من الأسئلة التي كانت تشغل نفسي هو سر هذا القبول والتأثير لابن باز فمنذ أن وعيت وابن باز ملء سمع الناس وبصرهم وتأثيره يبلغ جميع أنحاء العالم ، ولا يزال ذكره إلى يومنا حياً بعد وفاته بعشرين سنة ..
هذا الكتاب استطاع أن يقدم تفسيراً لهذا السؤال ، فهو من رواية الشيخ محمد الموسى وهو ممن لازم ابن باز أكثر من خمس وعشرين سنة منها خمس عشرة سنة كان معه كظله ، وقد روى في هذه السيرة عن جميع جوانب حياته وعن جميع أحواله وذكر فيها أموراً عجيبه ..
الكتاب يستحق القراءة بحق ..
رحم الله ابن باز ورفع درجته وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة ..
لا تزال هذه السيرة منذ أن قرأتها -وإلى الآن- حاضرة في ذهني حضورًا قويًا عجيبًا يدفعني لأن أتمثل ببعض وقائعها وأتخلق بأخلاق صاحبها؛ لأنها سيرة عطِرة مفعمة بصورٍ من المحامد الكريمة والفضائل السمحة والمآثر العظيمة وكلها تقول لك: إن هذا الشيخ عجيبةٌ من عجائب الزمن لم يُر بعده أحدٌ مثله قط، وكلها تجعلك تبصر قبسًا مضيئًا مستقى من سير العظماء الأجلَّاء النبلاء من سلفنا الصالح.
أقولها صدقًا لا أذكر أني قرأت كتابًا جمع لي بين الفائدة الإيمانية وبين المتعة في القراءة مثل هذا الكتاب.
الكتاب كُتب بلغة سهلة وقريبة من النفس، واشتمل على جوانب كثيرة ودقيقة من حياة الشيخ (حتى نومه وممارسته لرياضة المشي) بما يشبع فضول القارئ ودون إطالة مملة، وذلك أن راوي هذه السيرة هو أكثر الناس ملازمة له، وهو الشيخ محمد الموسى مدير مكتب بيت سماحة الشيخ، وقد لازمه ١٦ عامًا، فهنا جانب المتعة في القراءة، حتى تمنيت أن لو كان حجم الكتاب الضعف، وهو الذي قد جاوز ٦٠٠ صفحة.
وأما الفائدة الإيمانية، فهي تصديقًا لما قاله ابن عثيمين رحمة الله عليه في إحدى مراسلاته لابن باز ذكر فيها أن الاتصال به - أي: ابن باز - يزيده إيمانًا، ولا ريب، فأنت ترى في سيرته أنه يكاد يجمع شُعب الإيمان كلّها، فإن كان يقال لبعض العلماء أن له في كل علم ذراع وأنه إن تكلم في علم ظننت أنه لا يحسن غيره، فإن الشيخ ابن باز - رحمه الله - له في كل ميدان من ميادين العمل للإسلام أبرز الحضور، وفي كل مجال من مجالات الإصلاح أعظم المواقف، ومن شاهد سيرته يقول أنه جمع مكارم الأخلاق كلّها، ويشهد له بذلك القاصي والداني.
وهنا تكمن الاستفادة من هذه السيرة؛ أن تقرأ عن معاصر امتثل سيرة السلف الصالح، وترى كيف بذل حياته كلّها، ساعاتها ودقائقها، لله سبحانه وتعالى، وتشاهد شُعَب الإيمان المتنوعة متمثلة عمليًّا أمامك، هذا وأنت تلتمس فيه غاية الصدق والإخلاص الذي كان له أسرع الأثر على من حوله.
ولذلك أنصح الجميع بمطالعة سيرته، حتى الذين سبق أن سمعوا أو عرفوا شيئا من سيرته، لأنه -والله-، وبكل اختصار، قدوة في شتى مجالات الدين والخلق .. في الحِلم، والصبر على الناس، في علو الهمة واغتنام كل دقيقة في اليوم، في الكرم والسخاء في المال والنفس والوقت (وهذا باب عجيب، أخباره فيه مبهرة)، في التمسك بالسنة وتعظيم الوحي، في القوة في الحق وإنكار المنكر صغيرًا كان أم كبيرًا، في سعة صدره للخلاف واتهام رأيه وتجرّده للحق، في اغتنام أي فرصه لنصح الناس والأمر بالمعروف، في الجهاد بالكلمة ونصرة المجاهدين، في مراسلاته لإخوانه العلماء والتواصي بالحق وبالصبر، في إجابة الدعوات والولائم، في حمل همّ الأمة ومتابعة أخبار الدعوة في العالم الإسلامي، وغير ذلك الكثير حتى أنه ليستحق أنه يُفرد له في كل مجال مجلد من سيرته.
ولقد صدق ذاك الحبشي الذي جاء إلى المملكة قبل أن تذيع شهرةُ الشيخ في العالم، وقد دلّوه إليه فمكث عنده فترة وأُعجب بعلمه وخلقه، وقال: "أخلاق الشيخ عبدالعزيز بن باز أخلاق نبوة!".
أنا لم أعاصر الشيخ حقًا، فقد كان عمري حين وفاته ٩ سنين تقريبا، لكني والله أحببته أيما حب، وتأثرت وربما بكيت وأنا أقرأ في بعض مواقفه وأخباره، مثلما أحبه من رأوه وعاصروه، وما صار مستغربًا عندي ما حل بالمسلمين من اللوعة والأسى عندما ذاع خبر وفاته.
وعلى ذكر وفاته، وفي ختام هذه المراجعة، أنقل لكم ما ذكره الراوي في ختام ذكر وفاة الشيخ ودفنه: "وفي ذلك المشهد العظيم تذكرتُ كلمة قالها سماحة الشيخ قبل وفاته بخمس عشرة سنة تقريبًا، وذلك لما جاءه بعض الغيورين، وحدثوه على الأوضاع، ولاموه، وأغلظوا عليه بالقول، وقالوا: الواجب عليك أكبر مما تقوم به؛ لأنك إمام وقدوة، ولك مكانتك عند الجميع. وما علم أولئك بعِظم الدور الذي يقوم به. ولما سمع سماحة الشيخ منهم ذلك الكلام تأثر تأثرًا كبيرًا، ولم يُرِدْ أن يطلعهم على ما يقوم به، ولكنه قال: إذا أنا متُّ عرفتموني كما عُرف الشيخ محمد بن إبراهيم بعد وفاته."