يتناول كتابنا قصة حقيقية لأحد "الملبوسين" في صعيد مصر، وبالتحديد في إحدى قرى مركز قفط بمحافظة قنا، حيث عاش عبد الراضي، وهو بطل هذه القصة. الكتاب في الأصل دراسة أنثروبولوجية ماتعة قام بها باحث ألماني شاب في النصف الأول من القرن العشرين، حيث ارتحل إلى قفط وقام بدراسة وتحليل هذه الظاهرة وكتب عنها كتابه هذا بالألمانية.
يدخل بنا المؤلف إلى عالم الجن والأرواح، فيقدم لنا بداية مداخل عن الدين الشعبي في الحضارات، ثم بالتحديد في صعيد مصر. ينتقل بعدها إلى تحليل ظواهر مثل السحر والمس والجسد البشري كوعاء للروح وكأداة تعبير عن عالم غير محسوس ولا مرئي، وكأداة اتصال بهذا العالم بشخوصه وأفراده وقواعده و"أصوله". ثم، وبعد هذه المقدمة النظرية، ينتقل إلى تحليل ورصد الظاهرة في شخص عبد الراضي وعلاقته بأهله وزوجته، ثم علاقته بالفلاحين والجيران، ونظرتهم له، والخدمات التي كانوا يرجونه أن يؤديها لهم، والمكانة التي وصل إليها عبد الراضي في مجتمع الفلاحين، حيث أصبح نقطة مركزية ولعب دور الناصح، بل والمحكم في بعض القضايا.
صدرت الطبعة الحديثة للكتاب على يد نيكولاس هوبكنز، أستاذ الأنثروبولوجيا وعلوم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والذي تركزت أبحاثه الأنثروبولوجية في أسيوط بصعيد مصر، ومجتمعات البدو في مالي، والقرى الريفية في شمال تونس. ونقله إلى العربية الأستاذ الدكتور أحمد الشيمي، العميد المؤسس لكلية الألسن ببني سويف، والمولود في محافظة سوهاج بصعيد مصر.
دراسة عجيبة لرجل ألماني مستشرق -المفترض - متخصص في مقارنة الأديان بيروح في التلاتينات لدراسة الصوفية ويفاجأ بعبد الراضي وقصته وبخيت والمس وهذا العالم الغريب ففي البداية فيه مقدمات كتير أوي تخلينا نتوقع طبيعة السرد والكلام رجل مستشرق عنصري رايح يدرس جهل وضلالات الشرق فأول فكرة جت في بالي الكتاب هيكون سلخ وانتقاد لاذع للشرق وللتخلف المصاحب ولكن على الحقيقة لا يوجد في أي موضع تسفيه أو إستهزاء بالموضوع بل على العكس رأيت تفنيد ودفاع عن المعتقدات والأفكار ونقاش جاد لها وفي بعض المواضع أنا حسيته مؤمن تماما بهذه الأفكار وكنت أنا العنصري اللي بينتقد الممارسات والشطحات -وهي بالفعل شطحات - فلذلك هي دراسة غريبة ومنهج محترم يصف الممارسات بتحليل أقل ولكن بدون الجانب العنصري وده شيء لذيذ ولا أعلم هل هذا هو الحال الطبيعي في مثل هذه الدراسات الإثنوغرافية أم هذا استثناء
برضو أي حديث مصاحب لهذا العالم بيكون محبب ليا بسبب بعض ذكريات الطفولة والتحلق لرواية أكتر رواية مخيفة في العالم (بغض النظر عن صحتها وعن كونها مخترعة في التو واللحظة فهي أقرب للظرف وسرعة البديهة عن الحقيقة :))) وأثناء قراءتي تم نفس الشيء تحلقنا على كبر لرواية الأشياء المخيفة وكان جو لذيذ ودافيء لسبب ما لا أعلمه فمتعة الكتاب لم تكن في ذات الكتاب وإنما فيما حوله و المادة لم ترضيني على الحقيقة وهي فرصة جميلة لقراءة شيء أكثر عمقا بلغة أهله عن هذه العوالم وما يدفعهم للإيمان بهذه الممارسات وهكذا
عندما وصل ڤينكلر إلى نجع الحجيري في قنا، لم يكن يعلم أنه سيجد نفسه أمام رجل يتحدث بصوتين. في أحد الأيام، دخل على "عبد الراضي" في منزله، وجده جالسًا بهدوء، لكن سرعان ما تغيرت ملامحه، انتفض جسده، ثم بدأ يتحدث بصوت مختلف، صوت عمه الميت بخيت. كان يقول: "أنا بخيت، جئت لأخبركم أن عبد الراضي لا يكذب، وأن ما يراه حقيقة".
