هذا الكتاب هو المجلّد الأوّل من الجزء الثاني من مشروع بحثي يعنى بدراسة موضوع "الدين والعلمانية" في سياق تاريخي من ناحية التأسيس النظري والتاريخي لدراسته بصورة عامة، منطلقًا من السياق التاريخي الأوروبي، وصولًا إلى تجلّيات العلمانية في الولايات المتحدة ونماذج أخرى للمقارنة.
خصّص بشارة هذا المجلد لمعالجة الصيرورة الفكرية والثقافية لنشوء العلمانية من أصولها الأوروبية بعملية تأريخ نقدي للأفكار، بحيث يعيد هذا التأريخ النظر في ما هو مألوف من مقاربتها حتى الآن، ويمكّن من فهم الجدلية بين الدين والسياسة في التاريخ الأوروبي بطريقة مختلفة عمّا هو رائج، ويتيح فهم جذور التفكير العلماني بصورة أفضل، انطلاقًا من السياق التاريخي.
يأتي الكتاب في اثني عشر فصلًا؛ عالج الفصل الأوّل "مقدمة نظرية"، التمييز بين المفردة والمصطلح والمفهوم. وشرح أنّ المفردة تترجَم، وكذلك المصطلح، أمّا المفهوم فلا تعني ترجمته شيئًا إذا لم يثبت نفسه في تفسير الظواهر في السياق الذي ينقل إليه عبر الترجمة. وناقش الفصل الثاني "مقدّمات العصر الوسيط" باختصار العلاقة بين الكنيسة والكيانات السياسية التي بدأت تتبلور على أنقاض الإمبراطورية الرومانية بوصفها علاقة وحدة وصراع انتهت إلى صعود الدولة. ورأى المؤلّف أنّ صعود الدولة هذا ومركزة سلطة الملك من أهمّ علامات نهاية العصر الوسيط. ويسبر الفصل الثالث "النهضة والأنسنية الكاثوليكية ومركزية الإنسان" ما سيُعرف بعصر النهضة، عصر نهضة الآداب والفنون واللاهوت الأنسني الكاثوليكي. ويبيّن بشارة فيه كيف تحوّل ثراء الكنيسة ونفوذها إلى بيئة ترعى ثقافة دنيوية في موضوعاتها وتوجّهاتها. ويشير كذلك إلى النزعات الكلاسيكية لهذا العصر المتمثلة بالعودة إلى الفلسفة والفنون اليونانية والرومانية، وإلى الفكر السياسي الروماني مع ردّات الفعل الأصولية على هذه التحوّلات المهمة. ويناقش الفصل الرابع "الإصلاح الديني" فكرة أنّ البروتستانتية لم تنشأ دفعةً واحدة، بل تفتّحت من براعم فكرية مهمّة في حركات شبه بروتستانتية مبكرة انتقدت ما انتقده مارتن لوثر من دنيوية الكنيسة وثرائها وسلطاتها الدنيوية وقدراتها المزعومة على منح الخلاص للبشر. ويتابع المؤلّف أيضًا تطوّر انشقاقات التيارات الأصولية في البروتستانتية، معتبرًا الانشقاق نتيجة طبيعية لمنطق البروتستانتية الذي لا يؤمن بمرجعية كنسيّة. وقد قاد منطق البروتستانتية القائم على حقّ المؤمن في فهم النص إلى مصائر مختلفة من العنف والتكفير وهجر المجتمع من جهة، وإلى التيارات المُسالِمة المناهضة لأيّ عنف التي أسّست فكرَ التسامح لاحقًا من جهةٍ أخرى. وهي التي رفعت مطلب الحرية الدينية، فأرست تقليدَ تحييد الدولة في الشأن الديني في الدول البروتسانتية بعد قرون. أمّا الفصل الخامس "في نشوء منطق الدولة"، فيعدّه بشارة فصلًا مركزيًّا في الكتاب لأنّه يتناول فكرة الدولة، التي لا يمكن فهم العلمانية من دونها، بطريقة جديدة؛ ويُميز بين مصطلح الدولة ومفهومها، ويشرح الفرق بين السلطة والدولة؛ والإمبراطورية والدولة بالمعنى الحديث للكلمة أي سيادة على أرض وشعب، وبمعنى ظهور فئة السياسيين المتفرغين، ويتتبع أيضًا نشوء فكرة الدولة والسلطة المطلقة.
