تحكي هذه الرواية قصة موسى بن أبي غسّان؛ الفارس الأندلسي الذي قاد جيوش غرناطة أثناء حصارها الأخير. تروي فصول الرواية الإثنا عشر - بعدد شهور السنة الأندلسية- سيرة القائد الأسود: تسرد طفولته وصباه ومسيرته التي شملت غرناطة وألمرية ومالقة وجبال بُشرة. وامتدت حتى عدوة المغرب وفاس. ثم ارتدت به في نهاية المطاف إلى غرناطة.. حيث بدأ!
محمد عبد القهار: كاتب ومهندس مصري، من مواليد القاهرة، يكتب المقال على عدة مواقع الكترونية، ونُشرت له روايته الأولى :"سراي نامه: الغازي والدرويش" في يونيو 2013، ونُشر له رواية "غارب" في يناير 2016 صفحة الكاتب على الفيسبوك: https://www.facebook.com/mohameda.elk...
من يعرفني جيداً يعرف عني صفتين: أني شخصٌ ملولٌ بطبعي. و أني لا أستطيع القراءة أو الكتابة تحت ضغط أو إلحاح من أحد أو إرتباطٍ بجدولٍ زمني محدد. فإذا طلب مني زيدٌ أن أقرأ هذا المقال الآن، أو طلب مني عمرو أن أطلع على كتابٍ ما ثم أرده له خلال شهر مثلاً، ما استطعت فعل هذا أو ذاك. فإذا علمت أنني قد اطلعت على مخطوطة هذه الرواية مرتين، الأولى كفصول متفرقة كلما أنهى محمدٌ منها فصلاً، و المرة الثانية بعد أن ضُمت الفصول و روجعت و نُقحت. و أنني في المرتين كنت أقرأ باستمتاع، و أني في المرة الثانية كنت أقرأ بنفس الاستمتاع و التشوق و كأني لم أقرأها من قبل، و على الرغم من أن الأحداث تدور في حقبة زمنية أزعم أني على دراية جيدة بها. فإذا عرفت كل هذا ربما أدركت مدى جمال و تميز هذه الرواية :) ربما أستشعر الحرج بعض الشيء و أنا أكتب مراجعتي لهذه الرواية و قد يظنني البعض مبالغاً في ثنائي عليها و رأيي فيها لما يربط بيني و بين كاتبها من أخوةٍ و محبةٍ و صداقة، لكن الصدق من تمام الصداقة، و لو كنت أثني عليها و هي لا تستأهل هذا لكان هذا خيانة لهذه الصداقة. لنعود للكلام عن الرواية التي بأيدينا، تدور أحداث الرواية في غرناطة بني الأحمر في سنيها الأخيرة قبل السقوط. بنى الكاتب روايته على القليل جداً الذي ذُكر في المصادر و المراجع التاريخية و الأدبية سواء كانت عربية أو أسبانية عن الفارس موسى المعروف ب (موسى بن أبي الغسان) و الذي نكاد لا نعرف عنه إلا أنه كان شجاعاً رافضاً لتسليم غرناطة، بالإضافة إلى المشهد الأخير في حياته. و من جملةٍ عابرة ذكرت أن السلطان سعد بن محمد كان له ولد اسمه موسى، بنى الكاتب أحداث روايته و رسم حياة موسى من البداية إلى النهاية بكل ما فيها من آمالٍ و آلام، و أفراحٍ و أتراح. لتكون هذه الحياة الثرية عارضةً لصورةٍ من الحياة السياسية و الإجتماعية في الأندلس قبيل السقوط، و في الوقت ذاته التركيز على الجوانب النفسية و النزاعات الداخلية داخل النفس بنوازعها و بكل ما تحمله من تركيبٍ و تقلباتٍ و ثنائيات و التأكيد على بشريتها دون الإغراق في التمجيد أو التسفيه من البطل تبعاً للرؤية السطحية و المؤدلجة للتاريخ و التي يسعى الكاتب في مقالاته و في روايته هذه و في روايته الأولى (سراي نامة) إلى ضحدها و تفكيكها. و هكذا نمضي مع موسى منذ مولده في قصر الحمراء، ثم خروجه شريداً إلى مالقة و منها إلى ألمرية، ثم تنقله بين صنائعٍ مختلفة بنجاحات و إخفاقات، و كل هذا و هو محملٌ بإرث أسرته بما طبعه بالتعالي على