- من نحن بلا ذاكرتنا؟ انطلاقًا من هذا السؤال تبدأ «صفاء» رحلة مواجهة لهواجسها المتشابكة، من خلال حكاية تتنقل بين خطين زمنيين؛ قبل وبعد حادثة القطار التي تظل البطلة أسيرة لمشهدها الضبابي. - رواية معنية بالذاكرة، لكنها أيضًا رواية عن الحب؛ تتأرجح بين فكرة حقيقته ووهمه. - تخوض البطلة رحلة ملاحقة للحب من الإسكندرية مرورًا بمطروح إلى سيوة، وخلال تلك الرحلة تجد البطلة نفسها في محاولات دائمة للتأقلم مع محيطها، تُقابل هواجسها وجهًا لوجه في مسرح جريمة، محاولة باستمرار العودة لتفاصيل حياتها التي فقدتها.
كاتبة مصرية حاصلة على جائزة ساويرس الثقافية لعام 2019 عن مجموعة "زار" و الجائزة المركزية لقصور الثقافة لعام عن مجموعة "من نافذة تطل على الميدان" عام2011 ،تعمل صحفية في موقع مصراوي و نشر لها القصص و المقالات في الصحف المصرية .
عن الحب و الوهم و الذاكرة . على مستوى خطين زمنيين قبل حادثة القطار و بعدها ننتقل مع صفاء في رحلتها بحثا عن الحبيب بين الإسكندرية و مطروح و سيوة . العمل يعري العالم الداخلي لانسانة بسيطة حالمة تسعى للتأقلم و للعيش دون أن ينتبه لها المحيطين و يجعلنا نعيش صراعها النفسي الداخلي في بحثها عن الحب من خلال ثقل ذاكرتها. العمل مكتوب بلغة مكثفة لوصف الأحاسيس الداخلية . أول تمل أقرأه للكاتبة و لن يكون الأخير .
هل تخوننا ذاكرتنا؟ هل هي قادرة على التلاعب بنا، وإيهامنا بأحداث ليست حقيقية، تجعلها في منزلة اليقين؟
في روايتها الأحدث تناقش الكاتبة هبة خميس، مشكلة فجيعة الذاكرة، وهل هناك بدايات جديدة، لمن يمشي بذاكرة هذه حالها؟
من خلال بطلة القصة صفاء، ورحلتها من الإسكندرية لمطروح لسيوة، ثم العودة للاستقرار بمطروح مرة آخرى. لتهرب من حياة كئيبة بلا روح في موطنها الإسكندرية، لتجري وراء حلم كانت تراه الخلاص، فتُصدم بواقع يجعل الخرافة والحقيقة يمتزجان، لتعاود الهروب إلى عالم جديد بكر، تختبئ فيه بعيداً عن كل شئ. فهل ستستطيع الخلاص؟
-يا وابور قولي رايح على فين بدأت أحداث الرواية بداخل قطار، بل أن القطار كان بمثابة الموتيف، والعنصر المحرك للأحداث بداخل الرواية. وكأن القطار رمزاً لحياة البطلة نفسها، ورحلتها الطويلة التي عاشتها متنقلة بين مدن مختلفة، أو لنقل من جانب آخر رحلة الهروب من ظلامية نشأتها كمحطة بداية " بالأسكندرية" في اتجاه المستقر " مطروح" كمحطة أخيرة. كما أن الحدث الفيصلي في حياة صفاء، كانت وهي بداخل القطار، عندما انقلب في منتصف الطريق من مطروح للأسكندرية، واعتقد أنه كان الفيصل في استقرارها بمطروح.
