تُنقِّبُ بِلقَيْس داخل روحها عمَّا تفتقدُه، ثم تبدأُ بالبحث في فضاءاتٍ مكانيَّةٍ مختلفة. تتحايلُ على الجمود الوقتيّ وتكتبُ الخطابات لتنتقلَ إلى أزمنةٍ أخرى، تُحادِث الموتى وتُخبرهم بما يدورُ في دوَّامات قلبها. إنَّها روايةٌ تبحثُ عن المعنى، وتسيرُ وراءه على مهل. وتصطحبُنا في جولةٍ داخل مُخيَّمات اللاجئين الفلسطينيِّين داخل بيروت؛ عين الحلوة وشاتيلا، ونعيشُ معها قصةَ الحبِّ المُتقطِّعة، آملين في الاكتمال. قصةُ بلقيس ونضال، وهما على حافَّة العالم داخل المخيَّم ووسط جمال الشوارع اللبنانية، يحاولان إكمال ما شعرا به، هل ينجحون وسط هذا الشَّتَات المكانيّ؟ وما الحبُّ وسطَ كُلِّ هذا التمزُّق؟ هذا ما تُخبرنا به الكاتبةُ ميرا عماد كُريِّم.
لاجئة فلسطينية في لبنان، تعيش حياة شبه مستقرة، لكن البحث عن الجذور داء قلما نجا إنسان من الإصابة به، فتخوض مغامرة العمل في المنظمات الدولية المهتمة باللاجئين، لتدخل المخيمات الفلسطينية باحثةً عن أبيها الذي هجرها وأمها، وهناك، خلف جدار الفصل العنصري الذي يحرم الفلسطيني من الحياة الطبيعية، تقرر بلقيس أنها لن تترك هؤلاء الناس محبوسين خلف تلك البشاعة الأسمنتية، وأنها ستفعل شيئا ما لأجلهم. رحلة طويلة تخوضها بلقيس، الفتاة الحالمة المنعزلة، التي تكتب خطابات للموتى في محاولة لترتيب نفسها وأفكارها بمعزل عن محيطها، حاميةً نفسها من خطر كشف مشاعر لمن يحيطونها، لكن بالتدريج تسقط تلك الخطوط الدفاعية حين تلتقي نضال، الشاب الفلسطيني ابن المخيم، الذي عاش حياة غاية في القسوة، يحمل مرارة اللجوء وعدم الانتماء لبلد يأويه لكنه لا يعترف بإنسانيته، ويضرب حوله وحول شعبه حصارًا يعوقه عن السفر والهجرة وحرية الحركة والعمل، ويفرض عليه الحياة في نطاق محدد يجعله أسيرًا للفقر، مجبرًا على الكفاح، فلا يتبقى لديه وقت ليفكر في أي مستقبل طيب يجمعه بامرأة تحبه ويحبها. تكشف الرواية مأساة الشتات الفلسطيني، لتظهر صورة غير مألوفة لأبناء الأرض الطيبة، الشين نختزلهم عادة في صورة الأبطال المناضلين، نازعين عنهم -ولو بدون وعي- إنسانيتهم المعذبة التي تسعى لحياة أقرب ما تكون إلى الطبيعية. أحببت قصة الحب الرقيقة بين بلقيس ونضال، وصعقتني أفكاره التي ضرب بها حول نفسه سورًا من الوحدة والعزلة الاختيارية، وفي ذروة تلك الرومانسية الرقيقة، قدمت الكاتبة ميرا عماد كْريّم ما أراه أجمل موعد غرامي قرأته على الإطلاق، عذوبة لا يمكن تحملها فتدفع بنا إلى الدموع رغم خلو المشهد من أي حزن. رواية رائعة أحببتها بعمق، وأحببت كاتبتها، وأسعدتني الحياة بحظ أن أقابلها وتربطنا صداقة طيبة. شكرًا يا ميرا للكتابة المختلفة الصادقة، وبانتظار كل ما ستكتبينه مستقبلاً، وبانتظارك أنت أيضًا لنقضي كل الأوقات الحلوة التي ستكرمنا بها الحياة.