الإيمان لا يترك الإنسان دون أن يُعيد تشكيل نظرته ويُذكِّره بفطرة التوحيد، ويشحن وجدانه بمعانٍ يستحيل على غير الدين الوصول لها، فتمتلئ نفسه؛ حمدًا وشكرًا واستغفارًا وتسبيحًا وتكبيرًا وذكرًا، فلا يتركه فريسةً للهم والكرب والأسى والحزن وحيرة العقلانية، بل يُعيد له توازنه ويصحِّح مساره، ويُعلِّمه كيف تكون الأخلاق فعلًا وحركة لا اسمًا ووصفًا، وكيف أن العبودية منهج حياة لا محيص عنه! وإذا حانت آخرته وفي يده فسيلة؛ ماذا يجب عليه أن يفعل!
وهذا هو الفرق بين الدين والمنظومات المادية الوضعية التي تنفصل التكاليف فيها عن الأخلاق، وتتعالى على مشاعر الناس لأنها تتعالى على واقعهم، أما الإسلام فلأنه لا يتعالى على الواقع ولا ينفصل عنه؛ لا يحط من مشاعر الناس، بل يستجيشها ويقويها ويستخرج منها طاقة دافعة للعمل، فيخبره بوضوح: من هو، ولماذا يواجه ما يواجه، وماذا عليه حين يواجه، وفي أي صف هو، وماذا ينبغي أن يفعل! كل ذلك حتى يوجِّه طاقته النفسية نحو البذل والغرس، لا في دار الدنيا فحسب، ولا في دار الآخرة فقط، بل في الدارين معًا.
فكل قضية من قضايا المسلمين، وكل ظاهرة في حياتهم لها “إيمانيات”، من عقائد وسُنن وأصول أحكام تُحيط بها، ويتشكل من خلالها وعينا بهذه القضية وهذه الظاهرة، وهذا لزوم كون المسلم “عبدًا” لله عزَّ وجلَّ.
والحقيقة أن إيمانيات قضايا المسلمين الكبرى؛ تُسوَّد فيها عشرات الصفحات، ولذلك حاولتُ أن أركز على أهم أفكارها، أبثُّ من خلالها الأمل في النفوس وأشحذ الهمم، فكل سوء ظن بالله والعياذ بالله، ثم بالأُمة، ثم بالنفس؛ إنما هو نتيجة نقص معرفته بهذه الإيمانيات، وعلى قدر ما يكتسب الإنسان من ثقة في هذه الثلاثة؛ بالله وبالمؤمنين وبنفسه؛ على قدر ما يُمكنه مقاومة الواقع وتغييره، فالمسلم لا يسترد عافيته كمسلم إلا حين يثق في الله ويستعيد ثقته في نفسه وفي المؤمنين.
قاضي سابق، ومحاضر في القانون والاقتصاد. حاصل على الدكتوراه في فلسفة القانون من كلية الحقوق، جامعة المنصورة برسالة حول (حُجية وسائل الاتصال الحديثة في الإثبات الجنائي، دراسة مقارنة) (٢٠١٨)، ودبلوم الفلسفة الإسلامية والغربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة (٢٠١٧)، والماجستير في الاقتصاد، المعهد العالي للدراسات الإسلامية بالقاهرة، شعبة بنوك إسلامية برسالة تحت عنوان (المُؤشرات المالية الإسلامية، دراسة تطبيقية) (٢٠١٦)، ودبلوم الأنثروبولوجي من كلية البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة (٢٠١٦)، ودبلوم الدراسات الإسلامية، من المعهد العالي للدراسات الإسلامية بالقاهرة (٢٠١٢)، والماجستير في القانون الخاص من كلية الحقوق بجامعة المنصورة (٢٠٠٧)، وليسانس حقوق، من كلية الحقوق بجامعة المنصورة (١٩٩٩).
هذا الكتاب يتخذ من "الإيمانيات" عدسة لفهم مشهد الأمة، لا يقدم تحليلًا سياسيًا، ولا يتورط في حسابات الجغرافيا والتحالفات، بل يغوص في عمق النفس، في العلاقة بين الغيب والواقع، بين العقيدة والمحنة، بين النصر الذي لا يُرى، والخذلان الذي يخدع.