-البطل المحوري في أدب هبة خميس المتتبع لروايات هبة خميس، سيعرف أن المكان ليس عنصراً في الرواية عندها، ولكنه بطل أساسي يظل مجسداً في خلفية الرواية. والبطل هنا كانت مدينة مطروح وسيوة وفي ظني أن الاختيار هنا ليس عشوائياً فمطروح هي نهاية لخط حديدي يصل مطروح بالأسكندرية " مكان نشأة البطلة" وكأن الهروب هنا كانت لآخر نقطة بعيدة ساحلية تستطيع البطلة أن تبدأ بها من جديد. كما أن مطروح ببعدها، واتساع مساحات الفضاء حولها وكأنها أرض على سجيتها منذ بدء الخليقة، تجعلها أقرب لطبيعة البطلة التي هربت من ضيق قسوة وجفاء عائلتها لتعيش في براح وفضاء شاسع يشابه قلبها البكر الذي تحمله ولتستطيع التنفس من جديد. أما سيوة فهي محطة عارضة استثنائية جداً من حيث غموضها وسحرها وعزلتها فتناسبت مع الصراع الذي عاشته البطلة بداخلها، والهذيان والتوهم اللذان تلبساها فجعل الحدث يتراوح ما بين الواقعي والمتخيل بعد ذلك. إذن فرواية المكان هي سمة مميزة بأدب هبة خميس، تشعر معه أن للمكان حضوراً قوياً، وأنه يحرك الأحداث ويؤثر عليها.
-الطول واللون والحرية هذه العناصر التي ترمز للحواس التي نعرِّف بها الأشياء كالمسافة واللون وإحساس الراحة وريحة الأماكن كلها أشياء قد تعبر عن أو ترمز لمعاني حسية أو رمزية بداخل الرواية. فاستخدمت الكاتبة تعبيرات مميزة كدماء صدئة "رائحة" المسعف ببدلته البيضاء " لون" صوت القطار " الزمن"
كلها دلالات حسية تعبر عن التقزز أحياناً، وعن التناقض أحيان آخرى وفي أحيان ثانية عن مرور الزمن في صوت القطار، او تعدد مراحها الحياتية بعد الهروب الأول.
-الفرصة الثانية، هل لها وجود لو أردنا أن نحدد تساؤلاً آخر تطرحه الرواية، فهو الفرصة للحياة مرة آخرى بعد الصدمات والذاكرة المشوشة والانتهاك النفسي والعاطفي. وهي الفرصة التي تم تهيئتها على مهل، أو لعل الرواية كالحياة جاءت لتعلِّمنا أن الفرص موجودة حولنا، تترقب وتسوى على مهل، منتظرة الوقت المناسب لتظهر في حياتنا من جديد. وهو ما حدث لصفاء، النجاة كانت منذ انطلاق القطار من الإسكندرية. لتولد الفرصة مع حادثة القطار، ولكنها طرقت بابها عندما اجتازت اختبارها، وتحررت ذاكرتها، وبرءت من هذيانها وتشوهها، فاستعدت لحياة جديدة تستحقها.
-السرد واللغة لقد استخدمت الكاتبة لغة حسية ملغزة جاءت لتعبر عن أزمة البطلة وتشتتها، مع التركيز على الحواس كاللمس والرائحة والحركة لتضفى على الكلمات صورة ذهنية مجسدة في ذهن القارئ. كما ان الحوار كان في أغلبه ذاتي، فيما يشبه تياراً للوعي، يتنقل بين الوصف الخارجي والحالة النفسية.
النص في مجمله يعبر عن رحلة نفسية شديدة العمق، تواجه فيه البطلة صراعاتها الداخلية، وذاكرتها المثقلة المضطربة، وكيفية الخلاص.
تقدم لنا الكاتبة هبة خميس تجربة نفسية ورمزية بديعة في روايتها "هواء مالح"، استقبلتنا في مدخل الرواية بمشهد فارق، سيتشبث بنفوسنا وذاكراتنا كما تشبث بنفس وذاكرة صفاء بطلة الرواية فأضاعهما.
في ذلك المدخل، استولت الكاتبة منذ اللحظة الأولى على حواسنا الخمسة، رأينا أغصان أشجار السرو المتشابكة واليد الملقاة، وسمعنا زقزقات العصافير وصوت تكسر الورق الإبري، وشممنا رائحة الدماء، وشعرنا بسخونة شعاع الشمس، وتذوقنا طعم الهواء المالح، كان ذلك هو آخر مدركاتنا الحسية، بعدها تعطلت كل الحواس، ثم تحركت النقَّالة الحديدية في طرقات المستشفى، وانتقلنا بين الفصول بحثاً عن أطراف الحكاية، سواء تلك التي جرت قبل حادث القطار أو بعده.
