لا يعودُ المكانُ هو نفسه إلَّا في الذاكرة، أكانَ المكانُ مسقطَ رأسِك، أو مكاناً زرتَه أو عملت فيه. فماذا لو كان المكانُ بيتَ طفولتِكَ وصباكَ حيث "الصورةُ في الصِّغَرِ كالنقش في الحَجَر"؟ يكتب الكاتب الصيني "نينغ كِن" عن بكين "مدينته ومسقط رأسه وبيت طفولتِه وصباه" لا بالحنين فقط، وإنَّما كذلك بعين الراصدِ الذي يتأمل اختفاء بكين القديمة أمامَ الحداثة العمرانية. يقول "نينغ كِن": "المدينةُ تعني الذاكرة، النُضج، البداية، النهاية، أو البدءَ من جديد، المدينةُ باختصارٍ، هي وعاءُ الزمن" وفي أربعةٍ وأربعين فصلاً يرسم "نينغ كِن" خريطةً لمدينة بكين منذ الخمسينيات، في رحلةٍ بين الحاضر والماضي، ويلقي الضوءَ على معالمِها الرئيسية: الحارة، الشارع، والباحة. وبوسعنا كقرَّاء أن نرى الأمرَ هكذا، إنَّ مسقطَ الرأس ليس مجرد مكانٍ يُولَدُ فيه الإنسان، وإنَّما هو المختبرُ الأول للوجودِ من الأنفاسِ الأولى إلى الحياةِ على الأرض، ومن المأوى الإنساني في البيت إلى الذاكرة الممتدةِ من البيتِ إلى الحارة، ومنها إلى الشارع، ومنه إلى القريةِ أو إلى المدينة، وبهذا المعنى تصبحُ القريةُ أو المدينةُ هي كلٌّ منَّا في الذاكرة المشروطةِ بالعيش في مكانٍ ما، وفي كتاب "نينغ كن" سنرى بكين كما هي الكاتب نفسه، لا مجردَ مدينةٍ زالت ونشأت أخرى قديمةٌ مكانَها، لأنَّ الكاتبَ ذاتَه أصبح هو الآخرُ جديدًا، بعد اختفاءِ قديمِه، لكنَّه يستعيدُ القديمَ مشاهدَ وأماكنَ وذكرياتٍ في نفسِه وفي بكين أيضًا عبرَ الكتابة، حتى إن كتب عن مدينتِه القديمةِ في السياقِ الخفي بين المأوى والمآل.
"المدينةُ تعني الذاكرة، النُضج، البداية، النهاية، أو البدءَ من جديد، المدينةُ باختصارٍ، هي وعاءُ الزمن. (الريفُ ليس كذلك، الريفُ الزمنُ بذاتِه)… من الصعب القول إنَّ ثمة علاقة محدَّدة بين الإنسان والمدينة، لكن ثمة أجزاء أو شذرات أو منظور مُعَيَّن بوسعنا أن نتعرَّف عبره نسبيًّا على ذواتنا".
يتتبّع "نينغ كِن" في كتابه، (بكين: المدينة والسنوات) في أربعة وأربعين فصلاً؛ طفولته إبتداءًا من خمسينيات القرن الماضي حتى عصرنا الحاضر، واصفًا نموَّه الشخصي وتغيرات بكين القديمة من خلال تقديم وصفًا تفصيليًا لمعالم بكين، وحاراتها، وشوارعها، التي نشأ بينها، مانحًا القارئ صورة بانورامية حية للمدينة تكتسب طابعًا عاطفيًا، لتشكل خريطة وجدانية تعكس مشاعر الكاتب وتجربته مع المدينة؛ معيشته كطفل بمفرده، وعمل الوالدين بعيدًا، ورحيل أشقائه والهجرة إلى الريف، المدرسة والجامعة، قراءاته، وأثر كل ذلك في تشكل وعيه وإدراكه للآخر والأشياء المحيطة به. وهكذا نتعرف على المدينة بزخمها وضجيجها، حيث يصورها ككائن حي يتغير ويتطور مع مرور الزمن، يربّي سكانه، ويحتفظ بآثاره.