ويأتي الفصل السادس "الدين وبداية الاكتشافات العلمية"، ليقطع هذا المسار للوقوف عند مسارٍ آخر متقاطع معه، وهو تطوّر العلم التجريبي والتفكير العلمي؛ فيحاول تحليل العلاقة الجدلية للكنيسة بالعلم، كما يدرس في طريقه لفهم نشوء العلمانية تحوّل العلم إلى نمط وعيٍ سائد في فهم الظواهر الطبيعية، محاولًا شرح معنى أن يسلب العلم المعنى من المجالات التي يقتحمها. فالكون بموجب التصورات الدينية عالمٌ له بداية ونهاية وهدف وغاية. وعلى هذه الرؤية يقوم بناء أخلاقي مشتقّ من معنى حياة الإنسان في الكون. ومع زوال المعنى تدريجًا من الكون والظواهر الطبيعية، بما فيها الحياة ذاتها، يدخل التصوّر هذا في مأزق.
ويعالج الفصل السابع "بين العقل في إطار الدين والدين في إطار العقل"، المساحة الواقعة بين الريبية المطلقة واليقين المطلق في بحثٍ عن جدلية إخضاع العقل لليقين الديني وإخضاع الدين لليقين العقلي، وكيف يميل التطوّر الفكري إلى الصيرورة الثانية؛ وذلك لاستحالة وجود علم يقيني في الإلهيات. فنحن نميز اليقين المعرفي غير الممكن في الإلهيات من اليقين الإيماني. ويتطرّق بشارة في هذا الفصل إلى "علمنة" المجال الديني نفسه بتعريضه للمنهج العلمي والريبية النقدية. أمّا الفصل الثامن "في بعض جوانب موضوعة الدين في فكر التنوير"، فخصّصه بشارة لدراسة فكر التنوير بغرض تجاوز الأفكار المسبقة والرائجة في شأن هذه الموجة الفكرية، منطلقًا من المشترك بين مفكّري التنوير وهو التفاؤل المعرفي واعتقاد أنّ المعرفة العلمية تضمن حلّ مشكلات المجتمع بوصف هذه المشكلات تنبع من الجهل والخرافة، وبعد عرض الخطوط الرئيسة في فكر التنوير ممثّلًا بأهمّ نماذجه، أفرد المؤلف جزءًا من الفصل لعرض ردّة الفعل الكاثوليكية المحافظة عليه في فرنسا في مرحلته عينها؛ وهي ردّة الفعل التي لم تنل الاهتمام البحثي الذي يليق بها. بينما يعرّج الفصل التاسع "ما بعد التنوير بإيجاز: من الريبية إلى العقل المطلق ومنه إلى نقد العقل"، على التنوير الألماني ممثّلًا بكانْت وتفاعله الفلسفي مع ديفيد هيوم الذي حاول تفسير الدين انطلاقًا من الطبيعة الإنسانية، لا من الوحي أو الغيب، وتطرّق بتوسّعٍ نسبي إلى فلسفة هيغل التي عَدّها المؤلف نقدًا لنقد التنوير، لكنّه نقدٌ يتجاوز قصورات التنوير نفسها ويرفعه إلى درجة نسق فلسفي مثالي. وهو يستوعب نقد التنوير للدين، ونقد الفكر الديني للتنوير بإعادة الاعتبار إلى الدين كجزء من عملية فهم الفكرة لذاتها. فالدين هو أكثر الوسائل يسرًا وشيوعًا في التواصل مع المطلق. وجوهر التديّن هو الحياة الأخلاقية. وما دام الدين هو الحامل الرئيس للوعي الأخلاقي لا بدّ من أن تكون للدولة علاقة بالدين.
ويتناول الفصل العاشر "العلمانية باعتبارها أيديولوجيا في القرن التاسع عشر"، الجمعيات الع...
عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا. مفكر وباحث عربي معروف، نشر الدكتور عزمي بشارة مئات الأوراق والدراسات والبحوث في دوريات علمية بلغات مختلفة في الفكر السياسي والنظرية الاجتماعية والفلسفة، ومن أبرز مؤلفاته: المجتمع المدني: دراسة نقدية (1996)؛ في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (2007)؛ الدين والعلمانية في سياق تاريخي (جزآن في ثلاثة مجلدات 2011-2013)؛ في الثورة والقابلية للثورة (2012)؛ الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية (2017)؛ مقالة في الحرية (2016)؛ الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة (2017)؛ في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟ (2018)؛ تنظيم الدولة المكنى ’داعش‘: إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة (2018)؛ في الإجابة عن سؤال ما الشعبوية؟ (2019)؛ والانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (2020)، ومنها كتبٌ أصبحت مرجعيةً في مجالها.