هذا الحدث لم يكن استثنائيًا في القرية، بل كان جزءًا من طقس متكرر، حيث يجتمع الفلاحون لسماع نبوءات عبد الراضي، التي كان بعضها يتحقق، مما جعله محل تقدير وخوف في آنٍ واحد. هذه الظاهرة، التي يسمّيها القرويون "الركوب" أو " الملبوس"، هي محور هذا الكتاب الذي هو متوسط الحجم بالمناسبة، وهو دراسة إثنوغرافية للباحث الألماني هانس ألكسندر ڤينكلر ، نُشرت لأول مرة عام 1936 ثم تُرجمت لاحقًا إلى الإنجليزية.
لا يكتفي ڤينكلر برصد الظاهرة، بل يتعمق في عالمها السري، حيث تختلط المعتقدات الشعبية بالممارسات الدينية، وحيث يجد الفلاحون إجاباتهم في أصوات الموتى التي تتحدث عبر الأحياء. يصف المؤلف كيف أن عبد الراضي لم يختر هذا الدور، بل "اختير" له، حين أصابته نوبة غامضة تحولت إلى سلسلة من التلبسات المنتظمة، جعلته وسيطًا بين عالمين، عالم البشر وعالم الأرواح.
لم يكن الجميع يؤمن بقدرات عبد الراضي. البعض كان يراه دجالًا، والبعض الآخر كان يعتبره مباركًا، بينما وقف آخرون في منتصف الطريق، مترددين بين التفسير الروحي والتفسير النفسي. أحد القرويين قال لڤينكلر: "إن كان يتحدث بصوت عمه، فكيف لم يتحدث إلينا بصوت أحد آخر من أمواتنا؟".في حين أن الكتاب لا يقدم تحليلًا نفسيًا مباشرًا، إلا أنه يلمح إلى أن عبد الراضي قد يكون في حالة من الانفصام أو التنويم الذاتي، حيث يخلق عقله شخصية ثانية يتحدث من خلالها. لكن هل هذا يفسر كيف كان يعلم أشياء عن حياة الآخرين لم يخبره بها أحد؟ هذا هو اللغز الذي لم يستطع ڤينكلر حلّه.
قد يكون عبد الراضي هذا دجالًا، ومؤلف الكتاب يبدو أنه غير قادر على الحكم في هذا الأمر، في نهاية الكتاب، لا يقدّم ڤينكلر إجابةً قاطعة. لكنه يتركنا مع تساؤل: هل ما رآه كان مجرد وهم جماعي، أم أن هناك حقًا عالَمًا غير مرئي يتواصل معنا عبر أجسادنا؟، ربما ظاهرة عبد الراضي لم تعد مثيرة، ولا أعتقد أن المهم هنا هو معرفة هل كان عبد الراضي دجالًا أم مجرد ملبوس، فالأمر واضح، تحضير الأرواح دجل ونصب، وما يفعله يتعدّى حدود الممسوس، لكن المهم هنا الطريقة التي قدّم بها ڤينكلر بحثه.
