أجمع المؤرّخون على أنّ كتاب الجيلي هذا، إنّما هو كتاب في اصطلاح الصوفيَّة. ويرى بعضهم الآخَر أنّ أفكار الكتاب ليست سوى عرض موجز للأفكار الغنوصيَّة عند ابن عربي. وقد كتبه لتيسير فهم المعنى الذي ذهب إليه، وأنّه - بصرف النظر عن محاولة تحديد فكرة العلوّ المطلق لله في مقابل الإنسان الكامل - لم يقدّم في هذا الكتاب جديداً ، على حين رأى آخَرون أنّه كتاب مليء بالوساوس. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة وستّين باباً، يبحث فيها الجيلي بمذهب وحدة الوجود. وقد طرح مذهبه، من خلال فصولها، بكثير من الحكمة، حتّى لا يترك للقارئ أدنى شكّ في كلامه وأفكاره. يقول الجيلي في مقدّمة كتابه: "اعلمْ أنّ كلّ علم لا يؤيّده الكتاب والسنّة فهو ضلالة لا لأجل ما لا تجد أنت ما يؤيّده، فقد يكون العلم نَفْسه مؤيّداً بالكتاب والسنّة، ولكنّ قلّة استعدادك منعتك من فهمه". ويتابع الجيلي قائلاً: "أن يكون العلم وارداً على مَن اعتزل عن المذاهب والتحق بأهل البدعة، فهذا العلم هو المرفوض". اتّبع الجيلي في كتابه هذا، المنهج الفلسفيّ اليونانيّ. وكثيراً ما أورد الأبيات الشعريَّة، ثمّ شرحها ليعرض فكرة ما من أفكاره الكثيرة. وبهذه الطريقة في عرض الأفكار، يكون قد نهج منهج ابن عربي في عرضه للأفكار: وما ذاك إلاّ أنّنا روحُ واحدٍ فذاتي لها ذاتٌ، واِسمي اسمُها تداوَلَنا جسمان، وهو عجيبُ وحالي بها، في الاِتّحاد، عجيبُ والجيلي يعرض أفكاره، متدرّجاً بها من الذات، مروراً بالألوهيَّة، وفي الحياة، وفي الجلال، وفي الأزل، إلى نزول الحقّ، ثمّ في العرش، وفي العقل الأوّل، وفي الفكر، وفي الصورة المحمّديَّة، وفي النَفْس، ليصل إلى الباب الستّين. وهذا الباب عنوانه "الإنسان الكامل"، وهو أهمّ فصل في الكتاب. وهو يصرّح بذلك، إذ يقول: "اعلمْ أنّ هذا الباب عمدة أبواب هذا الكتاب، بل جميعه، من أوّله إلى آخِره شرح لهذا الباب". والإنسان الكامل هو محمّد (ص). وهو مقابل للحقّ والخلق. يقدّم لنا الجيلي في هذا الباب عرضاً مفصّلاً لنظريّته في الإنسان الكامل، فهو "النبيّ محمّد (ص) إذ هو الإنسان الكامل بالاتّفاق، وليس لأحد من الكُمَّل ما له من الخلق والأخلاق". "واعلمْ أنّ الإنسان الكامل مقابلٌ لجميع الحقائق الوجوديَّة بنَفْسه، فيقابل الحقائق العلويَّة بلطافته، ويقابل الحقائق السفليَّة بكثافته". "ثمّ اعلمْ أنّ الإنسان الكامل هو الذي يستحقّ الأسماء الذاتيَّة والصفات الإلهيَّة استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضى الذاتيّ".
عبـد الكريم بـن إبراهيم، قـطب الدين. لـقّب بـ "الجيلي أو الجيلاني"، نسبة إلى "جيلان" بلدة أسرته. وُلـد في جيلان العراق سنة 767 ه / 1265 م
صحب الجيلي كبار مشايخ الصوفيَّة في عصره، وأخذ من معارفهم وعلومهم في الدِين والتصوّف والفلسفة. لكنّه أحبّ الفلسفة فاعتمد عليها من حين إلى حين، وخاصّة الفلسفة اليونانيَّة والهنديَّة والفارسيَّة. ولعلّ رحلاته الكثيرة هي التي أغنته بالمعرفة والعلوم كافّة،
( من كان يعقوبيَّ الحزنِ، جلى عنه العمى بإلقاءِ البشيرِ إليه قميصَ يوسف). هكذا بعبارته الأنيقة يضع الإمام عبد الكريم الجِيلي كتاب ( الإنسان الكامل في معرفة الأواخر و الأوائل). يتحدث الجِيلي فيه عن (نظرية الإنسان الكامل) . فالإنسان الكامل هو الذي يمثل تجلي الله في الإنسان (.. كنتُ سمعَه الذي يسمع به ،و بصرَه الذي يبصر به ،و يدَه التي يبطش بها) الحديث القُدُسي. و الإنسان الكامل هو محمد عليه الصلاة و السلام، ثم يليه الأكملُ فالأكملُ من الأنبياء و الأولياء. ابتدأ الإمام الجِيلي الكتاب بالحديث عن الله في ذاته، و أَحَديته ،و ربوبيته ،و أسمائه ،و صفاته. فمعرفة المُتجلِّي (الله) تسبق معرفة المُتجلَّى فيه (محمد). تحدث أيضاً عن الصفات الإلهية الأساسية السبع (الحياة ،العلم، الإرادة، القدرة، السمع، البصر، و الكلام) . و في الكتب لطائف لا تحصى و لن تُفهم إلا بذوقٍ كما هو حالُ أغلب كتاباتِ الصوفيين. أورد الإمام الجِيلي رأياً غريباً عن أهل النار، و تصوره لإبليس وافق فيه تصور الحلاج. هناك تشابه كبير في مفهوم (نظرية الإنسان الكامل) بين الجِيلي و ابن عربي، و أنصح من أراد فهم جميع أوجه النظرية مراجعة كتاب الدكتور يوسف زيدان ( الفكر الصوفي بين عبد الكريم الجيلي و كبار الصوفية).
الجيلي واحد من أولئك المفكرين الشموليين الذين يمتلكون نظرية مكتملة، ويوظفون معارفهم الموسوعية في إرساء معالم نظرياتهم. وهو إضافة إلى ذلك أديب بارع الكلمة، رائق العبارة، وتقع نصوصه في أعلى منازل البيان. وكتابه هذا "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" سهل المأخذ، متصلة فصوله وفقراته بغير استطراد يبعد عن الغاية، أو تقعر يقتل الفكرة. والأهم من ذلك أن ما له من رسائل أخرى، مثل "الكهف والرقيم" و"المناظر الإلهية" و"مراتب الوجود"، تخدم النمط نفسه الذي تشكله نظريته الكبيرة المدرجة هنا، وتُفصّل كل واحدة منها جانبًا يساعد في فهم الرجل دون تشويش.