كما أنجز بشارة عملًا تأريخيًا تحليليًا وتوثيقيًا للثورات العربية التي اندلعت في عام 2011، ونشره في ثلاثة كتب هي: الثورة التونسية المجيدة (2011)؛ سورية درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن (2013)؛ ثورة مصر (في مجلدين 2014). تناولت هذه المؤلفات أسباب الثورة ومراحلها في تلك البلدان، وتعد مادةً مرجعيةً ضمن ما يُعرف بالتاريخ الراهن، لما احتوته من توثيق وسرد للتفاصيل اليومية لهذه الثورات مع بعدٍ تحليلي يربط السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكل ثورة في ما بينها.
Azmi Bishara is the General Director of the Arab Center for Research and Policy Studies (ACRPS). He is also the Chair of the Board of Trustees of the Doha Institute for Graduate Studies. A prominent Arab writer and scholar, Bishara has published numerous books and academic papers in political thought, social theory, and philosophy, in addition to several literary works, including: Civil Society: A Critical Study (1996); On the Arab Question: An Introduction to an Arab Democratic Statement (2007); Religion and Secularism in Historical Context (3 volumes 2011-2013); On Revolution and Susceptibility to Revolution (2012); The Army and Political Power in the Arab Context: Theoretical Problems (2017); Essay on Freedom (2016); Sect, Sectarianism, and Imagined Sects (2017); What is Salafism? (2018); The Islamic State of Iraq and the Levant (Daesh): A General Framework and Critical Contribution to Understanding the Phenomenon (2018); What is Populism? (2019) and Democratic Transition and its Problems: Theoretical Lessons from Arab Experiences (2020). Some of these works have become key references within their respective field.
As part of a wider project chronicling, documenting, and analyzing the Arab revolutions of 2011, Bishara has also published three key volumes: The Glorious Tunisian Revolution (2011); Syria's Via Dolorosa to Freedom: An Attempt at Contemporary History (2013) and The Great Egyptian Revolution (in two volumes) (2014). Each book deals with the revolution’s background, path, and different stages. In their narration and detail of the revolutions’ daily events, these volumes constitute a key reference in what is known as contemporary history along with an analytical component that interlinks the social, economic and political contexts of each revolution.
المجلد الثاني من كتاب عزمي بشارة الكبير، والذي يظهر من متنه الانعكاس الفعلي لعنوان الكتاب، وذلك من حيث عرض السياق التاريخي للأفكار المتصلة بموضوع العلمانية والعلمنة والدين منذ العصر الوسيط الأوروبي إلى العصر الحالي، فيعالج ويعرض النظريات والأفكار التي تناولت موضوع العلمانية، سواء ذُكر مصطلح "العلمانية" فيها صراحة أم لم يُذكر، ومن دون إهمال وربط ذلك ببعض ما قيل ونُظّر إليه في العالم العربي بشكل مختصر أو عرضي. ويظهر في هذا المجلد، ومن خلال عرض التسلسل الفكري للموضوع، صيرورة العلمانية والعلمنة مصطلحًا ومفهومًا والتمثلات التاريخية لذلك في السياق الأوروبي، من أساس ظهور مفهوم العلمانية إلى حد تحول العلمانية إلى أيديولوجية قائمة بذاتها، بل وإلى حد وصولها إلى أيديولوجية لاعقلانية في بعض الحالات.
جاء هذا المجلد أيسر وأسهل من المجلد الأول. ربما ذلك نابع من طبيعة المجلد الأول من حيث الموضوعات التي يتعرض لها ويعالجها، حيث جاء المجلد الأول كمقدمة نظرية في شرح الدين والعلمانية كظاهرتين متمايزتين، و التعرض للدين كظاهرة متفردة، ومحاولة تمييزها وفصلها عن ظواهر أخرى مشابهة، تداخلت مع الدين وتقاطعت معه في سياقات وأحوال عدة، كالسحر والأخلاق والعلم وغير ذلك. أما في هذا المجلد فكان المناخ العام هو عرض موضوعي تاريخي للأفكار ذات الصلة بموضوع الدين والعلمانية، وهذا العرض التاريخي للأفكار ليس غرضًا في حد ذاته، وإنما هو جسر أو حلقة وصل للإلمام الدقيق بموضوع العلمانية خصوصًا صيرورة وتمثلات العلمانية والعلمنة وعلاقتها بالدين وأبرز الأفكار فيها، والتدرجية التي جرت في "علمنة الوعي" والفكر في التاريخ الأوروبي. والمجلد يقع في مكانه المنطقي، حيث أن بشارة بدأ بمقدمة نظرية لتمييز الظواهر المتشابهة والمتمايزة،والتي شكلت مجلدًا كاملًا، وفي هذا المجلد العرض التاريخي للأفكار ومناقشتها، ويتلوه التطبيقات في نظريات العلمنة في أوروبا وأمريكا، وأوجه الاختلاف بينهما.
