تعالج الرواية الأوجه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للصراع التاريخي بين الغرب والشرق في الساحة العراقية في بداية اكتشاف الانكليز للنفط واستثمارهم له الى الخمسينات. وهي العمل الأدبي السادس لمهدي عیسی الصقر.
تجري الأحداث في مكانين تحتويهما بقعة جغرافية واحدة بالقرب من البصرة جنوب العراق في اطار من التضاد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين سكان كل منهما وبما لكل منهما من خصوصية. يقسم المؤلف العمل الى قسمين الأول يحمل عنوان "جنة الثعلب"، ويتناول حياة العمال العراقيين في احد معسكرات العمل في آبار النفط والثاني "وکر النسر" ويتناول حياة مديري المشروع الاجانب والخبراء العراقيين وما يحيط بهم من خدم ينتمون الى قرية أقيم المشروع بالقرب منها . ويعرض الجزء الاول واقع معيشة العمال العراقيين بعيدا عن عائلاتهم في المعسكرات التي يحشرون فيها داخل الخيام وسط الصحراء ورمالها الحارقة. ففي هذه الخيام يتعايش المناضل اليساري والجاسوس والضحية والشاذ والحيادي الذي يتحول فيما بعد الى مناضل يفقد عمله اثر اكتشاف امره من قبل الانكليز. اما في «وكر النسر» فيعتمد الكاتب اسلوب السرد لينقل على لسان مهندس عراقي درس في بريطانيا ، حياة الرفاهية التي يعيش فيها الأجانب والخبراء العراقيون بالقرب من النهر بين الحدائق ومداخل الفيلات المكيفة مع زوجاتهم وخليلاتهم وسط جيش من الخدم. ويشكل محمد الذي يعيش في معسكر العمل محور الوجه الأول من الرواية
ومن خلال هذه المشاهد الذي يعمل في الوقت نفسه في ادارة المشروع كمترجم يقوم الكاتب بفضح العلاقات القائمة من خلال رواية يكتبها محمد ويعري فيها الظلم الواقع عليهم. وبتأثير من المناضل اليساري ينتقل الراوي الى موقع الفاعل المطالب بتحسين مستوى حياة العمال العراقيين ليكشف من خلال ذلك تدريجيا عن الجاسوس المستتر والشاذ والضحية واليساري الذي يفشل في تجميع الناس حوله بسبب نظرته الجامدة للامور.
وفي الوجه الثاني تظهر شخصية المهندس حسام المثقف الليبرالي الذي يسعى الى التودد للعمال ويبرز في هذا الوجه التناقض بين الرغبة في الارتباط بالثقافة المحلية والعيش على الطريقة الغربية. إلا أن العزلة الناجمة عن الرغبة في اقامة علاقة ودية مع الجانبين تؤدي الى حسم موقف المثقف الذي يتخلى عن مواقفه عندما تتعرض مصالحه للخطر عبر خضوعه لارادة الشركة المستثمرة. اعتمد الصقر في روايته التي تقع في حوالي ٥٠٠ صفحة اسلوبا سردیاً سلساً قام من خلاله بتطوير شخصياته وكشفها بشكل تدريجي محكم ابرز التداخل بين المكانيين من خلال اختياره الموقف للراوي في كل منهما. وهذا الاسلوب مكن الكاتب من التقدم بصورة هادئة لفضح آلية تدمير الانسان تحت عجلة المؤسسة الاقتصادية الجبارة .
للكاتب أيضاً ثلاث مجموعات قصصية هي "مجرمون طيبون - ١٩٥٦" و"غضب المدينة - ١٩٩٠" و"الحيرة سيدة عجوز - ١٩٨٩"، الى جانب روایتین هما "الشاهدة والزنجي - ١٩٨٨" و"اشواق طائر الليل - ١٩٩٠"
حياته ونشأته: ولد في البصرة سنة 1927، نشر أولى محاولاته القصصية في مجلة الأديب اللبنانية في الخمسينات من القرن الماضي، صدرت أولى مجموعاته القصصية (مجرمون طيبون) سنة 1954.
مسيرته: يعد القاص مهدي عيسى الصقر من قصاصي جيل الخمسينات المجدد في العراق فهو إلى جوار عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمود الظاهر ومحمود عبدالوهاب من القاصين الذين تمكنوا من المزج بين الواقعية لتسجيل أحداث اجتماعية مهمة وبين الفنية المعتمدة على المخيلة المحلقة في مناطق شعبية تستمد وعيها من المثيولوجي والغرائبي.
عده الناقد الدكتور علي جواد الطاهر من أحد القاصين المتميزين في الأدب القصصي ولما ظهرت أولى مجموعاته القصصية في عام 1954 بعنوان «غضب المدينة» اسس رؤية نقدية للواقع، باسلوب فني وصف بقربه من أسلوب تشيخوف.
