هذا الكتاب عذوبة صافية عند الحديث عن شعر شوقي، لا شخصيته، ففيه افتتن زكي مبارك فيه كثيرًا بشعر شوقي إلى أن سعى إلى مقابلته بعد عودته من المنفى، وقد كان، وأمضى معه أوقاتًا مشرقة يذكرها في هذه الكتاب بودّ غير مشوب، حتى كانت الحادثة الفاصلة، عندما طلب منه شوقي أن يكتب مقدّمة الشوقيات وقد كان يسعى حينذاك لنشر الطبعة الثانية منها، فوافق زكي مبارك أمامه، ولم يسعه إلا الموافقة، ثم لما أرسل إليه شوقي بنسخة من الديوان المعدّ للطبع ليكتب المقدمة له، تفكّر زكي مبارك في عاقبة الأمر، ورجع إلى نفسه – كما قال - فأرسل إلى شوقي رسالة يعتذر فيها من كتابة هذه المقدمة، والسبب الذي ساقه لذلك والذي ذكره في رسالته بشكل صريح، هو أن كتابة المقدمة يوجب الترفّق واستخدام المجاملة فيها، وهو – أي: زكي مبارك - قد وقّف قلمه على النقد الأدبي، ثم قال أنه قد يهجم عليه - أي علي شعر شوقي - في مستقبل الأيام، وقال ذلك نصًا، ثم أضاف أن شعره عرضة للخطأ والصواب وهو يحب أن يحتفظ بحريته إن اضطر إلى نقده، وأن ذلك لا يأتلف مع الثناء عليه في مقدمة الشوقيات بل قد يضرّه – أي يضرّ سمعة زكي مبارك الأدبية التي أوقفها على النقد
وهذه كلها معانٍ كارثية في عرف شوقي!، رغم أن حسن النيّة بيّن، إلا أن شوقي كما هو معروف عنه كان لا يسمح لشعره بأن يُمسَّ بكلمة سلبية واحدة، وكان يجزع من النقد على صفحات الجرائد السائرة، وكان يهادن الصحفيين والكتّاب دفعًا لشرهم، وكانوا يعرفون ذلك ويستغلونه، فما باله وهو يقرأ في الرسالة كلمات يفهم منها أن صاحبها – وهو كان بمثابة صديق شاب - لا يعجبه الكثير من شعره أولاً، ويقول أن فيه السيء والجيد على سواء، وأنه إن كتب المقدمة لديوانه فسيجامله، والمجاملة تقتضي بطبيعة الحال الكذب!، فهذه كلها تبّعات تحمل الكثير من الأثر السيء في نفس شوقي، فحدث من جرّاء ذلك ما كان لا بد أن يحدث، فتقطعت الصلات بين شوقي وبين كاتب الرسالة، إلا أن شوقي لم يندّ منه شيء فاحش في قطع الصداقة، فقد قال زكي مبارك أنه عقب إرساله الرسالة لم يذهب إلى لقاء شوقي كما هي عادته اليومية قبل ذلك، ومن الجانب الآخر لم يرسل شوقي إليه دعوة لزيارته، فانقطع ما كان بينهما وحده، ثم أنه يحكي أنه قابل شوقي بعد تلك الحادثة بأربع سنوات، صدفة، في بهو فندق الكونتنتال، فقابله شوقي وسأله مبادرًا عن سبب انصرافه عنه (؟!!)، فكان كل ما كتبه زكي مبارك هنا هي هذه العبارة: "فأجبته بكلمات فيها جفاء"، ولم يذكر ردّ شوقي عليه ولم يذكر بطبيعة الحال ما هذه الكلمات، وأما الذي فعله شوقي - وهما موقفان ذكرهما زكي مبارك وأعاد ذكرهما كثيرًا ورآهما مما يرتبط بعواقب رسالة الاعتذار عن كتابة المقدمة
فأولهما: أن جريدة السياسة الأسبوعية أرادت إصدار عدد خاص عن شوقي، بمناسبة حفل تكريمه، فرأى شوقي أن يراجع مواد العدد ما دام هو محوره (ولأنه كان لا يحب النقد السلبي أيضًا شأن أكثر المبدعين الملهمين عند التعرّض لأعمالهم)، فأجابوه إلى طلبه، فحذف شوقي بعد القراءة عدة مقالات واردة في العدد الخاص به، وكان من ضمنها مقالة زكي مبارك!، ورأى زكي مبارك في هذا استقصاد سببته الرسالة
