المكروه يحدث في كلّ مكان، لكنه لا يحدث لنا. لا يحدث في «مكاننا». لا يمكن أن يحدث. عندما نسمع في الأخبار عن حادث سيّارة، أو تراشق بالقذائف، أو قصف إسرائيلي، نفترض أنّ هذا يحدث في عالم بعيد موازٍ لعالمنا. إنّها طمأنينة يتحصّل عليها كل أهل المدينة مجانًا. توزّع عليهم بكميات كبيرة. ربّما يكون هذا هو ما يحول دون أن تفقد الناس صوابها وهي تسمع عشرات الطائرات المحملة بأطنان من المتفجرات تحلق فوق رؤوسها. أنّ كل واحد منهم يحسّ في أعماقه بأن الطائرات ستقصف بيوتًا بعيدة وأشخاصًا آخرين.
يستفيد المرء من مآسيه ولو كانت عن غير قصد، لربما كانت هذه الجملة من أهم ما يلخص ما جاء به محمود عمر في روايته الأولى، والتي أثارتني بكل تفاصيلها، فالعلاقة مع الأب كانت من أهم محاور الرواية رغم عدم ظهوره فيها مثلا، حيث جاءت تلك العلاقة على شكل "مخزن ذكريات" إلى جوار أشياء أخرى، مخزن بقفل ينكسر في اليوم عدة مرات، والأدهى أنه يفعلها دون سابق إنذار، كما يقول. رواية جميلة وقصيرة يمكن انهاؤها في جلسة واحدة باستمتاع واندماج كبيرين. رواية تحكي عن غزة كمدينة على هامش المدن لكنها لا تعترف بذلك.
مشكلة الرواية أنّ لا هويّة لها. بمعنى أنّها امتداد لمحمود عمر المدوّن أكثر منه محمود عمر الرّوائي. على المستوى الشخصي، فأنا أنبهر بما يكتب من جمل قليلة، لذا فتعليقي هنا على ليس السّرد، فهو محكم وجميل. مشكلة الرواية أنّ القصّة أصغر من مقاس الرواية. في الرواية إمكانات هائلة غير مستغلّة، خاصّة فيما يختصّ بالسينما. طوال الوقت أتساءل لماذا لم يمدّ خيط الفانتازيا المتعلّق بالأفلام التي تعمل وحدها؟ أو مثلًا قصّة علاء وليلى، فهي انتهت حيث أخذت في النموّ. بشكلٍ عام الرواية سمتها الانتهاء قبل الأوان.
لا أؤمن بالأعذار، خاصّة إن كانت الرواية هي الأولى لصاحبها. أؤمن فقط بالإجادة، ومحمود عمر أجاد إلى حدٍ بعيد هنا. عيبه الوحيد هو الاستعجال، وهذا يمكن تلافيه بسهولة في أعمال قادمة أتمنّى ألّا يطول انتظارها.
"أتمنى لو أجلب قُصَي معي إلى السينما، وأمّي ومريم وليلى وكل أصدقائي. هنالك متسع لنا جميعًا. أتمنى لو أدحش غزة كلها، بكل تاريخها القديم والمعاصر، بكل أزقتها وروائح توابلها وأمواج شاطئها وتنويعات سطحها ووجوه أطفالها في بطن السينما لتشاهد غزّة، غزة برمتها، فيلمًا، وتحظى بنهاية سعيدة ولو لمرّة واحدة" (ص ٦١).
بينما كنتُ جالسًا البارحة في إحدى مقاهي الدوحة مع عبّاد يحيى، مرّ محمود عمر وسلّم على عبّاد فعرّفني إليه بدوره. بعدها، سألني عبّاد إن كنت أعرفه، فأجبت بالنفي، وأشار إلى أنه من غزّة مثلي وله رواية جميلة اسمها "سينما غزّة". شعرت بتقصيرٍ من طرفي، إذ كنتُ أعتقد أنني قرأت غزّة قبل أن أخرُج، لكن يبدو أن هناك كتب خجولة تُفضّل أن تختبئ، انتظارًا ليدٍ تتعهدها بحنو، مثل هذه الرواية؛ "سينما غزة" (دار راية للنشر، ٢٠١٥).
