اممممم أرجو أن أحسن عرض ما لدي، وأوفق في طرح آرائي ولملمتها في نقاط واضحة.. :/ أولا وقبل أن نصل للنتيجة التي توصلت إليها الباحثة، فإنها أمسكت بأيدينا وجعلتنا نلقي نظرة على أسسها الأصولية قبل الدخول في العملية الفقهية، وأظنها بذلك أحسنت وأصابت. ومن النظرة الأولى على أسسها تبين لي رأيها الفقهي، وعلمت بأنها ستأتي بأحكام أكثر تيسيرا وتساهلا من الأحكام المشتهرة والتي نعرفها في موضوعي “خروج المرأة من منزلها - ما يجب عليها ستره أمام الأجانب”، إذ وجدت في آرائها التأصيلية خروجا عن المعتاد، كموقفها من الإجماع وكونه حجة ظنية، وما يتعلق بالمصالح والمفاسد والمقاصد، فمثلا تجدها تخالف الرأي الذي يغلب على علمائنا اتباعه في مسألة المقاصد، فهي تذهب إلى ما ذهب إليه القرافي من أن النظر المصلحي يعطي الفقيه حق -مثلا- مخالفة نص صريح، كما فعل الإمام يحيى المالكي مع حاكم الأندلس الذي جامع امرأته نهار رمضان، فأوجب في حقه صيام شهرين لا العتق لسهولة ذلك في حقه، فهذا المثال يمر على دارسي الأصول كثيرا ويستشهد به في هذا الباب، وأجد الكثير من علمائنا يميلون لتخطئة الإمام يحيى وإن اتضحت وجهة نظره، فتجاوز نص صريح يعد أمرا صعبا إن فتح فيه الباب لم يغلق، خصوصا مع عدم وجود قاعدة واضحة تحكم الفقهاء وتقنن أحكامهم، ومن هنا علمت بأن الأحكام التي ستتوصل إليها الباحثة غير ملزمة لي ولا أستطيع أن أدين الله بالأخذ بها، وإن اتفقت معها في النتيجة فلست أتفق معها في الطريق الذي سلكته، لأنه طريق مخيف إن قبلت سلوكه فلن يوقفني عن إسقاط الكثير من الأحكام الشرعية المنصوص عليها شيء أبدا. فيما يخص الجزء الأول وهو “خروج الزوجة من المنزل” لحظت فيه تحيز الباحثة مسبقا لرأيها، لذا أجد جمع الأقوال وتحليلها هو من قبيل أداء واجب البحث، لكني متيقنة من عدم استيفائها لتلك الأقوال وضوابط واضعيها، هذا كذلك ينطبق على الجزء الثاني “ما يجب عليها ستره” إلا أن اطلاعي على الرأي الآخر في هذه المسألة وهو قول وجيه جدا يجعلني أتقبل ما توصلت إليه فيه، وإن كانت كذلك تساهلت في عرض هذا الرأي مع التقليل من شأن القول الآخر حتى أشعرتني أن مسألة تغطية المرأة لجميع بدنها تكاد تكون شاذة وأن الإتيان بذلك ليس حتى من قبيل المندوب إلا في حق أفراد معينين. ما هو سبب عدم تقبلي لبحث الباحثة عموما؟ الحقيقة أن السبب ليس في آرائها، فنتائجها في كلا الجزئين منها ما أتقبله وأتفق معه، ومنها ما أحترمه لدرجة تجعلني أحفظ له وزنه وذلك بعد اطلاعي على أدلة قائليه في مباحث أخرى، لذا فليست المشكلة في نتائج البحث، ولكن في الطريق الموصلة إليها، في عدم تقبلي للتحيز المسبق، والميل للتساهل الذي كان باعثه ضغط الواقع الذي نعيشه، بل وتقديم ظروف هذا العصر على أنها مسلمات على أساسها نتحاكم ولأجلها نتخذ الآراء، وفي الحقيقة لست أعارضها في ذلك بالكلية إذ إني ممن يؤمن بأن الفقه في حقيقته يكمن في “معرفة مقصد الشرع، ومعرفة الواقع” فبهما