لا شك أن أحوالًا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا شك أننا واجدون في كلامه حكمًا مكشوفًا أو ملفوفًا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقًا لذلك القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟
ولد العقاد في أسوان في 29 شوال 1306 هـ - 28 يونيو 1889 وتخرج من المدرسة الإبتدائية سنة 1903. أسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري "مدرسة الديوان"، وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق. عمل العقاد بمصنع للحرير في مدينة دمياط، وعمل بالسكك الحديدية لأنه لم ينل من التعليم حظا وافرا حيث حصل على الشهادة الإبتدائية فقط، لكنه في الوقت نفسه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات، وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب.
التحق بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نقل إلى محافظة الشرقية مل العقاد العمل الروتيني، فعمل بمصلحة البرق، ولكنه لم يعمر فيها كسابقتها، فاتجه إلى العمل بالصحافة مستعينا بثقافته وسعة إطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور، وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه. وتوقفت الصحيفة بعد فترة، وهو ماجعل العقاد يبحث عن عمل يقتات منه، فاضطرإلى إعطاء بعض الدروس ليحصل على قوت يومه.
لم يتوقف إنتاجه الأدبي أبدا، رغم ما مر به من ظروف قاسية؛ حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات. منحه الرئيس المصري جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب غير أنه رفض تسلمها، كما رفض الدكتوراة الفخرية من جامعة القاهرة. اشتهر بمعاركه الفكرية مع الدكتور زكي مبارك والأديب الفذ مصطفى صادق الرافعي والدكتور العراقي مصطفى جواد والدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ.
يستلهم العقاد - رحمه الله - أدب أبي العلاء ليخوض في غمار تجربة أدبية عميقة تجمع بين أروقة الماضي البعيد والحاضر القريب في دروس فلسفية بصيغة أدبية كما يليق بشيخ المعرة وتتآلف مع مفاهيم الوجود في مخيلته ورؤيته وفلسفته للعالم والموت والخلود.. يتتبع مزاج المعري وتقلباته وتناقضاته وجنوحنه في كثير من لحضات حياته إلى التشاؤم والتخلي، يبعثه من رقدته الروحية والشعرية لكي يمارس حقه في رؤية العالم الجديد ويقارنه بما عاشه في الزمن الغابر، يعايشه كتلميذ ويحاوره ويجالسه في حوارات فلسفية وأدبية لا تخلو من طرافة وسخرية من ذلك الذي طرأ على العالم، يواجهه بالأسئلة المستفزة ويستدرجه إلى أماكن وأعترافات جديدة في شعره وحياته..
تقرأ هذا الكتاب وكأنك تجلس مع أبي العلاء وتحدثه ويتحدث إليك ويجيبك عن أسئلتك وينقاشك في المسائل الفلسفية التي طرأت على مخيلته ويحاكيها على أرض الواقع في رحلات وحوارات شيقة يجوب بها العالم هو وتلميذه في سبيل إثراء القارئ بوجبة أدبية في غاية الرقة والجمال..
كما هو الحال دائماً، تقرأ للعقاد وأنت موقن على إستخلاص شئ جديد ، معاني وأفكار تأخذك إلى عالم هذا الرجل الثري بالمعرفة والموسوعة اللغوية المتينة التي تحيل لقارئها لا ليكون شاهداً فقط على الكلمات بل في إبداع خلق وعي داخل عقل القارئ ومحاولة الوصول إلى الأفكار عبر منافذ صعبة ومرهقة لشحذ الذهن والفكر في محاولة لأكتساب لياقات جديدة للعقل وفهم العالم عن طريق ذلك..
أعجبني كثيرًا طريقة السرد التي اختارها عباس العقاد في الحديث عن أبي العلاء المعري، رهين المحبسين، الرجل الذي لطالما أردت معرفة كل شئ عنه، فلسفته وآراءه وشعره، لشعوري بإني أوافقه في أغلب آراءه ومعتقداته، وتأكدت تواً من ذلك، كتاب جميل، خفيف، ممتع ولذلك أنهيته في جلسةٍ واحدةٍ. رحم الله أبي العلاء المعري وأديبنا الكبير عباس محمود العقاد.
منذ شهر تقريباً قرأت كتاب ابن الرومي حياته من شعره للعقاد، وقد استمتعت به كثيراً حتى أنني أعددته من أفضل قراءات العام 2024، وقد منيت نفسي أن يكون هذا الكتاب في مستوى كتاب ابن الرومي، فقد استطاع العقاد من خلال شعر ابن الرومي رصد جميع تفاصيل حياة الشاعر الكبير ورسم صورة جلية لشخصيته ونوازعه وطباعه، ولكنه أراد أن ينتهج نهجاً مختلفاً في كتاب أبو العلاء ولا أعيب أبداً على التجريب، لقد تصور الكاتب سفر أبو العلاء المعري عبر الزمن لكي يقوم باصطحابه خلال رحلته الخيالية أحد المعاصرين أو لنقل أنه العقاد ذاته، وترتب على ذلك بالطبع اندهاش المعري بما رآه من مظاهر العصر الحالي وأفكاره، وتضمن ذلك تعليقاته على كل مشاهداته من اختراعات وأشخاص معاصرين، أراد العقاد أن يستخلص أراء المعري تجاه كل شئ وذلك من خلال كتابات المعري وأطروحاته، لم يروقني الكتاب وشعرت انه كان مطية للعقاد لكي يقحم أراءه الشخصية أو تصوراته على لسان المعري ،
أحببت الثلث الأول من الكتاب الذي كان يتكلم فيه العقاد عن أبي العلاء وصفاته وشعره وفلسفته، ولم تعجبني الصفحات الباقية التي خصصها للحديث مع أبي العلاء من وحي خيالاته وآرائه التي أنطق بها لسان أبي العلاء.