الرواية، أو النوفيلا إن شئنا الدقّة، جميلة لكن مستعجلة، تركضُ صفحاتها وراء بعضها، مثل عصفورٍ يقفُ على الشباك وقبل أن تتمكن من التقاط صورةٍ له، يتركك مع أغنيته ويهرب. يجمعُ محمود عمر في روايته بين أكثر ما تتوق إليه غزّة (السينما)، وأكثر ما تكرهه وتتمنى شطبه من صفحتها (الاشتباكات/ الانقلاب/ الحسم "أحداث الانقسام 2006)، ليأخذك بذلك في فيلمٍ قصير إلى غزّة وعوالم سكّانها؛ قصص الحب المتوارية كما تحدث عند البحر وخلف النافذة، وإحساس أهلها بأنّ حقهم في المدينة مسلوب بعد أن صارت الكاميرات والبنادق تُزاحم شوارعها، والتناقضات التي تحملها مثل فيلمٍ مبتذل؛ "لكن ابتذالها [يمنح] شعورًا عميقًا بالرّاحة" (ص ١٢).
مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى - الرواية ترفضُ هذه التسمية بالمناسبة: "ما تسميها الانتفاضة الأولى. هيّ مش الأولى. احنا بننتفض من قبلها بكتير." (ص ٤٨) - أُغلقت دور السينما في قطاع غزة، وإلى اليوم تُجيب المدينة دون مبالاة: لا، على سؤالي: "هل يرفع كلاكيت غزة فَكّيْهِ عن شريطها السينمائي؟" (العربي الجديد، 15/5/2017). هذا ما يفسّر سعادة بطل الرواية علاء عندما يجدُ مفتاح سينما النصر، التي باتت أشبه بالمزبلة، في مكانه: "ما أجمل أن تجد مفتاحًا. المفاتيح حنونة على عكس الأقفال" (ص ٤١)، ولا يعود ضربًا من الجنون أن تعود السينما إلى الحياة، بل أن تستمر في الموت.
مع ذلك، "الأشياء تحدث؛ هذه هي المشكلة. الأشياء تحدث، تتكوّن، تتوفر من أجلها كل الشروط اللازمة. كل المتطلبات. الأشياء تحدث وغزّة أصغر من أن تجهل ما الذي يحدث فيها. في كلّ زقاق من أزقتها. في كل غرفة وفي كلّ بيت. هكذا يربّي الكبار الصغار في هذه المدينة. هكذا يحذرونهم من العيب والحرام" (ص ٧١)، وهكذا تتجاوز هذه الرواية خجل الروايات الغزية الأخرى التي حاولت تصوير المدينة، بالأبيض والأسود حينًا، وبالألوان التي تشبه زحمة شاطئها، ملتقطةً صورة سردية بسيطة، لكن حقيقية وكاشفة مثل سؤال الغزّي حول بحره/ قدره : "لماذا أفكر فيه باعتباره بحيرة؟ مساحة واسعة من الماء الذي وجد نفسه مصادفةً في هذا المكان مثلما حدث معي؟ لماذا أقف عاجزًا عن تصديق أنّ لبحر غزّة شاطئًا آخر؟" (ص ٥٤).
"كان يمكن لو اختلف اتجاه الرصاص أن يجر المقتول القاتل" القاتل عزيز والمقتول حبة العين والدمع يجري بلا توقف .. الانقسام الفلسطيني من اشد الاحداث مرارة وسوادا مرت على فلسطين واهلها.
على الرغم من أنه تم تقديم العمل كرواية، إلا أنني اعتبرته نوفيلا، أقصوصة طويلة، أنهيت قراءتها في رخاء ساعتين. يستهل الكاتب "الرواية" باقتباس لسركون بولص حول الصورة وسرعان ما ينهمك بمرافقة مصور شاب في غزة يجد طريقة ما لدخول مبنى سينما مهجور في المدينة. الغلاف الجوي لل"رواية" يبدو شيقا ومرحّبا، ولكن الخوض فيه ليس إلا لفتة سريعة إلى عناوين كبيرة في شريط خبر عاجل، كما تعودنا يعني، أو للأدق كما لقنا عيوننا مهارة تفادي هذا الشريط والكاتب لا ينكر هذا البرود. بدت لي غزة الرواية مدينة عادية أخرى تحصل فيها "أشياء" فتتغير فيها أسماء الشوارع مثلا أو ينطفأ حماس حفلة عيد ميلاد تجري أثناء فوران البلد فيغادر المعازيم وهكذا. يطغى الوصف على نضوج الحبكة فنرى بأن الصراع الأبرز أو ربما الوحيد يظهر نحو النهاية فقط. سردية الأحداث تتناول العودة إلى غزة التي تلت أوسلو وأحداث أخرى مفصلية في المدينة، ولكن تبقى هذه على المحور الزمني فقط، نبش صغير للتاريخ ومراجعة للأحداث قد تعطينا صورة دون الحاجة برواية. الكاتب لا يغوص في عوالم شخصياته ولهذا وجدتها خفيفة، يطلعنا عليها فقط بلمح البصر. فصول أخرى نجدها تبدأ بخطابات قيلت على المنابر وقد يبدو أننا في كولاج متسارع أكثر مما هي قصة. لا يمكن إلا الانتباه إلى أن صورية "الرواية" وتناولها للسينما تتزامن مع كتابتها في عصر شهد انبعاث التمبلر وسينيمائية الإنستجرام وجريان المادة البصرية والمراجع السينمائية على التايملاين والداشبورد، وربما يمكن القول أيضا الربيع العربي. الناتج عن الفاصل ما بين لحظة قبيل الشروع في القراءة ولحظة الانتهاء منها، على عكس لحظة ما قبل التقاط الصورة -أي صورة- وما بعدها، هو كتابة تجربتي ومشاركتها هنا فقط. بالتوفيق يا محمود!
