تكتب مريم حمود عن البيوت التي نظن أننا غادرناها، لكنها لا تتوقف عن العودة في تفاصيلنا. عن الأب الذي كان ظلًا واسعًا ثمَّ خفَت، عن الأم التي رسمت الحياة دون أن تستخدم كلماتٍ كثيرة، عن الغياب، عن الطفولة، وعن البنات اللواتي صرن نساءً ولم ينسين شيئًا. قصص تروى من زوايا متجدِّدة، تمسُّ القلب مباشرة. تسير على حدود الحنين، وتكتب عمَّا لا يقال غالبًا. في لغةٍ هادئة، وبتأمل صادق، تمنحنا الكاتبة فرصة للوقوف قليلًا أمام أعمارنا، وأسئلتنا، وتفاصيلنا الصغيرة التي ما زالت تحاول أن تُفهَم.
أحببتُ الأم في قصص مريم، بكيتُ لأنني أحب أمي، ورحت تاركةً الكتاب على الأريكة مسرعةً إليها نحو الطرف المقابل لغرفة معيشتنا، كان الوقت عصرًا وظلال كل الأشياء تبدو كما هي بالأصل لا أطول ولا أقصر كما أحب، كانت الشمس تنعكس برقة على عروق يديها، على وجهها، وجفونها. طلبت من أمي أن تقرأ وكانت عيني وقتذاك تدمع..طبعت على جبينها قُبلة دافئة. وانفلتت مني أحبك. طلبت من أختيّ القراءة. ورحتُ أفكر بالأوقات المثالية لكل شيء، يصادف أن تكتب مريم عن الأم وأن أقرأ لها بينما ألمس رحمة وجود أمي بمحاذاتي.
"نكتحل بكحل أمي، ونتزيّن بحليها وذهبها، هي التي عاشت مصرة على أن تهبنا كل شيء بيدها التي ما زالت تمتد حتى اليوم، لتمكننا من كل شيء مهما بَعُد"
في ٥٢ صفحة تتنقل بك مريم عبر ١٦ قصة قصيرة، وحين تقرأ لمريم فأنت على موعدٍ لتقرأ شيئًا جميلاً. لمريم لغةٌ ساحرة، تشبه طرق الجري التي تقطعها دومًا، ثابتةٌ بانحناءات أصيلة، ومتغيّرةٌ لا تبعثُ على الملل، لكنني وكما طرق الجري، وددت لو تطول، وأن لا تنتهي. أعترفُ بأنني لشدةِ ما أحب لغة مريم تمنيت لو كتبت رواية!
هل جرّبتَ أن تمرّ ببيتٍ غادرته، فتسمع صوتك القديم في الجدران؟ قصص يقرأها القارئ وكأنما يطلّ على ذاكرة لا تخصه، ثم يُفاجأ أنها ذاكرته هو. كل شيء فيها كُتب بهدوء الداخلين إلى بيوت غادروها، لكنهم ما زالوا يحتفظون بمفاتيحها القديمة في جيوبهم. تنسلّ إلى ذاكرة الطفولة، إلى ظل الأب، وصمت الأم، تفاصيل الحياة الأولى، الغياب، والانكسارات الصغيرة التي تراكمت دون ضجيج… لغة مريم تشبه الباب الموارب فعلًا: لا يغلق عليك الحنين تمامًا، ولا يفتح لك للخروج منه.
"كنا ثلاثًا في المدرسة، ولكنني كنتُ مريم واحدة، وحين التحقتُ بالجامعة كنا أضعاف ذاك العدد، ولكنني كنتُ مريم واحدة فقط، الأمر نفسه حين كتبت وحين أقدمت وحين رفضت، كنتُ دائمًا تلك التي أسمتها أمي، مريم"
على مدى ١٦ قصّة قصيرة تأخذنا مريم بسحر خفيّ وترمينا وسط جوّ العائلة تعرّفنا على أبيها الذي يكبر في العمر ويكبر في قلبها ولا يخاف، والتي ورثت منه الطول والسرعة والقدمين وتتمنى أن تكون شجاعة مثله، وعن والدتها التي تحياة حياتين، حياة قبل الخليج وحياة بعد الخليج وعن الطفلة مريم التي لا يشبهها أحد، وليس لأحد أن يُسمّى مريم غيرها ثيمات الغربة والهجرة والهويّة والعائلة، وشيء من الركض المحبب لقلب مريم مجموعة لا يعيبها شيء سوى أنّها قصيرة وتنتهي بسرعة.
"لا أصعب من الرحيل إلا العودة، وإن كنت أعرف أنها عودة الواهم، لقد كنّا عطاشى خبرنا السراب من قبل، لكنننا نأتيه نفتش عن غبّة"