تتم عملية الفتيا، ولست من محبي علماء الكتب الذين يفتون بعيدا عن معرفة الواقع واستنادا على ما يجدونه في السطور، لكن أعود فأقول المشكلة التي قد تقع فيها باحثتنا وغيرها الكثير من باحثي هذا العصر هي عدم وجود ضوابط واضحة محددة على أساسها يتم وضع حدود لما يجب وما يحرم.. هذا الانغماس في الواقع والتأثر بمجرياته قد يوصلنا لمرحلة لا نعرف فيها من أحكامنا الإسلامية شيئا، إذ كل أمر هو رهين لمسألة الحاجة والتيسير ورفع الحرج، هذا النوع من المظلات الفضفاضة لا يريحني الاتكاء تحت ظله أبدا، لا سيما حين يكون في كتاب يعتبر صغيرا في حجمه لمن يعرف عمق وسعة هذا النوع من المباحث، والحاجة للتفصيل والبحث والاستقصاء فيها، فلا يعقل أن قولا شهيرا معمولا به كالقول بتغطية جميع جسد المرأة يمر في كتاب الباحثة كرأي شاذ لولا معرفتي المسبقة بأدلته وتفصيلاته لظننته قولا غير معتبر في الفقه، ولا يعمل به سوى الأقلية. هذا الشعور بأن الباحثة ليست ممن لهم جلد في عرض تلك الآراء وتفنيدها، مع عدم وجود أرضية صلبة ومنهج واضح متكئ على أدلة الشرع يدور معها حيث دارت -لا حيث أجبرته الظروف- تحيلنا إليه في محاكمة أقوالها، وأن البحث هنا كان من باب تقرير رأي تراه وقدمت له الآراء الفقهية بشكل مقتضب مع اختيارها في كل مسألة من الأقوال ما يؤكد رأيها مع عدم وجود منهجية واضحة موحدة في ذلك، لا أظنه كان كافيا ومشبعا لمن يبحث في المسائل التي أثارتها ويرغب في الوصول حقا إلى مراد الله. ومن اعتاد القراءة في كتب جهابذة الفقه سيفهم مقصدي، وسيشعر بالوهن في استعراضها للأقوال، والاقتضاب في عرضها وتحريرها، بما لا يشفي صدر مؤمن، ولا يقر عين فقيه. والمطلع على مراجعتي لكتاب الجديع في مسألة الغناء والتي لا أعمل برأيه فيها ومع ذلك أحترم قوله وأدلته وطريقة عرضه للمسألة وحسن تحريرها سيعي سبب تفريقي -مثلا- بين تحقيقه للمسألة وتحقيقها. ودعوني بهذه المناسبة أفصح لكم عن المكنون في صدري، بصراحة ومع تقديري لباحثي عصرنا، خصوصا الأبحاث التي تكون رسالة ماجستير والتي تحقق متطلباتها فنيا ومنهجيا بناء على ضوابط البحث العلمي، فإنني أفتقد وبشدة النفس الفقهي، والثقل العلمي، والصفاء الذهني الذي يتميز به علماؤنا وفقهاؤنا، اطلاعي على كتب التراث أفسد علي مذاق كتب الحاضر، فمباحث العصر الحاضر تتشرب روح البحث العلمي لا الشرعي، وتفتقد فيها الجلد الفقهي الذي تجده في كتب تراثنا، وطول النفس في استقصاء المسائل، وتقرير الأصول،وتحرير الفروع، تلك الروح الباحثة عن الحقيقة، المقدسة للنص، والمحترمة لأقوال الصحابة والسلف وإجماعاتهم، بعيدا عن الجو العام للحداثة وما يبثه من سموم تؤثر على حدة نظر الباحث الشرعي، وصلابة أدواته. أظن، وبناء على معطيات واقعنا الأكاديمي، أن مخرجاتنا ستكون = الكثير من الباحثين وكتاب المقالات ونشطاء مواقع التواصل الشرعيين، والقليل جدا من الفقهاء العلماء الربانيين -وهذا هو حقا ما نحن بحاجة إليه-.