"في الحقيقة، لا يتحرك الناس دائمًا إلى الأمام، إذ في مرحلة معينة يبدؤون العودة للعثور على طريقهم الخاص ونقطة انطلاقهم، وسيتخطى فضولهم تجاه نقطة البداية فضولَهم تجاه المستقبل… إِذًا، لا تبدأ الحياة بالولادة، بل بالذاكرة، وإذا كان الزمن قابلا لأن يُعكَس، فما هي نهاية ذاكرتي؟".
بكين: المدينة والسنوات؛ أرشيف حيّ للزمن، يمزج ماضيها الإمبراطوري الغني بالتغييرات الجذرية كمركز تاريخي، وعاصمة للعديد من السلالات الحاكمة وجمهورية الصين الشعبية، تناقضًا صارخًا بين جذورها التاريخية العميقة وطابعها المعاصر. مدينة عالمية حديثة تشهد تحولًا مستمرًا من خلال أحيائها الفريدة وهندستها المعمارية وحياة ساكينيها. تجسد المدينة "قوةً خالدةً للذاكرة"، وهي نسيج نابض بالحياة من الأحياء التاريخية ذات الباحات المتداخلة والمتصلة وغير المتصلة، والأزقة الضيقة والحارات الصغيرة بمنازلها المربعة والتقليدية ذات الأفنية، "هذه هي بكين؛ حارة، باحة، شارع، لطالما تشكَّلت هكذا"… "بكين التي تتنفس من حجارة الأزقة، وتحتفظ بتاريخها في صمت الجدران، وتتكلم عبر ظلالها أكثر مما تتكلم عبر معالمها الصاخبة".
"إذا كانت الحياةُ تبدأُ بالذاكرة، فإنَّ بدايةَ حياتي هي «الثورة الثقافية»: ملصقاتٌ جداريةٌ برموزٍ كبيرة، والكتابُ الأحمرُ الصغير، والشارات، والمسيراتُ والمواكب. لم أفهم كلَّ هذا، إذ كان بالنسبةِ إليَّ خلفيةً ضخمة وتربةً خصبة. على أنَّ في هذه الخلفيةِ حياةً هامشيةً ماثلة، أشياء من الحياةِ بذاتِها، ورغم ضالتها وبدائيتها، فإنَّ الذاكرة تصبح فوضوية وغير واضحة".
يركز الكتاب على المساحات الحميمة للمدينة، متشابكةً بين التواريخ الشخصية لسكانها العاديين، والسردية الكبرى لتطور بكين من الاضطرابات التاريخية إلى التحولات الحديثة. ويصف الآثار التي تركتها الثورة الثقافة على التاريخ والحياة الاجتماعية للسكان، وكيف ينفصل المرء عن ماضيه وتاريخه: "منذ اليوم الأَوَّلِ في المدرسة تعلَّمت «يعيشُ الزعيم ماو»، سمعًا وقراءةً وكتابةً ونُطقا، وانقطعت عن التاريخ، لا أعرف شيئًا عن وجود أسرة هان أو أسرة وي جين، نحن جيل جديد تمامًا، جيل «الزمن الذي بدأ من جديد، لم يسبقه زمن، ولم يكن زمنه الماضي زمنًا. لكنَّ الأشياء الجيدة، حتى الأشياء الأفضل قليلا، ستبدو رائعة للغاية حين السماح بها".