إنها غزة. غزة اللتي لا تحتوي على سينما، لكن هي ذاتها سينما للعالم بأسره. غزة المشهدية. غزة الخالدة العالقة برمال زمنية متحرّكة. غزة اللتي يكتب عنها كتابٌ نُشر قبل ما يقارب ١٠ سنين، وتسير أحداثه قبل اكثر من ١٥ سنة، لكن تشعر انه مكتوب اليوم وليس البارحة. الاقتتال الداخلي، القصف، الضغوطات النفسية والجغرافية والديموغرافية، ووصف الشوارع والزقوقات وضيقتها وذكر الركام.. فقط بضغة من التفاصيل، الجمل أو الكلمات اللتي أشعرتني بعدم مرور الوقت في هذا القطاع المنكوب الخالد.
أمّا عن الرواية، فهي ممتعة وقصيرة للغاية، ومع ذلك تمتلك الكثير من التفاصيل والحيثيّات اللتي قد يتعلم منها كثيرًا أيّ أحد. وقد يُعجب الكثيرين من الأفكار او المواضيع اللتي قد تُرى او تُستشعر بين السطور.. مثل الحيثيّات المذكورة بشكل عابر على اسماء الشوارع والانقسام الداخلي، او الانقسام الديموجرافي اللتي تعاني منه المدينة، فهناك الأصليين والمهجّرين والعائدين وفي كلّ واحدة من ذلك انقسام في حد ذاتها. أو مشهدية غزّة المليئة بال"أكشن" وهي اللتي تخشى مُخرج حقيقي اللذي قد يقول "أكشن" قبالة الكاميرا.. ومع ان التأريخ الزمني في أحداث الرواية غير مذكور بشكل واضح، لكن من تحليل وتأطير تفاصيل الرواية نستطيع المعرفة ان احداثها تحصل في حزيران ٢٠٠٧ بعد اتفاق مكّة بعدّك شعور، حيث ينتمي قصيّ أخ علاء، من يروي القصة، الى حركة فتح العلمانية، ويخوَّن هو ورفاقه من الطرف الآخر، ويدّعي كلٌّ صوابه وخطأ الآخر.. تعود هذه المشهدية في نهاية الرواية حيث نتعلّم عن كيفية تصوير علاء لقتل اخوه من دون علمه.. فحتى هذه بنفسها يراقبها علاء مثل مشهد في السينما.. ونحن نقرأ مشهد مكتوب.. وغزة بنفسها في ظل الإبادة الجماعية فيلم سريالي ابزوردي سخيف قد لا يصدّق المرء كيف يحدث هذا بالفعل قبالة عينيه.. وحتى عن طريق شاشاتنا نشعر اننا في بعض الأحيان نُراقب.. ولا نعرف اذا ما سيقول احدٌ "أكشن" ونخرج من هذا الكابوس.. فربما نتوق لذلك.. وربما لا.. ففي (عدم) واقعية العالم هدفٌ وقدر..
This entire review has been hidden because of spoilers.
أعرف محمود منذ وقت يبدو الآن بعيدا جدا. لا معرفة شخصية، إنما معرفة قوامها الكلمات والتدوينات. أتذكر إعلان محمود ع�� روايته الأولى على صفحته الشخصية في الفيسبوك، قلت لنفسي يجب أن أقرأها لكني لم أعثر على نسخة ورقية لها ونسيت أمرها. لسنوات طوال ظلت تخطر الرواية على بالي ولسبب ما كنت أظن بأني لن أجد نسخة ورقية لها مهما بحثت. البارحة كنت أستمع لأغنية في اليوتيوب، أغنية من صفحة محمود، فعاد اسم الرواية لرأسي. دخلت جوجل، كتبت في خانة البحث : سينما غزة محمود عمر pdf. وجدتها في أحد المواقع وقمت بتنزيلها. فتحت الملف فورا وقولت لنفسي وكأني وجدت كنزي أخيرا : أووووه. قرأت كل حرف تقريبا كتبه محمود في مدونته، لذا لم تكن الكلمات غريبة عليّ. لكن غزة، اسمها، سيرتها، كل شيء له علاقة فيها كفيل بنبش مشاعر لا أفهمها. لذا تجمدت كثيرا وأنا أقرأ الكلمات. أعدت قراءة مقاطع لأكثر من مرة. أبحث في جوجل عن صور وأحداث لأفهم أكثر. غزة أفلام كثيرة، كانت الرواية قصيرة جدا لتنقل مشهدا من هناك، لكنها نقلته كما ينبغي لفيلم متقن الإخراج أن ينقله.