وثانيهما: يومَ قدم طاغور إلى مصر، وأقام له شوقي حفل استقبال في منزله، فدعا طه حسين ولم يدع زكي مبارك، وسبب الاتيان بذكر طه حسين هنا مع زكي مبارك أن كليهما جار للآخر، وكلاهما يعمل في الجامعة المصرية، وزاد زكي مبارك على ذلك القول بأن شوقي دعا طه حسين وهو "عدوّه اللدود" (يقصد: من ناحية طه حسين لا شوقي!)، ولم يدع زكي مبارك الذي (كان) صديقه – كما يقول – إلا أنني لا أفهم ماذا قصد زكي مبارك بكلمة أن طه حسين كان عدوّ شوقي اللدود، نعم!، كانت طه حسين ينتقد الكثير من شعر شوقي، وإن لم يخرج مع ذلك من فم شوقي كلمة في حق طه حسين سلبًا مهما كانت، ولم تخرج كذلك كلمة سلبية من فم طه حسين في حق "شخصية" شوقي، لا شعره، إلا أنه مع ذلك فأن حكاية اللقاء بين شوقي وطه حسين لم تنقطع قط لا في مصر ولا خارج مصر، وكان شوقي يلتقي بطه حسين بشكل اعتيادي كما تشهد على ذلك قصة وفاة والد محمد عبد الوهاب عندما أخذ شوقي، وهو في لبنان، بيد عبد الوهاب وحضر به إلى طه حسين الذي كان هناك أيضًا في نفس الفندق، وذلك ليخفّف عليه طه حسين من نبأ وفاة والده ويعزّيه ويقنعه بعدم الانسحاب من الحفلة التي وزعت دعواتها من قبل، هذا ما كان، وهذه الحادثة وقعت في لبنان وقعت قبيل وفاة شوقي بعام واحد ولا أتخيّل أن يذهب شوقي إلى طه حسين في مثل هذا الموقف إلا إن كان بينهما صداقة من درجة ما تبيح له ذلك، إلا أن زكي مبارك ترك كل ذلك وقال أنه لم يُدع إلى حفلة طاغور بسبب المقدمة وصراحته في احتمالية نقده لشعر شوقي في مقبل الأيام، بينما دُعيَ طه حسين لذات الحفلة رغم ندقه الصريح لشعر شوقي من قبل، وقال في تعليل ذلك أن شوقي راعى الرسميات وحسب، ودعا طه حسين لأنه كان موظفًا في الدرجة الثانية، بينما هو – أي زكي مبارك – كان موظفًا في السادسة!!
وصراحة: بدا لي أن زكي مبارك هنا يميل كثيرًا إلى تعظيم ما حدث وتكبير الحوادث الجانبية الشبيهة التي سمع عنها حول شوقي، ثم جعلها تصبّ في موقفه الذي يقفه منه، ثم خلق تلك الهالة المهولة من المأساة حول الموقف كله
أو أنه كانت هناك كبرياء من جانبه منعته من وصل ما انقطع، وكان في وسعه ذلك لو سعى إلى مقابلة شوقي، بدلاً من أن يكتفي بانتظار دعوة لم تجيء، ثم أن شوقي كما مرّ فيما سبق سأله عندما قابله بعد ذلك بسنوات عن علّة انصرافه عنه، وهذا سؤال لن يسأله شوقي – بعد كل كلمات المأساة التي ذكرها زكي مبارك حول قصة الانقطاع – إلا إن كان شوقي فاقدًا للذاكرة تمامًا!!
ثم .. ثم .. يدعم احتمال الكبرياء هذا أن زكي مبارك قال في مقال رثائه لشوقي هذه الفقرة الشجية: وآخر مرة رأيت فيها شوقي كانت بمسرح حديقة الأزبكية في ربيع سنة 1932، رأيته نحيلاً تتموّج عيناه، وتضطرب يداه، وقد هممتُ يومئذ بتقبيل يمناه، ثم تذكرتُ ما بيني وبينه فانقبض صدري وانصرفت:
لو كنتُ أعلمُ أن آخر عهدكم يومَ الفراقِ، فعلتُ ما لم أفعلِ
..