"الإحساس بالانفصال عن التاريخ نَدبةٌ من نوعٍ ما، فالتاريخُ مستمرٌّ بطبيعتيهِ، لكنَّ البعض يُصرُّ على انفصالنا عنه بصورة نهائية. وبعد أن نكبرَ ونصبحَ ناضجين، وندرك أنَّ التاريخَ ليس كتلةً سوداء دون سماتٍ مميزة، لا يمكننا أن نمسحَه أو نُعيدَ تشكيلَه، لذا يتشكَّلُ تكوينُنا المليء بالنُّدوب من التناقضِ بين المعرفةِ والإدراكِ الحسي. لماذا لم نشعر بفراغٍ هائلٍ في أواخر السبعينيات حين انهارت المعرفةُ بالتاريخِ، ثم انهار التاريخُ؟ حتَّى بعد التغيرات الجوهرية التي قلبت الأرضَ رأسًا على عقب، ما زلتُ عاجزا عن محو النُّدوبِ المحفورةِ في ذهني، ولا يزالُ الألمُ ماثلًا. هذا الألمُ ناجمٌ عن انعدامِ إحساسي بالتاريخ، وهو أمرٌ فظيع. رغم أن التاريخ استعادَ ملامحه الأصلية تدريجيًا إلى حد ما، إلا أن غياب الارتباط العاطفي به ترك بعض الأمور بغير حلَّ، كما أنَّ تأثيرها لا يزال ملموسًا. بمعنى ما أو إلى حدٍّ ما، يعودُ مصدرُ ارتباكِنا وانعدامُ الأسسِ الحالي، إلى انفصالنا عن التاريخِ منذ البداية. فإذا انقطع التاريخُ انقطعت معه القيم التي تراكمت عبر الزمن، وإن أصبحَ التاريخ عدميًّا، لا بُدَّ من أن يصبحَ الواقعُ عدميًّا أيضًا،…ولكن بسببِ التعليم المنفصلِ عن أي شيءٍ، ذاك الذي تلقّيتُه في سنواتي الأولى، لا أحملُ أي مشاعرَ تجاهَ جمهوريةِ الصين، بصرف النظرِ عن كيفيةِ تجميل الآخرين لها.… "وبالنسبةِ إليَّ كاتبٍ على وجهِ الخصوص، لا خيالَ دون مشاعرَ طبيعية، وأساسُ المشاعرِ ينبعُ من الطفولة، إذ تحدَّدُ تجاربُ الطفولةِ تخيلَ المرءِ للعالم. «الماضي» جناحٌ مهمٌّ للكتابة".
يكتب نينغ كِن بلغة ذاتية، بالغة الرقة والعذبة، تتأرجح بين الرصد والتأمل، مستعينًا بصور "تشين شي شي" وتعليقتها، لتُعيد تشكيل الماضي في حركة السرد دون حاجة إلى تنظير خارجي. فينتج نص موازي تمامًا لنص نينغ كِن، نص يفيض بالعزوبة والشاعرية، بنية نصية مكتملة، تتعدد دلالاتها، وتنبجس تبعًا للآليات الحسي والمتخيل، ما يعني اخراج الأشياء المرئية من حيزها الحسي إلى المتخيل وخلق صور مغايرة تبث في نفس القارئ الشعور بالدهشة. وترجمة يارا المصري، تحافظ على الإيقاع الشعري للنص الأصلي، وتنقله بعناية فائقة، فيصل إلى القارئ مشاعر الكاتب المتدفقة تجاه الماضي وتجاه بكين. "منحتني بكين كثيرًا من الأشياء غير الملموسة، التي إن لم تكن نعمة، فهي قَدَر. وأيًّا كان الأمر، فأنا ككاتب أتقبَّل كل شيء، وكل شيء يقع في مدار كتابتي. فأنا لست مجرد شخص، أنا أكبر من بكين، وجئت هنا لأكتب بالطبع سأعيش قرب البحر عاجلًا أم آجلًا؛ رجلٌ وبحر، ومرآة صافية. سأرى في المرآة بكينَ أكثرَ سريالية، ولن تكون لهذه الـ «بكين» علاقة بي".