كتبت هبة خميس هذه الرواية بمهارة فائقة، وقدمت حالة نفسية ومعرفية دالة وكاشفة، ونسجت نسقاً رمزياً متكاملاً، وجدنا السياقات الملتبسة، والأحداث المرتبكة، والسرد المتماوج، والحبكة المراوغة، والأصوات المضطربة، والراوي المتماهي، والذاكرة العطبة التي كنا طوال الوقت تائهين في دروبها المظلمة.
الرواية تضم ٢٥ فصلاً، وتجري في نطاق مكاني يمتد بين الإسكندرية وفوكة ومرسى مطروح وينتهي في سيوة، وفي نطاق زماني يمتد لسنتين في ٢٠٠٨ و ٢٠١٠، عرفنا صفاء والرجل الذي أحبته بلا اسم في الرواية، وعرفنا جمعة وأم هناء ورضا والحاج صبحي وحسين وأمه ولطفية، وبقية الشخصيات.
لاحظنا كيف كان صوت الراوي يتبدل في الفصول مع زمني الرواية، في عام ٢٠٠٨ قبل الحادث كانت صفاء تروي بضمير المتكلم، كان الأمر في بدايته وكنا نصدقها، ولكن سرعان ما بدأ تشوش الوعي واضطراب الحكم وفقدان الثقة، وفي عام ٢٠١٠ بعد الحادث كان يصاحبنا راوٍ بضمير الغائب، ظننا أنه سيمنحنا الحقيقة فمشينا معه، لكن سرعان ما شعرنا بتلاعبه، أو ربما بتشوشه هو الآخر.
لم يعد لدينا من نثق به، بين الذاكرة العطبة لصفاء والحكي المتماهي للراوي، اختلطت الحقيقة بالوهم، والواقع بالحلم، والنشوة بالدماء، أطلت علينا كل الرموز، صحراء بلا نهاية، وجبال بلا قمم، ورجل بلا اسم، وامرأة بلا ذاكرة، وظلال بلا ملامح، ويد متشبثة بنصل طويل مدبب، ويد مقطوعة، وطفل وجنين، وطيف الخضر، وأشجار السرو، وواحة وقطار، وهواء مالح.
إنها رواية عن الحب والوعي، عن الفقد والألم، عن القدرة على ممارسة الحياة، عندما تغيب الذاكرة فلن تغيب بمفردها، ولكنها ستأخذ معها كل القدرات التي اكتسبناها، الاختيار والتحدي والصلابة والاتزان المعرفي، أدوات الحياة التي لا يجب التخلي عنها.
في النهاية، بعد أن تأكدنا أن صفاء قد صارت بلا ذاكرة نثق بها، وأننا قد صرنا بلا حواس نعتمد عليها، وأن وعينا جميعاً قد صار مشوشاً مضطرباً، أدركت صفاء أن النصل لم يؤذي أحداً سواها، فقررت أن تواجه نفسها به، لكي تولد مرة أخرى وتجد ذاكرتها الجديدة، علها تعيد إلينا حواسنا المفقودة.
هل كانت الشجرة هناك حقًا؟ في تلك اللحظة حتى الوجود بدا غير مؤكد، كانت تشكّ في كل شيء. في المكان، في الزمان، في ذاتها. رحلت ولم تترك مكانها، وماضِيها وعِلمَ اليقين ذاكرَتها. شعرت أنها ليست شجرة حقيقية، مثل شبح شجرة. هل كانت الشجرة هناك فعلًا؟ كان ظِلًّا آخر مثل الباقين. وماذا لو كانت هي ظِلًّا لنفسها؟ 🔪🔪🔪🔪 صفاء من "هواء مالح" فى رحلة داخل ذاتها. .أطلت علينا هبه خميس من نافذة تطل على روح صفاء صفاء في خفة الريشة في مهب ريح مرسى مطروح وسيوة كريشه تنتقل من مكان لمكان أخذتني معها، فشمّت رائحة الهواء المالح بأنفها، وشعرت بالرمال تحت قدميها، وبالنصل في يديها.