في مقدمة آسرة وشخصية، يصحبنا المؤلف عبر مشاعره المختلطة: كيف كانت مشاهد الثبات في البوسنة تشد روحه نحو فكرة: أن النصر ليس هو الذي يُعلن في المؤتمرات، بل هو ذلك الثبات الذي لا يُرى إلا بعين الإيمان. وحين وقعت أحداث "طوفان الأقصى"، وجد المؤلف نفسه يعيد المشهد ذاته، لكن هذه المرة مع وضوح أكثر، وتجربة أوسع، وشعور عميق بأن ما ينقص الأمة ليس فقط العُدة، بل اليقين.
ينقسم الناس ـ كما يقسمهم الكتاب ـ إلى ثلاثة: من استعدوا قبل الطوفان، فثبتوا وصدّقوا وانتصروا. ومن هزّهم الطوفان فأيقظهم بعد غفلة. ومن لا يزالون لا يشعرون بشيء. وذلك لأن الكتاب يقوم على أطروحة مركزية وهي "أن كل قضية من قضايا الأمة ـ لا سيما قضية فلسطين ـ ليست مجرد شأن سياسي أو تحرري، بل هي قضية إيمانية بامتياز، لا يُمكن فهمها أو الثبات فيها دون العودة إلى أصول العقيدة وسنن الله في النصر والابتلاء".
هذه الفرضية يتفرّع منها الكتاب، ويفكك عبرها رؤية الناس للواقع، ويعالج علل الهزيمة، ومظاهر الوهن، وسوء الفهم لقوانين التمكين. كل فصل يتناول ظاهرة نفسية أو فكرية أو اجتماعية تُعيق الفهم الصحيح والتفاعل الصادق مع قضايا الأمة، ويعالجها المؤلف من خلال الاستدلال القرآني، وتطبيق السنن، وسرد النماذج التاريخية، دون إسهاب، ولكن بكثافة فكرية وروحية ملحوظة، مثلًا يؤكد المؤلف أن أحد علل انكسار الوعي الإسلامي الحديث هو الاعتماد المفرط على المعطيات الحسية والمنهج المادي في تفسير الصراع. هنا يضع المؤلف أساس البناء: أن عالم الشهادة ليس هو كل الحقيقة، وأن ما يبدو هزيمة قد يكون نصرًا، وما يبدو استقواء قد يكون استدراجًا.
من ناحية أخرى يبني المؤلف مفهومًا قرآنيًا للتاريخ، يتجاوز النظرة الخطية للماضي. يرى أن القصص القرآني ليس للتسلية، بل لتشكيل الإدراك العقدي للمؤمن. فيعيد ربط الحاضر بسنن الأمم السابقة، ويجعل من التجارب الماضية أدوات لقراءة المستقبل واستشراف المصير. إذًا ..لماذا لا ننتصر؟؟ أول ما يشخّصه المؤلف هو سوء تعريف مفهوم "النصر" عند المسلمين المعاصرين. نحن نظن أن النصر هو الغلبة الظاهرة الفورية، والانتصار المادي المباشر.
لكن القرآن يُعلّمنا أن النصر قد يكون: ثباتًا في زمن التخاذل أو صبرًا في زمن الفتنة أو شهادةً ورفعة في مراتب الآخرة. يرى المؤلف أن التمكين لا يأتي إلا بعد المرور بمرحلة طويلة من الابتلاء والتمحيص. وأن هذه السُنّة لا تتبدل، منذ عهد الأنبياء إلى اليوم. كما يرى المؤلف أن من أسباب تأخر النصر هو الاعتماد على الأسباب الظاهرة بمعزل عن التوكل الحقيقي على الله.
وقد يهيّئ الله النصر فقط حين ينقطع أمل المؤمنين من كل حول وقوة، فيتوجهوا إليه وحده. ورغم أن الكتاب لا يتورط في التفاصيل السياسية المباشرة، إلا أن ظلال الواقع حاضرة في كل سطر. فهو يتحدث عن فلسطين، عن غزّة، عن سوريا، عن البوسنة، عن السودان، وعن "المعركة النهائية" التي لا يراها المؤلف بين دول وتحالفات، بل بين صفّين إيمانيين: صفّ يعتقد أن النصر من عند الله، وصفّ يُحسن الظن بالأمم المتحدة ومجالس الأمن والبنك الدولي.
"تثبيت الأقدام" ليس كتابًا في الفكر السياسي، ولا في التحليل الاستراتيجي، بل هو كتاب في تربية النفوس المؤمنة في زمن الارتباك. الخلل الحقيقي ليس في قوتنا العسكرية، ولا في عدالة القضية، بل في الاضطراب العميق في رؤيتنا لها. نحن نتحرك كثيرًا... ولكن على أرض غير ممهدة، بأقدام لم تُثبّت.