ثم أن القصة لا تنتهي هنا، فقد وقع زكي مبارك في تناقض لم أستطع تعليله، فقد قال - وذكر هذ الحادثة أكثر من مرة كما سبق - من أنه وافق مبدئيًا، ثم عاد إلى منزله، ثم أرسل شوقي إليه نسخة مصححة بخطّه الجميل من الديوان الذي يعدّه للطبع ليكتب زكي مبارك المقدمة كما وعده، ثم رجع زكي مبارك إلى نفسه، ثم أرسل رسالة الاعتذار إياها إلى شوقي، ثم انقطع ما بينهما
وهذا هو الترتيب التي تكرر ذكره، وتكرر أيضًا أنه قابل طه حسين في عصر اليوم الذي أرسل فيه خطابه، أو كما قال تمامًا: وفي عصرية اليوم الذي كتبت فيه ذلك الخطاب قابلت الدكتور طه حسين وأخبرته بما وقع، فغضب أشد الغضب وقال: ليتك استشرتني قبل أن تصنع ما صنعت، ألا تعرف أنك أضعت على نفسك فرصة من فرص التشريف؟، لو طلب شوقي مني ما طلب منك – وأنا خصمه – لاستجبت بلا تردد، فشوقي في رأيي هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي!
وهنا انتهى كلامه حول هذا الأمر في مقاله - ثم بعد مقالات أُخَر جاء مقال مختلف، وأعاد فيه – كالعادة – ذكر هذه الحادثة مرة أخرى بعد أخرى، ولكنه أضاف تفصيلاً غيّر فيه هذا الترتيب، بل نسفه تمامًا، قال، وهذه هي كلماته في مقاله الجديد: طلب مني رحمه الله أن أكتب مقدمة الشوقيات، فاعتذرت بأن المقدمات يراعي فيها التلطف، وأنا أكره أن أتقيّد برأي قد أنكره فيما بعد حين أجد قصيدة ضعيفة توجب الهجوم عليه، فقال شوقي بالفرنسية جملة معناها: "أنا لا أفرض أي شيء"، وفي المساء لقيت الدكتور طه حسين وكان جاري بمصر الجديدة وقصصت عليه ما دار بيني وبين شوقي، فتجهّم وجهه، وقال: يظهر أن رأيي فيك لن يتغيّر يا دكتور زكي، وهو أنك رجل عبيط، أنا خاصمت شوقي وخاصمني وهو يغدق الأموال على كتّاب مأجورين يشتموني في الجرائد والمجلات، ولو أنه اقترح أن أكتب مقدمة الديوان لرأيت هذا من التشريف لأن شوقي في رأيي هو أعظم شعراء اللغة العربية بعد المتنبي
فقد تغيّر الأمر من الموافقة المسبقة ثم إرسال شوقي بالديوان المصحح إليه في بيته، ثم الاعتذار كتابةً، ثم مقابلة طه حسين في عصر اليوم الذي كتب فيه الخطاب؛ تغيّر هذا إلى: الرفض لأول وهلة وفي نفس الزمان والمكان الذي طلب منه شوقي كتابة المقدمة، ثم ردّ شوقي في نفس اللحظة على هذا الرفض بعبارة فرنسية مهذبة، ثم مقابلة طه حسين في المساء وإخباره بما جرى
ثم طه حسين هذا الذي قال أنه خصم شوقي، هو نفسه الذي جعله زكي مبارك، وفي مقال آخر له ذكر فيه نفس الحادثة إياها، ولكنه (كالعادة!) أضاف تفصيلاً جديدًا يُضاف إلى الزيادة التي أضافها من قبل على المقال الثاني فيما يتعلق برد طه حسين!، ففي الزيادة الجديدة، قال بعدما قال له طه حسين: أن شوقي أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي
فقلتُ: أني أرى أنه أشعر من المتنبي
فقال الدكتور طه: ما دام هذا رأيك فما الذي يمنع أن تكتب المقدمة؟
فقلتُ: لاحتفظ بحقي في نقده حين يخطأ
فقال الدكتور طه: شوقي لا يخطأ!