غيره، إلى أن قاده القدر إلى الرباط لتبدأ حياته الحقيقية و ليُبعث موسى الذي عرفناه – أو بالأحرى عرفنا عنه أقل القليل – في كتب التاريخ. سيقدر القاريء الشغوف بالتاريخ كم المجهود المبذول في الغوص وسط كتب التاريخ و الأدب و التراجم بل و حتى كتب الرقائق للوقوف على تفاصيل دقيقة لصورة الحياة في هذا العصر، و جغرافيا الأماكن التي وُصفت بدقة و إن لم يكن الكاتب قد زارها في الواقع. و سيدرك أن الأمر قد يتطلب قراءة كتاب بأكمله للخروج منه بفقرة أو حتى سطر واحد يُبني عليه بعض أحداث الرواية. بل إن سطراً في أحد المصادر قد يكون البذرة لسلسلة من الأحداث المتخيلة في ذهن الكاتب يرسمها و يربطها و يشكلها كي يوصل رسالته. و إذا تكلمنا عن الصياغة و الأسلوب و اللغة، فهذه الرواية قد تفوقت على سابقتها بشكلٍ كبير. تنقسم الرواية إلى إثني عشر فصلاً بعدد فصول السنة تغطي حياة موسى من البداية إلى النهاية، ينقسم الفصل الواحد إلى ثلاث أقسام بعناوين (أنا، هو، أنت). قسم (أنا) عبارة عن رسائل يكتبها موسى على فتراتٍ و يرسلها لولده في المغرب، و سيلمس القاريء تغير أسلوب و مزاج موسى في الرسائل لأنها تُكتب على فترات و كانت أواخر الرسائل متقطعة و متعجلة لأنها كتبت أثناء الحصار الأخير و لذا اعتذر لولده عن اسهابه في أولها و عجلته في آخرها. و أجاد الكاتب في صياغتها لغوياً لتكون على غرار الرسائل القديمة سواء في الأسلوب أو المفردات أو التقسيم لأطوار على غرار (ذكر وصولنا ألمرية – ذكر دخولي المدينة وتسميتي بابن بأبي الغسان ...إلخ) ، و من أجمل ما فيها ما أورده من تفاصيل في صنوف العلوم و الصنائع التي تعلمها موسى و عمل بها، و ما في ذلك من ارتباط بالتراث و عرضٍ لصورة الحياة و المجتمع، و أزعم أن العناية باللغة و الأسلوب كان أحد أكبر عوامل إعجابي بالرواية. بالنسبة لقسم (هو) فهو تناول المؤلف للخيط من القسم السابق و حكيه للأحداث، و يبدأ في كل فصل بصورة تجمع ما بين الوصف و الرمز ينتقل منها بسلاسة للحوار بين الأبطال و الذي كثيراً ما يدور باللهجة الأندلسية! أما القسم الثالث (أنت) فهو عرض ما يعتمل داخل نفس موسى و كأنها مملكة ملكها القلب و وزراءها العقل و الأطراف. و كأن القسم الأول هو لسان موسى نفسه، و القسم الثاني هو ما يجري لموسى و غيره من منظور عين الطائر، أما الثالث فهو نفس موسى بكل ما يضطرم بها من مشاعر و خواطر و هواجس. و لأن اللسان قد يسكت عن أشياء كما يُسر بأخرى، و لأنك قد تستطيع أن تكذب على كل الناس لكنك لا تستطيع أن تكذب على نفسك، فإن قسم (أنت) قد جاء كاشفاً لقسم (أنا). و يبدو جلياً فيه تقلبات النفس و أطوارها، ما بين أمرها بالسوء، أو كونها غافلة، أو كونها لوامةً تتحرق إلى أن تصبح مطمئنة. و يبرز مع كل هذا، سواء مع موسى الأندلسي، أو الشيخ السلجماسي التونسي، أو الأمير المملوكي الظاهري المصري، يبرز مع كل هذا سؤال العمل، و سؤال جدواه، و قبل كل هذا: سؤال النية. و يكاد يكون هذا السؤال الأخير هو السؤال المؤرق لنفس موسى، و هو السحابة المظللة للرواية، و هو مفتاح رسالة الكاتب إلى القاريء، و هو مناط العمل كله. و أسأل الله أن يجزي كاتب الرواية خيراً على نيته في كتابة الرواية و عمله فيها و أن يجعلها في ميزان حسناته.
