبات في هذه المسألة مع تواتر الروايات، فيه شئ من (التعالم) والله أعلم.
مجموعة رسائل لأبي حيان التوحيدي، يأخذنا فيها الا شتى معاني الحياة، الفلسلة والأدب والدين والفن. من كتب الأدب العذبة اللتي تستمتع في قرائتها وتتلمس جمال وعذوبة اللغة العربية معها. من ضمن الرسائل اللتي راقت لي كثيراا في هذا الكتاب وكلها كُتِبت بلغةٍ رفيعةٍ سلسلة، رسالة الحياة وهي رسالة فلسفية سهلةٌ ممتنعة.
رسالة السقفية، 'وهي وإن يقال أنها من صُنع أبي حيان ولم ترد على لسان أبي بكر الصديق وعلي بن طالب رضي الله عنهما' إلا أني وجدت هذا الشيء رغّبَني أكثر لقرائتها والتمتمع بما فيها من سردٍ وبليغ كلام.
مقتطفات من تقريظ الجاحظ لأبي حيان، رسالة تقريظ وذكر بدائع ومحاسن أبي عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين بلغةٍ فنية بديعة قلما تجد لها مثيلا في كتب الأدب. وذُكر فيها مفاخر العرب الثلاثة على لسان من نقل عنه أبو حيان وهم : عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو الحسن البصري وأبو عثمان الجاحظ.
رسالته إلى القاضي أبي سهل علي بن محمد، رسالة يبرر فيها إلى القاضي لماذا أحرق كتبه، من أبدع الرسائل وتنم عن أدب وورع أبي حيان وحكمته البالغة. أعجبني أيضا تعليق المحقق على هذه الرسالة فقد أضفى لها رونقًا اخر لا يمس إبداعها وحُسنَ بلغيها.
هذا الكتاب كان أول ما قرأت لأبي حيان وقطعًا لن يكون الأخير.
"لأن القصد الإطرابُ بعد الإفهام."؛ هذه العبارة تكاد تختصر حال رسائل أبي حيّان. فهي رسائل تزخر بلغة شاعرية آسرة، ممتعة في نغمها، لكنها عسيرة في معناها، تتطلب صبرًا وتأمّلًا طويلين. وفي ثناياها شذرات متناثرة من فكر التوحيدي ورسائله، تأتي أحيانًا لامعة، وأحيانًا مربِكة.
وقد وردت في الكتاب رسالة منسوبة إلى أبي بكر الصديق موجّهة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهي رسالة لا يثبت لها أصلٌ صحيح، ولم تُتداول بوصفها رسالة حقيقية بحسب مصادر أهل السنّة.
عمومًا، كان الكتاب ثقيلًا عليّ، عسير القراءة، ولم أستوعب كثيرًا مما ورد فيه. غير أن ذلك لا ينفي ما يحمله من قيمة معرفية وأدبية كبيرة، ولا ما يكشفه من عمق لغوي وفكري لمن يملك أدوات قراءته
مجموعة مختارة من رسائل أبي حيان التوحيدي، يتناول فيها مجموعة من القضايا الأدبية واللغوية والفلسفية والاجتماعية، التي كانت محل نقاش بينه وبين معاصريه... ٢٢٨ صفحة