فقلتُ: اسمع يا سيدي الدكتور هذا البيت وهو من قصيدة قالها شوقي بعد العودة من منفاه: وكلّ مسافرٍ سيؤوب يومًا إذا رُزق السلامة والإيابا
فقال الدكتور طه: هذا بيت جميل
فقلتُ: أن سيدي الدكتور من ذرية الرسول، عليه الصلاة والسلام، وفيه قال الله في كتابه العزيز: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له"، فالمفروض يا سيدي الدكتور أن المسافر سيؤوب إذا رزق السلامة والإياب، فليس في البيت معنى جديد، فضحك الدكتور طه
أحسب فقط أن عبارة طه حسين السابقة بعد الإضافة: أنا خاصمت شوقي وخاصمني وهو يغدق الأموال على كتّاب مأجورين يشتموني في الجرائد والمجلات
لا تتوافق مع كلمته في المقال الآخر الخالي من تلك الإضافة السابقة: أن شوقي لا يخطأ
فهذه العبارة الأخيرة لا يقولها إلا محب معجب، يتمثل هذا في إعجابه ببيت شوقي السابق لأول وهلة وقوله هذا بيت جميل!، بينما الخصم – وخاصة الخصم اللدود كما يقول زكي مبارك عن طه حسين!! - إذا استمع إلى قول خصمه نراه يميل إلى انتقاده أولاً مهما كان من شانه، ثم يتضّح له بعد ذلك حسنه - إن كان حسنًا - وأعمته الخصومة عن ذلك!، أما أن يقول هذا الخصم - الذي دفع شوقي لأن يؤجّر كتّابًا يشتمونه في الصحف - كلمات مثل: أن شوقي لا يخطأ، وهو أعظم الشعراء العرب بعد المتنبي
فهذا لا أعدّه خصمًا على أي حال، بل هو صديق ودود!!، وهناك شيء مفقود في هذه الرويات لا أعرفه
هذا والله أعلم، وهناك في هذا الكتاب حكايات غريبة كذلك، منها ما قاله عن ظروف كتابة شوقي لمرثيته في حافظ إبراهيم، من أن شوقي قرأ ذلك في جريدة البلاغ وهو جالس في مقهى "القهوة التجارية" بالاسكندرية، فغام وجهه عند مطالعة الخبر وأخذ في إنشاء مرثيته لحافظ إبراهيم!، ولا أدري من أين جاء بهذه القصة ليقول بها على وجه اليقين، خاصة أن الصلات كانت منقطعة وقتذاك بينه وبين شوقي على إثر حادث الرسالة كما قال من قبل، وكان قد مر على ذلك أكثر من ست سنوات، ومع هذا كله فأن هذا الكلام - وما سبقه من كلام حول ظروف نظم شوقي لقصيدة رثاء حافظ (في مقال آخر كالعادة) - أن هذا الكلام يخالف تمامًا ما قاله سكرتير شوقي عن أنه أخفى خبر وفاة حافظ عن شوقي لأيام، ثم لما قال لما اضطر لأن يقول له الخبر – وكان في منزله الصيفي وقتذاك لا جالسًا على القهوة التجارية أمام البحر – شردَ لحظة ثم قال أول بيت وحسب من مرثيته قبل أن يكملها فيما بعد: قد كنت أؤثر أن تقولَ رثائي يا منصفَ الموتى من الأحياءِ
وأنا أصدق رواية سكرتيره
وحديثه عن اتهام العقاد بالكذب على الموتى، يطولُ، وقد سئمتُ، كما أن عامر العقاد تكفل بالرد على هذه التهمة الساقطة من نفسها حيث لم تقم أسسها إلا على الوهم والاستنتاج الشخصي، وإن كان هذا كله لا ينفي أن حديثه عن شعر شوقي عذب للغاية، وشائق للغاية، ورشيق للغاية، وبديع بما لا يُوصف، وهذا الافتتان بشعر شوقي كان شيئًا غالبًا عليه، ليقول ويكرر ذلك متى ما أعاد ذكر ما كان بينه وبين شوقي: من أنه وإن باع حظه من "شوقي الإنسان" فما أسعده بنصيبه الذي استبقاه من "شوقي الشاعر"، وحسبه هذا
ثم مات شوقي في صيف عام 1932، وأنهيت قراءة هذا الكتاب، ثم قرأت بعده على غير اتفاق، كتابًا صغيرًا عن غاندي لمؤلف آخر معاصر، وقرأت فيه فصلاً عن موقف الصحف المصرية من رثاء غاندي الذي أُغتيل عام 1948، ودهشت عندما قرأت بين مراثيها أبياتًا قصيرة لزكي مبارك نفسه، مؤلف كتابنا هذا!، قال فيها أن أقصى ما يرجوه أنه يودّ لو كان شوقي حيًا ليرثيه هو: لو كان شوقي عاش، كان رثاؤهُ لكَ، من دموع الشعر والشعراءِ
وهذا جميعه - بما فيه من حديث مسهب بما يُسميّه صاحبه بـ"ـالخصومة" بينهما - لا أراه إلا إعجابًا فائقًا بشوقي لا مثيل له فيما عرفت!