أخيرا: المباحث التي ناقشتها الكاتبة مهمة جدا، ولا زلت أرى الحاجة ماسة لمباحثتها لا سيما مع تجدد النوازل، وتغير العصر وعادات أهله، ولا زلنا بحاجة لفقيه يعي ذلك مع اتكائه على مراد الله وروح شريعته في وصوله للحكم، وكتبنا الفقهية مليئة بتلك المسائل، وتحتاج لنفض وجرد وحسن تحرير يفهم من خلاله آراء الفقهاء دون تحيز أو بتر للنصوص. يشكر للكاتبة اهتمامها بهذه المباحث، فوقوع نظري على العنوان دعاني لاقتناء الكتاب دون معرفة الكاتبة حتى، إذ مثل هذه المواضيع تتجدد الحاجة لها، وتزداد قيمتها مع ظهورها كثيرا على السطح في أيامنا هذه، والموفق من أحسن تحريرها وعرضها، وأراد بذلك كله وجه الله وتحقيق مراده.
كل مدة أحتاج للقراءة في كتب تخالفني، أحاول ترويض نفسي على تقبّل المخالف وأعوّد أذني على سماع ما لا أقتنع به لأهوّن من حدّتي في الرأي وتعلّقي بأقوالي، ولأعتاد على تهذيب فكرتي وتعويد نفسي على النقاش والمناقشة :) وهذه القراءة لهذا الكتاب نتيجة لهذه الفكرة، وفي الحقيقة توقعت أن الكتاب أقوى وأمتن علميًا.. الكتاب تميّز بفكرة التأصيل أولًا، وكثرة النقول ثانيًا. وأما عيوبه: فضعف طريقة معالجة الباحثة للنصوص، لذا أجدها تورد النصوص إيرادًا حسنًا، ثم إذا أتت لمعالجتها والترجيح: أرى آلتها الفقهية والأصولية كليلة؛ لذا تهرع إما إلى نقلٍ تلوذ به وترجّح بناءً عليه، أو تفزع إلى المقاصد والكلام الإنشائي العام الذي يمتاز به المعاصرون الأجانب عن الارتواء بكتب الفقه ممن ضعفت آلتهم فتمسّكوا بالمعاني الفضفاضة :) مِن ذلك في الكتاب: ترجيحها عدم وجوب تغطية المرأة وجهها لأن الشريعة أتت بالتوازن بين ما يجب على الرجل والمرأة، ولو قلنا بأنه يجب عليها ستر وجهها فماذا بقي على الرجل ليُخاطَب به؟ هل بمثل هذا يُنظر في الفقه ويُرجّح؟ هذي سواليف مبنية على إعمال فكرة المساواة وأن الشريعة تنطلق منها، بينما هي في الحقيقة فكرة مبنية على انطباع للباحثة دخل إليها من تأثرها بالواقع.. لذا لم تذكر سندًا لهذا الأصل الخطير! وكذا أعيب على الكتاب: محاولة ترجيح أيسر الأقوال وأخفّها بأدنى حجة تاركة كل الحجج والنقول التي نقلتها؛ كقولها بظنّية الإجماع لمجرد نصٍّ وجدته للرازي فاحتمت به دون معالجة لباقي أدلة من قال بالقطعية من جمهور الأمة! كذلك الباحثة عندها تصرّف عجيب بنصوص المذاهب وتحكّم في النسبة لهم لمجرد ما تتوهمه هي من مصالح ومقاصد، وكأن المذاهب تقوم على المصالح والمقاصد فقط دون نظر لنصوص الإمام وكيف يستنبط ومن أين يقول! لدرجة نسبت للشافعية قولًا بمجرد تعليل فهمته من الجويني؛ فصار الجويني هو المذهب، ثم صار تعليله وما فهمته منه هو ما ينبغي أن يكون مذهب الشافعية في هذا العصر!