أول رواية أقرأها عن غزة.. باعتقادي نجحت الرواية او النوفيلا وإن جزئيا بالتقاط وتصوير أهم لحظة بتاريخ غزة الحديث (ما يسمى بالانقلاب) وتحويلها إلى حالة شعورية مكثفة، مع الرجوع السريع لفكرة العودة مع اتفاقية أوسلو وقليل من انعكاسها على المجتمع. منزعجة من الأخطاء الإملائية والنحوية وكان يمكن للمحرر تلافي هذه الأخطاء بسهولة بمراجعة أخيرة. تستحق طبعة أخرى خالية من الأخطاء.
الرواية مُكثفة على قصرها، أحببت هذا رغم ما أثارت وقذفت في وجهي من غبار غزة وقساوتها، ما مضى ونعتقد اننا نسيناه أو نعتقد مخطئين انه مضى من اﻷساس، وما نواصل معايشته ونتناساه، هذا عمل مكثف بالبؤس، مكثف ب"غزة".
. هذا العمل مثل غزّة تماماً, غزال برّي لا تروضهُ إتفاقيات وحدود, مثلها مُتْعب من الحروب, مُتعب من الإنسانية الساقطة. الحياة أحياناً تستحيل, أحياناً تتحول إلى مهزلة لها دائماً ما أرادت, لك أنت تبقى خاوي الوفاض, اكتفي بقلبك. 15, أيلول, 2019 م ٢٢:٠٣
ثلاث نجمات للأسلوب الأدبي الجميل و الأسلوب الروائي الشيق حاولت أن أقف على الحياد و أنا أقرأ الرواية حتى لا يكون رأيي مجروحا، و لأنه ليس المكان المناسب لنقاش قضية هي أكثر تعقيدا من رواية في بضع صفحات ناهيك عن مراجعة للرواية لكن مع ذلك، لم يستطع الكاتب أن يعرض صورة حيادية لغزة..كان منحازا جدا، هذا بالطبع من حقه لو لم يكن قد قال في روايته إنه لا يملك رأيا سياسيا واضحا.، ربما أراد الكاتب أن يعرض جانبا واحدا من جوانب الحياة المعقدة في غزة، لكن الرواية كانت لتكون أفضل لو كانت أكثر شمولية، هذا من جهة، و من جهة أخرى..كقاطنة في غزة، و كعائدة إليها حديثا بعد غربة 5 سنوات، لا أعتقد أن كم السوداوية في الرواية منصف .. مع ذلك..يعجبني أسلوب الكاتب الأدبي، و أتمنى أن يستمر في الكتابة
إذا بدأت قراءة الصفحة الأولى، ستجد نفسك دون أن تشعر، عند الصّفحة الأخيرة خلال ساعة. لغة جميلة تتعامل مع موضوع شائك وموجع. من مشهد إلى آخر، كنت أراها تتحوّل إلى فيلم جيّد. بعض الأخطاء في النحو والرسم خاصة في الصّفحات الأخيرة.
تمنيت لو طالت صفحات سينما غزة قليلا، أو كثيرا.. لا أدري. أحسست فور انتهائي منها أن القصة لم تكتمل، أو أن تفاصيلا لم تروى بعد بداخلها، ولعل شعوري نابع من فضولي لمعرفة المزيد عن غزة التي أجهل، وأحب. غزة البعيدة القريبة في ذات الوقت. رواية لطيفة جدا.
لغتها سلسة جميلة العنوان مخادع كما اول صفحات الرواية تظن انك ستقرأ عمل يتحدث عن السينما او تدور احداثه في ذاك المكان او قربه لكن مرورها بالرواية ككل لا يتجاوز الصفحات الثلاث لكن الرواية جميلة تستطيع من خلالها ان تقول ان هناك كاتب قوي قادم
أعتقد أن سينما غزة هي امتداد لمدونة سينما غزة، أو قصة يمكن للكاتب أن يرويها بين أصدقاءه. محاولة جيدة لا يغيب عنها الاحساس بالوجع الذي احتبرناه جميعا في مدينة الموت غزة.