الرواية الأولى التي أقرأها للمؤلف, وسأبدأ بالإشادة به لغة عربية متينة وسليمة, جهد متميز جداً في البحث التاريخي, تقمص مذهل للفترة الزمنية التي تحكي الرواية عنها, من الوصف إلى اللغة حتى طريقة التفكير تقنية روائية معقدة وعالية المستوى ولكن... ثمة شيء ناقص كنت أتقدم في قراءة الرواية ببطء شديد وأنا أتساءل عن هذا العنصر الناقص الذي يجعلني أجد صعوبة في التقدم بالقراءة في الربع الأخير من الرواية اكتشفته... المتعة. شخصياً أرى أن الوظيفة الأولى للروائي هي تقديم المتعة للقارئ, ثم يأتي الموضوع وتأتي الأفكار وكل شيء آخر, ولكن المتعة أولاً وإلا, فإن الكاتب سيفقد القارئ أثناء الطريق. هذه الرواية تفتقر لهذا العنصر(وخصوصاً في الأرباع الثلاثة الأولى) ولا يوجد فيها إلا الحد الأدنى من التشويق, وربما أقل من الحد الأدنى في نصفها الأول. ولا يرتفع مستوى التشويق والاستمتاع بالقراءة إلا قرب نهايتها وثمة ملاحظة أود أن أذكرها وأتمنى مناقشة المؤلف حولها, وهي عن الشخصية الرئيسية في الرواية محمد عبدالقهار تبنى الرواية التاريخية التي تقول إن موسى هو من بني الأحمر وأنا أخالفه في هذا الرأي وأعتقد بصحة الرواية التي تقول إنه من أسرة عريقة في غرناطة تمت بصلة ما لبني الأحمر ولكنه لم يكن الأخ الأصغر لوالد سلطانها الأخير أبو عبدالله الصغير. أعلم أن المعلومات التاريخية حول هذه الشخصية شحيحة ومتضاربة بشدة وأن معظم المعلومات عنه استقيناها من المؤرخين الإسبان لإن المصادر العربية لم تذكره بالتفصيل, ولكن لا ضير من اختلاف الآراء على أية حال وبغض النظر عن النقطة آنفة الذكر فإن المؤلف محمد عبدالقهار كاتب متمكن فعلاً لغةً وتقنيةً, يحترم التاريخ ويحترم الأدب, وهو يستحق الاحترام والقراءة
قصة جواد أعمى "و" فارس مخذول!! وبين هذا وذاك وجعٌ وخنوع وذل وغارات روم و ورايات رُفعَت وأُخرى مُزقت وأُزهقت ! ووثوب السلطان على السلطان، ظل أعمدة مزخرفة وصوت خرير ماء بركة في فناء الحمراء! حلوى على شاكلة الحمراء تذوقتُ طعمها مع موسى حين كان طفلاً تربيه النساء وذقتُ مُرها وعلقمها معه حين خرج من غرناطة مكسوراً مُطأطئ الرأس عليل القلب مفطور الروح رافضاً التسليم ! ونجوم زينت المقرنصات ونقوش فرشت الأرض عزاً يوم كان لهم فيها حكم وحياة! بين الجواد والفارس تذوق طعم علقم الهزيمة وتهون عليك كل النكبات وتذكرك بنكبات تعيشها الآن! ستبكي على حالٍ آلت إليه الأندلس مُهجة القلب والروح و عروس الحضارة وباعثة العلم والنور في وقت ساد فيه الظلام والظلم! أندلس الحلم والمنتهى وصوت يُدندن" إن للمهجة في الأندلس مُشتلى حُسنٍ وريّا نفسِ" وما علمتُ يوماً