ومن هنا بتصوري من أعمق فصول الكتاب، تلك التي تتحدث عن مركزية "الإيمان بالغيب" في تشكيل الوعي. الغيب ليس فقط ركنًا من أركان الإيمان، بل هو البوصلة التي تقيس بها الخير والشر، النصر والهزيمة، الشهادة والموت. يريدنا المؤلف أن نرى الواقع كما يراه الله في كتابه، لا كما تراه الشاشات: فالشهادة حياة، والابتلاء اصطفاء، والاستضعاف تمهيد، والتأخير تربية. الاستعمال في معركة الله ليس ترفًا، بل هو اصطفاء، يحتاج إلى قلوب صادقة، وعقائد ثابتة، ونفوس رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا.
الكتاب مشحون بالآيات والأحاديث، والتفسير العقدي لها، دون تعقيد فقهي أو تنظير جدلي. يحمل نَفَس أهل القرآن، ومنهج أهل السنن، بعيدًا عن التكلف أو الاصطفافات الفكرية الضيقة. الكتاب لا يدعو إلى الانسحاب من الواقع، ولا يُهمل الأسباب، لكنه يؤكّد على ضرورة أن ننطلق من داخل الإيمان لا من خارجه.
لست وحدك! أنت واحد من بين الآلاف بل الملايين اللي تتالت عليهم النوازل وحاصرتهم الآراء قبل أن يحاصرهم العدوّ المادي، وتاهت بهم الخطى حتى كادت أن تزلّ… وأمام هول ما شهدوه من تقتيل ومجازر في مشارق الأمّة ومغاربها، في أرض الذهب التي ذهب جلّ أهلها، والأرض التي بُورك حولها، زُلزلت مفاهيمهم وأقدامهم. فجاء هذا الكتاب مثبتًا للأقدام، معالجًا لهذه الحيرة، مرتبًا للصفوف، وضابطًا لإيمانيات قضايانا الكبرى!
“تثبيت الأقدام: إيمانيات قضايانا الكبرى” كتاب نظمه الدكتور محمد وفيق زين العابدين في ما يديد 167 صفحة تغني عن مجلدات كاملة! يقوم الكتاب على فكرة مركزية مفادها أن كل قضية للأمة لها “إيمانيات” تحكم الوعي بها. أجاب فيه الدكتور محمد وفيق عن أسئلة محورية طالما استُشكلت على المؤمن في كيفية التعامل مع قضايا الأمّة والتفاعل معها شعوريًا وعمليًا، لحمل هذا الكتاب طابعًا بنيويًا متكاملًا يجعل كل فصل امتدادًا لما بعده، بحيث تتحول القراءة من خطاب وجداني إلى “منهج” متكامل لفهم الواقع عبر ميزان الغيب والشهود. الكاتب لا يقدّم مجرد مواساة، بل يضع “معايير” ثابتة لوزن الأحداث وإعادة ترتيب مفاهيم الخوف، النصر، الابتلاء، الاستضعاف، الغلبة، والعمل. هذه البنية ليست زخرفًا بل هي محور الكتاب كلّه.
وقد نجح في اخراجه عن كونه كتابًا روحيًا تزكويًا محضًا، وعن تصنيفه كتابًا فكريًا تحليليًا جامدًا، بل جامعًا بينهما، لكثرة ما حشد فيه من شواهد عقلية ونقلية من حديثًا وتاريخًا، كتابًا وسنّة يخرج.
واللافت في طريقة بنائه أنه يبدأ من “الحقيقة” ذاتها؛ من علاقة المؤمن بالغيب، من الميزان الذي يوزن به كل شيء، ثم يأخذك ويهبط شيئًا فشيئًا إلى الأرض: إلى الوعي، إلى الشعور، إلى الفعل، إلى الموقف. ترتّب الفصول كمن يسوقك من العلوّ إلى الواقع، من الفكرة إلى الحركة، فلا يوجد فصلٌ يأتي صدفة، ولا عبارة تُلقى بلا مقصد.
اذن أنّ المقدمة ليست مجرد تمهيد، بل هي تأسيس للدرس العاطفي-العملي: كيف تصنع المآسي “وعيًا”؟ ثم ينتقل إلى باب “الحقيقة والغيب” ليضع حجر الأساس: لا وعي صحيح دون ميزان غيبي. وبعدها تأتي بقية الأبواب كتطبيقات لهذا الميزان: الاستضعاف، الغلبة، العجز، الاصطفاف، زيف القيم الغربية… كل فصل يقدّم مفهومًا يحتاجه المؤمن ليثبت قدمه أمام الواقع. ثم يختم بنقد المرجعيات الحديثة (القيم الغربية والأنظمة الأرضية). هذا البناء الهرمي يسمح للقارئ أن ينتقل من “الفهم” إلى “العمل” بطريقة تدريجية مدروسة بدقة.
