. لم تعد قراءة ديدرو في عصرنا أمرًا يبعث على الحرج كما كان الحال في زمن بلزام وبودلير، فقد نُسب إليه ما يفوق طاقته من التهم والمحظورات. غير أن الحاضر قد استقبله بترحاب، وانصرف إلى دراسة أعماله الجليلة والحديثة، الأمر الذي يدعونا إلى إعادة النظر فيه بروح منفتحة، لنقدّر عبقريته حق قدرها، ولننال من متعة قراءته ما يستحقه ما نبذله من جهد.
كان ديدرو يؤمن بأنه يعمل من أجل مجدٍ لن يتحقق له في حياته، وهو ما صدّقته الأجيال اللاحقة، إذ لم تعترف بقيمته إلا بعد قرنين من التهميش والافتراء، حين رأت فيه المفكر والأديب. وقد مثّل اكتشاف “المراسلات” — هذه التحفة الأدبية — دافعًا للنقاد للعودة إلى الوثائق الأصلية لإعادة تقييم حياةٍ غنيةٍ بالإنتاج، وإن بدت في ظاهرها رتيبة أحيانًا.
كان ديدرو وفيًّا لأفكاره، وهو ما أثار ضيق أولئك الرافضين للتجديد. وقد دعا البشرية، في قديمها وحديثها، إلى التحلي بالشرف والإقدام، وهذا ما يستوجب التقدير فيه؛ إذ كان روحًا تتذوق متعة الفكر، وتتلاعب بالتصورات، وتستكشف مفاجآت التشابهات.
تسلط صفحات هذا الكتاب الضوء على شخصية ديدرو من خلال سيرته الذاتية وأبرز إبداعاته في ميدان الكتابة، في قراءة مثقفة تتأمل أثره وأصالته الفكرية
"الأجيال القادمة للفيلسوف هي كالدار الآخرة للمؤمنين، هذه الفكرة متأصلة في أعماقي وتعزّيني ولا تتركني أبداً." ولو أنك بعثت في زماننا يا ديدرو لقرّت عينك واستراح خاطرك إلى ما انتهى إليه قومك من تعظيمك، أفكارك تغلب على عقولهم وأهوائهم أشد مما تغلبهم عليها كتبهم المقدسة، فالنظرة المادية طاغية، والعلمانية نافذة، والتنوير هو العقيدة، ولكن يا ترى أيعجبك ما ستراه من المصير الذي قادت البشرية أفكارك وأفكار رفاقك إليه؟
أقبلت على دينيس ديدرو (1713-1784) في هذا الكتاب مشغوفاً باندفاعه ونضاله الفكري، ثم تكشفت لي جوانب مخيفة من هذا الرجل، كثير منها فاجأني بتناقضه واعوجاجه. ديدرو مفكر مادي ملحد، يرى أن احتمال خلق الكون من خالق لا يوازي ملايين الاحتمالات الأخرى، مع أنه في رسالة له يقول بتقديم البرهان العقلي على الحوادث الكثيرة المشاهدة، وهو في الأخلاق ينفي وجود فضيلة أو رذيلة، إنما هناك إحسان وسوء، والطبيعة هي التي تحتّم على الإنسان أن يكون محسناً أو مسيئاً، ولا خيار له في ذلك، ومن واجب المشرّعين أن لا يفرضوا على الطبيعة الإنسانية ما يقيّدها ولن يغيّرها، ويشبه هذا رأيه في القدر، فهو جبري تقريباً، ولهذا روايته «جاك المؤمن بالقدر» كتبها ليظهر سلطان القدر الحتمي على كل شيء في الإنسان، وأن الحرية ليست إلا وهماً تولّد في الذهن لأن المرء يرى تنوع الحياة الشديد فينخدع ويظن في نفسه قدرتها على الاختيار.
من مفارقات ديدرو أنه-وهو الرجل المتمرد الملحد الذي ينكر وجود فضيلة أو رذيلة-كان يغشى الصالونات ويتخذ الخليلات-هل ننسى خليلته الوفيّة صوفي؟-ومع ذلك يمنع امرأته من إتيان تلك الصالونات ويطالبها بالتزام الفضائل، وربى ابنته على سلوك الحشمة وحذّرها من مباسطة الرجال وتصديق الكلمات الغزِلة، وهو الذي وجّهها في اختيار زوجها، وكان يأبى للبنت أن تختار زوجاً لا يوافق عليه أبواها (ويلك ألم تفعل ذلك في زواجك؟)، وكان يتغنى في رسائله لخليلته صوفي بالفضيلة، وأوصى أحد من قرؤوا كتابه «حلم دالمبرت» بألا يذيعه في الناس خشية أن يطعنوا في أخلاقه لما فيه من المجون والآراء المنكرة.
الكتاب قسم فيه استعراض لسيرة ديدرو وفكره، ثم قسم-هو الأكبر-فيه قدر طيب من نصوص ديدرو، من كتبه ورسائله، وقسم أخير وجيز فيه عبارات قيلت في ديدرو. وهو من تأليف الأكاديمي السويسري شارلي غيو، نشر في منتصف القرن الماضي، وقد وقعت على الأصل من هذا الكتاب فوجدته محلّىً بالرسومات والخطوط، وشعرت أن في محتوى النسخة العربية نقصاً، مثال ذلك: سيرة ديدرو في إنتاج الموسوعة الشهيرة Encyclopedia لم يعرض لها الكتاب مع أنها محلّ شهرة الكاتب وأكثر إنجازاته تأثيراً شعبياً، وكذلك الكتاب لم يقصص علينا من نشأة ديدرو حدوث وتطور الخلاف الكبير مع أبيه، فقد أراده أبوه ليكون أي شيء إلا كاتباً وفيلسوفاً، ولم يذكر الكتاب أن نانيت التي أوسعها ديدرو ذمّاً كان قد تزوجها عن غرام قاطَعَ له أباه وأرغم فيه أم الفتاة، غرام له قصة لم تجئ في الكتاب، كذلك رحلته إلى روسيا وصلاته بكاترين الثانية لم يأت الكتاب عليها. وسواء أكان إهمالٌ في نسختنا العربية أم تقصيرٌ من المؤلف السويسري، أوصي لمزيد الاطلاع واكتمال الصورة عن ديدرو بالعودة إلى ما كتب عنه في قصة الحضارة 26:38.