أني سأزورها سفر الروح والزمان لا المكان! سأحضر التسليم وأذرف الدمع على حالٍ من المُحال دوامه! تسافر هي إليّ على متن حروف كاتب عبقري فذّ يُطوع حروفه حيث يُريد و وهي تحطُ بقرائهارخاءً حيث تشاء! غارب؛ رواية تاريخية تتحدث عن أخر عهد غرناطة قبل السقوط ووقت التسليم. تتحدث عن المستعين بالله سعد الأحمري و أولاده الزغل و أبو الحسن وابو الحجاج يوسف و عبدالله الصغير أخر ملوك الأندلس الذي قيل فيه: ابكِ على شباب قد زال على حياة لم تعد، على مُلكٍ لم تصنه كالرجال. وعن موسى الفارس الأسود الذي ما علمتُ عنه في الكتب التي قرأتها عن الاندلس سوى أنه فارس كان رافض للتسليم والذي كان يُكنى بِـموسى بن ابي الغسان. الرواية توصف حياة موسى أصغر ابناء المستعين بالله من خلال رسائل كتبها لولده عبدالملك يُصور من خلالها التاريخ ويغوص في جغرافية المكان ببراعة ليس لها مثيل. مقسمة إلى ١٢ فصل حسب أشهر السنة وكل فصل بشهر من"ينير"إلى "دجنبر" مقسم كل فصل فيها إلى ثلاث أقسام يختلف كل قسم باختلاف الضمير مابين "هو" "أنت" "أنا". أنا: يكتب فيها موسى عن نفسه. هو: يسرد فيها أحداث تدور معه ومع شخصيات الرواية وشخصه بصيغة(هو) أنت: يتحدث عن ما يدور وما يختلج نفس موسى وكل موسى فينا! سرحتُ كثيراً وذُهلت من قدرة الكاتب على عرض مكنونات النفس وما يدور بها في صراعها مع نفسها بتلك الطريقة الغريبة العظيمة، صراع بين الملك(الشخص بكله) وبين الوزراء والعرفاء والارباض وابن لبابة وابن الضمير وكافة اركان مملكة النفس حيث تدور بينها حورات عصيّة على الوصف عميقة تُعري صاحبها وتكشفه أمام ��فسه! أما النهاية: تساءلتُ كثيراً بعد شهر"أكتبر" كيف ستكون النهاية!؟ نهاية غارب الجواد الأعمى ونهاية غارب الحكاية!فهي منه وهو منها! كنتُ اسأل عن النهاية ولا يهمني الجواب بقدر ما يمهني السؤال نفسه؛ كنت كالسائل الذي يسأل دون أي اهتمام بالجواب فهو يهتم فقط بطرح السؤال! اسأل كي استفيق من حالة الذهول والوجع الذي يكمن بين السطور! وترجمة الحال هناك بالحال هُنا وهُنا الآن! وكانت النهاية صاعقة صاعقة! لم اتخيل أن تكون النهاية برسالة يكتبها موسى لمحمد! لمحمد خير الخلق وحبيب الله، رسالة يُسلم بها على رسول الله ويشكي له حاله وحال الأندلس و يقول فيها:حسبي أن رسول الله حي في قبره يرد السلام على أحبابه في كل مصر وحسبي أنك يا رسول الله تسمعني وأن حبك قربة وشفاعة. تسلم عليه من غرناطة الأندلس اليتيمة المقطوعة المنكرة. وتتساءل وتقول: أنّى ينصرنا الله على الكافرين ولو جاءنا الجند مداً بعد مد والرأس فاسد والجسد عليل!! فتأمل! فتأمل! سقطت الأندلس و ذهب حكم الإسلام فيها