فلم يكن مجرّد مراقب، بل كان مشاركًا في الحياة اليومية للقرية، يتحدث إلى الناس، يشاهد الطقوس، ويعيش التجربة بنفسه. هذا ما يجعل الكتاب ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل حكاية حقيقية من قلب الصعيد، تنقل لنا كيف يفكر الناس، وكيف يعيشون بين العلم والأسطورة، بين الدين والخرافة، بين الحياة والموت.
في أحد الفصول، يتناول الكتاب ظاهرة الزار، وهو طقس شعبي يستدعي الأرواح من خلال الطبول والرقص، بحسب ما ورد في الكتاب، فإن الزار "يركب/يتلبّس" الأشخاص، خاصة النساء، في أوقات معينة من حياتهن، ويُعتقد أن الأرواح تختار ضحاياها بناءً على حالتهم النفسية أو العاطفية. في إحدى الروايات، تقول امرأة مسنة: "الزار لا يمتلك المرأة إلا إن كانت تعاني من هموم كثيرة، كأن تفقد زوجها أو ابنها، أو أن تكون في حالة حزن شديد".
عند حدوث التلبّس، تعاني المرأة من أعراض جسدية ونفسية مثل آلام في العيون، آلام في المفاصل، الصداع، الإغماء، أو حتى فقدان مؤقت للسمع والبصر. في بعض الحالات، تفقد المرأة اهتمامها بالحياة الزوجية، وهو ما يُفسَّر على أنه "استحواذ" الزار عليها. في بعض الحالات، يُعتقد أن علاقة المرأة بالزار تتخذ طابعًا شبيهًا بالزواج. يروي ڤينكلر قصة رجل لاحظ أن زوجته تتزين كل ليلة سبت وأحد، بينما تقضي بقية الأسبوع بملابسها العادية. وعندما سألها عن السبب، قالت له: "الزار يزورني في هاتين الليلتين".
يطرح الكتاب تساؤلًا مهمًا: هل الزار مجرد حالة نفسية، أم أنه امتداد لمعتقدات قديمة حول القوى الروحية؟ يُظهر الكتاب كيف أن الزار ليس مجرد خرافة، بل هو ظاهرة ثقافية معقدة تتداخل فيها العقائد الدينية، الظروف الاجتماعية، والحالة النفسية للأفراد. سواء كان حقيقة أو وهمًا في نظر المؤلف، فإنه يظل جزءًا أصيلًا من التراث الروحي في مصر، حيث تستمر الأرواح في "امتطاء" الأحياء، طالما أن هناك من يؤمن بوجودها.
غالبًا ما يُختزَل الصعيد في الروايات الحديثة في الثأر والفقر والهجرة، لكن هذا الكتاب يظهر لك وجهًا آخر لصعيد الثلاثينيات، حيث كان الناس يعيشون في مجتمع متكامل تحكمه قوانين غير مكتوبة تجمع بين الدين، والخرافة، والتقاليد القبلية. ڤينكلر يوضح كيف كان هناك دائمًا توتر بين التفسير الديني الصارم لهذه الظواهر وبين التفسير الشعبي المرن الذي يُدمج الأرواح والجن والأولياء في نظام إيماني واحد.
الكتاب يقدّم تحليلًا متوازنًا بين المنظور العلمي النفسي الذي يرى الزار كتنفيس عن كبت اجتماعي، وبين المنظور الإثنوغرافي الذي يراه كجزء من منظومة ثقافية قائمة، ومن هنا أحد الأسئلة الجوهرية التي يطرحها الكتاب هو: هل عبد الراضي كان ممسوسًا حقًا؟ أم أنه كان يعاني من اضطراب نفسي؟ أم أن القرويين هم من صنعوا هذه القصة لأنهم احتاجوا إليها؟ .
ما يقدّمه الكتاب ليس إجابة مباشرة ربما هو غير قادر على الإجابة عليها كما قلنا، بل يقدّم نموذجًا لكيفية تشكُّل "الحقائق الاجتماعية" أي كيف يمكن لمجتمع بأكمله أن يصدق شيئًا ما، حتى لو لم يكن له تفسير علمي.