وبدا جليًا أنّ النَّظْم القرآني قد أثّر في أسلوب الكاتب، ذلك أنّه ناسب بداية الكتاب مع نهايته، حيث استهله بضبط مفهوم الحقيقة في الدين وبيّن مركزية الإيمان بالغيب في وزن الأمور: “الحقيقة في الشريعة لها معنًى مختلف عن الحقيقة عند الماديين والطبيعيين، الحقيقة لها جانب منظور وجانب خفي، فالخلل الحاصل عند الماديين ومن يقيسون الأشياء في الحياة بالمقاييس الدنيوية المحضة؛ يحصل حين لا يرى الإنسان عالم الغيب أو يضعف يقينه فيه، فلا يرى الأمور على حقيقتها، كأنه مغبون مغشوش.” ويختم الكتاب بالحديث عن زيف القيم الغربية ووهم الأنظمة الأرضية، إذ يقول في الفصل الأخير: “إن أمكر ما استُدرجنا إليه حين أوهمونا بأن الإنسانية هي إنسانية جدًّا، فهي الرحمة وهي الخير وهي الحق، هي الربُّ مصدر الحقوق التي ينبغي أن تُمنح، خاصةً إذا كان مانحها “أبيض”، فلا يحتاج لإلهٍ ولا قوانين سماوية ولا وعد بجنة ولا تخويف من نار، هو “فقط” يعرف ما له وما عليه! إن استيلاء الإنسان على السيادة فيه، واحتكاره لمعايير القيم والأخلاق، هو الذي أنتج هذا العالم المشوّه”.
هذا النوع المتوازن للكتابة، وهذه الإحاطة بمكونات الإنسان من روح وشعور وعقل، وهذا الاستحضار المتوازن للشواهد من حجة عقلية ومن شواهد واقعية وعقلية ونقلية، ومن الوحيين كتابًا وسنة، جعلت من المؤلَّف عقارًا مكبسَلًا ونصًا نحضره كلما أصابنا دوار الأزمات وزلّت أقدامنا فيثبتها…
قراءة ممتعة!
This entire review has been hidden because of spoilers.
"إنّ حملةَ الإسلامِ بحقٍّ لا يرضَخون للباطلِ، وإن بلغوا ذروة محنتهم، أو كان أهلُ الباطل في أقصى قوَّتهم؛ لأنّهم يدركون أن قوّتهم لم ولن تنبع يومًا من كثرةٍ أو عتاد، بل نَبعت دائمًا من عقيدتهم التي يؤمنون بها ويذودون عنها؛ ولذلك كانوا على يقينٍ من نصر الله وفرجه. لكن النّصر لا يأتي بمحضِ إدراكِ الحقِّ أو نُصرةِ قضيته، بل بالثّبات عليه ثباتًا بعد ثبات، حتى يظنَّ أهلُ الحقِّ – ويظنَّ أهلُ الباطل معهم – أنهم مهزومون لا محالة. وهنا يكون الامتحانُ الشديدُ لعقيدتهم، ليظهر معدنهم الحقيقي، فيتميز المخلصُ الصادقُ من المدَّعي الكاذب. فمَن فَقَدَ الثقة بالله فقد حَجب عن نفسه نور الأمل، وحَرم روحَه نَسمة الفرج، ومن يئسَ من وعد الله بنصرِ عباده المؤمنين؛ فقد حبس قلبه في سجن الكرب، وسَلَّم عنقه لمِشنقة الألم. فإنّ الله ناصرُ المؤمنين الصّابرين القابضين على الحقّ لا ريب، ومُعلي رايتهم وكلمتهم لا محالة، وما التّضييقُ إلاّ لتقويةِ العودِ، وما التشديدُ إلاّ لتهذيب النّفس المؤمنة على ألَّا تُبذل إلاّ في كلِّ غالٍ ونفيس، وما تأخُّرُ النّصر إلا للاستمتاعِ بلذته بعد أن يُنال، ولاستقباله واستبقائه بعد أن يُحرَز، فهل يُختبَر الذّهب إلا�� بالنّار؟! وهل يُذاب الحديدُ إلاّ بالصّهر؟! وهل تُستأصل الأورام الخبيثة إلاّ بالقطع؟! " ____ من المهمّ أن يُقرأ اليوم وغدًا ودائمًا..