ومن أشنع المآخذ على الكاتبة: ما تطرقت إليه في بعض كلامها من أن الفقهاء فسّروا النصوص الشرعية بحسب زمانهم؛ وهذا توهّمٌ مخيف، وقدح خطير بديانة وعلم من سلف، رغم أنها هي بنفسها نقلت عن كثير منهم التوسعة في آراء هي محل تشدد في العرف، ولهذا الظن مآلات قبيحة مفسّقة للفقهاء! وأنا مقتنع بأن الباحثة أحقّ بهذا الوصف من الفقهاء؛ فإن غَلَبة النظر للقضايا الفقهية بعين متأثرة بالواقع المهيمَن عليه غربيًا: ظاهرة عليها جدًا، ومخايل الانهزام الثقافي بادٍ في ترجيحاتها ومناقشاتها.. فسقطت في عين ما اتهمت به الفقهاء!
وكذا من المآخذ على الباحثة: ظنّها أن التقوّل على الله والشناعة فيه هو فقط عند القطع بنسبة الحكم للشرع.. بينما لو لم نقطع فلا إشكال؛ لذا هي مرارًا تتعوذ من النسبة قطعًا للشرع، بينما لا أرى هذا الورع في التقوّل على الشرع بالظن؛ وكأن المحرّم فقط هو القطع في الفتوى! وهي في هذا الجانب متوسّعة في فكرة الظن والقطع، بينما الناظر للفقه يجد أن الفقهاء لا يولون اهتمامًا وليست هذه من طريقتهم في صناعة الفقه، وإنما من يعتني بهذا الجانب هم المتكلمون في أصول الفقه خاصة.. فإذا أتوا للفقه لم يتعلّقوا بمثل هذا؛ لأنه علم مبني على الظن أصلًا، والظن مآله للقطع في الفقه من جهة وجوب العمل أو غير ذلك على ما هو مفصّل في موضعه.. لذا فاهتمامها بهذا الجانب ليس عليه صنيع الفقهاء.
وفي الكتاب أمورٌ كثيرة مما يُقال ويُنقد، وهو كما ذكرت ضعيف الصنعة أصولًا وفقهًا، ولطالما هممت بتركه بسبب هذا الضعف، خاصة أنني أقرأ معه الإحكام للآمدي فأرى تباين المناقشة والنظر :) لكنني أكملت القراءة لأنني لا أحب الانتصاف، وكذا لأن النقول مفيدة، ولأروّض نفسي -كما قدّمت- بالقراءة للمخالف :) وأنصح بالكتاب لمن هو متشدد في (فقه المرأة) كما يقال :) ولمن يهتم بوجهة النظر المخالفة للسائد فقهًا، وحتى لا أظلمها ففي الكتاب لمحات أصولية ودقائق جيّدة لفتت إليها الباحثة.. وأنا وإن لم أوافقها بناءً وترجيحًا، إلا أنني أقبل الاختلاف في أكثر ما ذكرت هي، وأدعو لشبه ما تدعو هي إليه؛ من تخفيف الحدّة في مثل هذه المسائل؛ لئلا نصير إلى توهّم الإجماع والقطع في مواطن الظن والاختلاف والتيسير، وحتى لا ينتقل البحث الفقهي إلى الانطباعات العُرفية والميول النفسية التي آلت إلى فتاوى مضحكة تتذرع بسد الذريعة، كما يتذرّع أصحاب الجانب الآخر بالمقاصد؛ وكلهم صعب عليه التأصيل والنظر العميق فتمسّك بالانطباعات والذوق الشخصي وما يراه في مجتمعه ومن حوله :) والله يفقّهنا في الدين..