ومات القرآن هناك و وُلد الصليب ! الرواية تتحدث عن نفسها وتخبر عن نفسها بنفسها! أما لغة الكاتب: في البداية كنت أحسب أن لغة الكاتب مأخذ يتيم على الرواية فهي لغة رصينة ورزينة وألفاظ قوية كنت احتاج معها ان اعود إلى المعجم كي افهم ماهيتها ولكن بعد ما علمت من الكاتب نفسه أنه " أختار لنفسه منذ بدأ الكتابة أن يجبر الانقطاع اللساني الذي جعل التراث بالنسبة إلينا مبهماً" بات هذا مأخذ عليّ أنا لا عليه ولا على روايته،الجهل والتقصير بحق اللغة الأم والغربة عنها وعن فطرتها التي تسري فينا. باختصار: عظيمة رهيبة خيالية ! والحمدلله :)
رواية تاريخية عظيمة تحكي حياة الأمير الأندلسي موسى بن أبي غسان .. فارس غرناطة المغوار وآخر مجاهديها .. والذي قاد جيوشها أثناء حصارها الأخير ورفض تسليمها للنصارى وقاوم حتى النهاية ..
تغطى الرواية أحداث الفترة الزمنية العصيبة التي إمتدت في أواخر الحكم الإسلامي بالأندلس .. والصراعات والحروب التي دارت فيها حتى سقوط دولة بنى الأحمر وتسليم غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام ١٤٩٢ ..
الرواية تزخر بالمعلومات والتفاصيل والأحداث المستقاة من بطون كتب التاريخ .. والتي تم صياغتها في قالب روائي وأدبي عميق البلاغة والإتقان .. وبلغة شديدة القوة والتماسك .. .
الرواية تتفوّق على سابقتها "سراي نامة" من حيث طريقة السرد وجزالة اللفظ وسلاسة الأسلوب والحبكة. بناء الشخصيات والأحداث وربطهم وربطها ببعضهم البعض لا يدلّ إلا على وجود روائي لا يوصف بأقلّ من النابغة فسبحان من ألان الحديدَ لداوودَ واللغةَ لابن عبدِ القهّار
الرواية بشهورها الاثنتيْ عشر وتقسيم الشهر الواحد لـ "أنا" و"هو" و"أنت" لا تتحدّث عن الأندلس بقدر ما يعنيها التحدّث عما يجول بالنفس من خواطر.. الكاتب، وكأنّما أوتي خبر السماء، يفصح عن مكنونات النفس بشكل رائع وكاشف لا يملكه إلا صاحب فكر عميق وحديث مطوّلٌ مع النفس فأصاب، جزاه الله خيراً، بتفاصيل سرده روحي فأبكاني وأضحكني وأدهشني وخوّفني كأنّي أنا موسى ابن أبي غسّان.. كلنا جزءٌ من ذات موسى ابن أبي غسّان الأمير الذي لفظته الحمراء لتعيده إليها لتلفظه مرّة أخرى وأخيرة.
الرواية ليست بكائية على الأندلس بقدر ما هي بكائية على النفس وتقلّباتها.. يصبح المرء ذا علمٍ وورعٍ وتقوى ويمسي منافقاً.. ويصبح المرء طالباً للعلم لغير الله وطلباً لما هو أدنى (رضى الناس) ويمسي على جهاد وعمل بعلمه وحسن خاتمةٍ.
ولأنّ كاتبنا يسبر أغوار النفس فسيصيبك حتماً من روايته شيءٌ سيرافقك زمناً طويلاً فتصبح هذه الرواية من اللواتي تقرأهنّ فتغيرك فور، بل وحتّى أثناء، الانتهاء منها.