شخصيًا دهشت من كمية الأفكار والنقاشات التي تضمنها الكتاب، وأثر الكثير من الشخصيات غير المعروفة أو المهمشة والتي لم تعطى حقها في السياق الأوروبي على مفكرين وفلاسفة اشتهروا على نطاق واسع، أكثر بكثير من أولئك الذين كانوا هم سبب التأثير. وكذلك دهشت من عرض الكاتب للكثير من الأفكار التي كانت سائدة ومنتشرة والتي أخذ منها العديد من المفكرين والفلاسفة فبدت وكأنها أفكارهم الأصيلة، ومن هنا أهمية إرجاع كل شخص إلى سياقه الفكري والتاريخي والثقافي، فالكثير من الأفكار والنظريات المعاصرة والحديثة هي امتداد إلى أفكار ونظريات مطروحة في التاريخ الأوروبي منذ العصر الوسيط، بل إن بعض هذه الأفكار لها جذور دينية ولاهوتية جرت علمنتها إلى صيغ أخرى، أو تم استبدال كثير من العقائد الدينية إلى عقائد علمانية شبيهة أو تؤدي ذات الدور والوظيفة التي أدتها العقائد الدينية
الكتاب بشكل عام موضوعي وحيادي بقدر المستطاع، لا يقدم العلمانية كما قدمها بعض المفكرين العرب كأنها هي الحل أو الخلاص النهائي، ولا هو شوهها استنادًا لبعض التجارب التاريخية. وأخيرًا كان هذا المجلد من حيث استيعابي لأفكاره وغرضه أسهل من سابقه، غير أن هذا لا يعني يسر فهم كل ما جاء فيه، فلغة بشارة صعبة عمومًا، وفيها عرض للأفكار بشكل فني في أحيان كثيرة، فلا يسهل على القارئ غير المتخصص في الفلسفة والفلسفة السياسية فهم الأفكار على نحو دقيق وواضح، إلى جانب أن المجلد تضمن أسماء لأعلام ومدارس وتيارات كثيرة جدًا، يضيع القارئ فيها واقعًا، خصوصًا في معرض بحثه في العصر الوسيط وما فيه من مدارس لاهوتية ولاهوتيون وفلاسفة وغيرهم، والنقاشات اللاهوتية التي جرت بين تلك المدارس والتيارات ذات الطبيعة الدينية واللاهوتية والفلسفية، والنقاشات الفلسفية بشكل عام على طول الكتاب. ومن هنا أعتقد أن هذا الكتاب، على الرغم من أهميته الكبيرة، ليس موجهًا للجميع، فهو كتاب هام وموسوعي، ودقيق جدًا، لكن للمختصين والمهتمين في هذا الموضوع سواء كانوا علمانيين أو غير علمانيين.
في هذا الكتاب الموسوعي الذي أصدر بعنوان فرعي:العلمانية والعلمنة الصيرورة الفكرية خصّص الكاتب هذا المجلد لمعالجة الصيرورة الفكرية والثقافية لنشوء العلمانية من أصولها الأوروبية بعملية تأريخ نقدي للأفكار، بحيث يعيد هذا التأريخ النظر في ما هو مألوف من مقاربتها حتى الآن، ويمكّن من فهم الجدلية بين الدين والسياسة في التاريخ الأوروبي بطريقة مختلفة عمّا هو رائج، ويتيح فهم جذور التفكير العلمانية بصورة أفضل، انطلاقًا من السياق التاريخي الأوربي. الكتاب عبارة عن 910 صفحة مقسمة الى 12 فصل يتناول الكاتب بعمق العلمانيةفي منشئها وسيرورتها وإنجازاتها وبحث العلاقة الدين بالعلم والسياسة. تلخيص للفصول الكتاب موجودة في الكتاب من صفحة ١١ الى ص ٣٦.