عمل القاص مهدي عيسى الصقر موظفا في شركة نفط البصرة لاكثر من خمس وعشرين سنة وهو المكان الذي مكنه أن يكون أدبه وكتاباته خاضعة لحركة الشارع بتياريه: الموظفون والعمل.. وقد مكنته وظيفته هذه من أن يفهم معاناة عمال النفط ومشكلاتهم فهما طبقياًً. فكان في الخمسينات قريبا من أوضاعهم ومن أفكارهم دفعه ذلك لأن يرتبط بالتيار التقدمي اليساري وشهد على مدى عقود مظاهرات عمال النفط والديكيار والسيكاير والسينالكو والموانئ العراقية فاستبطن تلك الأحداث لاحقا في نتاجه. وهو من القاصين القلائل الذين بقوا ملتزمين بالتيار الواقعي في القصة. لإيمانهم أن الواقعية غينة بالدلالات.
مسيرته الأدبية و في أواسط السبعينات بدأ ينشر قصصا في مجلات عربية وعراقية من قصصه المتميزة «زيارة السيدة العجوز». والتي حملت عنوان مجموعته القصصية الثانية هي مجموعة قصصية وقف فيها على تنوع التيار الواقعي مع الكثير من البنية الشعرية الهادئة في النص. في بغداد وجد أن الظروف المغايرة لجو البصرة تمكنه من ان يعيد نشاطه القصصي ولكن بأسلوبية جديدة فقد زاد في نصة تغريب الواقع، والبحث عن أفق حداثي في الموضوع الواقعي والعودة إلى تاريخية الحدث وإلى التعامل الحذر والدقيق مع المكان وهو ما ميز تيارا في القصة التي يمكن أن تقرأ من خلالها بعض ما حدث في المجتمع العراقي. وداب في هذه الفترة على كتابة تخطيطات أولية لمشاريع قصص قصيرة وروايات، هنا بدأ الفن يضغط عليه بعدما كانت المخيلة. ولكنه لم يكن مستعدا أن يغامر بالنشر في فترة ملتبسة. يكتسب الحديث عن القاص مهدي عيسى الصقر جوانب مهمة من حياة الثقافة العراقية الحديثة. فهو من جنوب العراق ويعني ذلك كما انعكس في قصصة ورواياته أن البيئة الجنوبية كانت حاملة لنوى التحديث في الشعر وفي الفن المسرحي والقصصي. كما هي حاملة في الوقت نفسه لكل أقدام المحتلين الأجانب من فرس ومغول وإنكليز. ولذا كانت هذه البيئة وما تزال عرضة للتغيير الديموغرافي والجغرافي. ولا نعدم القول إذا قلنا أن البصرة وبقية المدن العراقية الجنوبية والشمالية قد تعرضت على يد حكام العراق ما يوازي ما تعرضت له على يد المحتلين. ضمن هذا المناخ المستمر منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم تتعايش الثقافات في مدينة البصرة وتتداخل التجارب. فهي مدينة ميناء ونفط ونخيل كما تجد فيها تجانسا غريبا لأقوام من مختلف شعوب العالم، فالمدن الميناء ذات طبيعة عالمية وأن حملت اسما محليا وتراثا عربيا. فهي كغيرها من موانئ العالم.
في هذا الجو وجد القاص مهدي عيس الصقر كما وجد كتاب آخرون: السياب وسعدي يوسف والبريكان ومحمود عبد الوهاب ويعرب السعيدي ومحمد خضير وعشرات من أدباء العراق الأرضية التي تنمو فيها المتناقضات وتتضح فيها خيوط السرد المختلفة المشارب. وقد مهدت هذه البيئة للقاص مهدي عيسى الصقر أن يجد في معسكرات الشعيبة وفي محلات البصرة القديمة مكانا وثيمة يستل منها قصصه وأحداثه. لعل روايته القصيرة الشاهدة والزنجي خير دليل على هذا التزاوج بين سكان المدينة وأحداثها. بانتقال القاص مهدي عيسى الصقر إلى بغداد في أوائل السبعينات رغم أنه بقي صامتا لم يلتق بأحد لفترة طويلة إلا أنه كان ينتج وفي أواسط الثمانينات بدأ ينشر قصصه القصيرة في مجلة الأقلام العراقية والآداب البيروتية. وفي هذه الفترة بدأ يكتب روايته القصيرة الشاهدة والزنجي وهي باكورة نشاط استمر لعشر سنوات وعندما ظهرت في أواسط الثمانينات تعامل النقد العراقي معها تعاملا جادا.
وهي رواية تتحدث عن المدينة المحتلة من قبل الأجنبي وكيف يولد هذا الاحتلال خللا في العلاقات بين الناس تصل إلى حد الزنى والقتل للأجنبي فمن خلال امرأة شعبية تدفهعا الظروف لممارسة الجنس في البساتين يكشف عن بقعة غنية بالدلالة عندما تكون المرأة رمزا لمدينة محتلة من قبل الأنكليز. ومن داخل هذه البنية السياسية يطل مهدي عيسى الصقر على واقع المجتمع العراقي في الأربعينات فيكشف فيه عن تركيبة اجتماعية تعتمد على ثيمة التجاور بين سكنة ا