هي رواية للأندلس وكلّ أندلس.. وللنفس وكلّ نفسٍ.. ألا زاد الله صاحبها من علمه النافع ولا حرمه من عطاءه وأدام عليه نعمة الكتابة.
(1) واعلم يا بني أن صنعة الهندسة تجفف من عاطفة صاحبها وتجعله مقبلا على كل عمل نافع ذي مردود ومادة، وتنأى به عن كل عمل به عاطفة جياشة فيجف قلب عالمها وتنقطع عنه الحكمة والعلم الغزير إلا ما ينفع به عمله، وقد ترى في المهندسين من خالفهم في هذا فامتلك عقلا راجحا وهذه من صنعة الهندسة ونظرة واسعة ومن الله عليه بعاطفة جياشة وحكمة عميقة، فترى مهندسا ليس كالمهندسين بل كأحذق ما يكون المهندس، وأعظم ما يكون الحكيم. وظننا أن الكاتب بكتابه الثاني في التاريخ بهذه العاطفة وهذا الحذق قد وصل هذه المرتبة ولا يصلها إلا قليل، ومن الكتاب من يكتب كثيرا ولا يتقدم في صنعته إلا قليلا، أما صاحب هذا الكتاب فقد كان كمن يولد كبيرا ومن مثله قليل وهذه من النعم النادرة، فسبحان من ينعم على عباده كيفما يشاء، فتأمل. (2) وهذه يا ولدي قصة جواد أعمى وفارس مخذول.. أولها عز الصبا لطفل أمير ثم تقلب الحال إلى تشرد وانكسار ، ثم مع عمر الشبوبة وما فيه من التقلب بين الجد والهزل والشهوات والصالحات ومحاولة إتقان الصنعات فالتغير من واحدة لأخرى مع تغير الحال واختﻻف أحوال الدنيا من ضيق وكدر إلى سعة أو من براح إلى أسى وزواج وبعد وفراق وأصحاب وسلاطين وجهاد وعلم .. إلى أن يعود الحال إلى مراتع الصبا لكنه غازيا ، أو أنه رجا هذا فغدا آخر الدهر فارسا يخذله أهله مع جواده المخلص الأعمى فمات ومتت معه بسيوف النصارى وغابت شمس الإسلام عن غرناطة! هذا لتعلم يا بني أن الدوام لله وحده والدنيا من حال إلى حال ولا غالب إلا الله... (3) وهذه الرواية على نمط المراسيل وفيها أحداث جسام ولواجع وأحزان وأفراح وأتراح يصف فيها الوالد الفارس حياته لولده البعيد ويورد له فيها الحكم والعبر.. فمن أسعد من إنسان اعتبر من غيره ولم ينتظر أن تلفحه النار ليعرف حريقها؟ وتلك السعادة يغفل الناس عنها فيعيدون سيرة الأولين فتبصر. وفيها من أحداث الملك والصراع عليه في أواخر عهد الإسلام في أرض الأندلس حتى اجتمع الناس على النزول إلى حكم النصارى وكانت هذه من أعظم ويلات المسلمين وبداية انتكاساتهم التي تشهد انتشارها الآن فما اقتتل الناس على الملك واشتروا الدنيا بالآخرة حتى أذلهم الله وسلط عليهم الكفار وأعوانهم وهذا حالنا لا يخفى عليك فانظر واعتبر وإلى الله عاقبة الأمور. وخير ما ورد الرسالة المعلقة إلى نبينا حبيبنا طبيبنا ومن تهون علينا مصائبنا إذا ذكرنا مصابنا فيه محمد الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه الرواية هي السحر الحلال والعسل المصفّى، لم أقرأ مثل هذا النص الباذخ لكاتب معاصر في كل مسيرتي القرائية..
تدور أحداث الرواية في زمن مملكة عرناطة.. ما قبل سقوطها بزمن قصير وحتى سقوطها، وعدم استسلام بطل روايتنا (موسى بن أبي الغسان)
تقع الرواية في 12 فصلا بعدد شهور السنة وقد تمت عنونة الفصول بالأسماء الأندلسية للشهور (ينير، فبرير.. حتى دجنبر) ومعلوم تاريخيا أن غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس قد سقطت في شتاء ديسمبر بعد حصار طويل، ثمّ ذُيلت الرواية بفصل ثالث عشر عنونه الكاتب البارع بالاسم الإسباني للشهر الأول وهو
Enero
كل فصل من هذه الفصول الاثنتي عشرة مؤلفٌ من ثلاثة أقسام.. أنا، هو، أنت
أقسام أنا: كانت عبارةً عن رسائل وكتب يخاطب بها موسى بن أبي الغسان ولدَه عبد الملك ويرسلها إليه وهو الذي بات بعيدا عنه مقيما في المغرب هو وأمه طليقة موسى. أقسام هو: كانت بصيغة الغائب كوصف للأحداث على لسانٍ آخر، ويوشح الكاتب أقسام (هو) ببعض التعابير العامية بالدارجة الأندلسية. أقسام أنت: هي ما يخاطب موسى بها نفسه، فقد أقام ملكاً وهو القلب وله وزراء وأرباض مثل ربض الإخلاص.. ربض الكرم.. ربض الغيرة.. ربض الشجاعة..
وكل قسم من هذه الأقسام يقطر عذوبة وإبداعاً.. سبحان المعطي الوهّاب
أما قسم (أنا) في الفصل (الشهر) الثاني عشر، فلن أفسد على المطّلع على هذه المراجعة دهشته به، ومن يخاطب به الكاتب..! إبدااااااع
رواية تاريخية بحق، وكأنك تقرأ لقلم أندلسي وصف واقعي للأحداث، بدون تمجيدٍ مقدِّس ولا تنقيصٍ متحامل. مهما تكلمت عن هذه الرواية فلن أوفيَها حقها أبدا.
لغة الرواية العالية هي حجة على كتّاب الروايات التاريخية، فقد قرأت كلاً من (العلّامة - ابن خلدون) و (الجنيد - ألم المعرفة) فكانتا مخيبتين للآمال ولغة كل منهما عصرية وفاشلة جدا. أما محمد عبد القهّار - الكاتب المصري الشاب من مواليد 1988 فقد بزّهما وتفوّق عليهما بمراحل.
بعض الاقتباسات المسموعة التي اخترتها، لتطّلع على لغة الكاتب الراقية، من هنا:
اللى الرواية دى عملته فيا طول الكام ساعه اللى قعدت ماسكهم فيها لحد ماخلصتها مش قليل ابدا بتخليك تتعاطف مع حد وتحبه وبعدين تلعنه وبعدين تبقى مش عارف تحكم عليه لانك اصلا بقيت اعجز من الحكم ع اى حاجه حتى الاسئلة اللى كنت شايفها ��لصانة بتشك فى اجابتك ليها بتخليك مش بس تسلم انك مش فاهم الباقيين حتى اقرب الناس ليك , لا , انت اعجز بكتير من انك تفهم نفسك كويس بتخلي دماغك يفرز سيروتونين وتبقى مبسوط بنفسك وبفهمك للاحداث وبتحليلك للمواقف وبسموك الاخلاقى ع كل الموجودين وبعدين فجاه تحس ان دماغك مافيش فيها اى اثر لهرمونات السعادة وانك مش عارف تزعل عشان ايه ولا ايه ياترى عشان اللى كنت فاكر انك فاهمه طلعت مش فاهمه ؟ ولا عشان يمكن انت مش احسن من الشخصيات اللى بتلعنهم دول ؟ ولا يمكن عشان انت نفسك مش فاهم نفسك كويس الرواية تقريبا مش بتناقش الاندلس ولا بنى الاحمر هى بتسالنا اسئلة عن نفسنا
الناس المهتمة مثلا بنظرية الالعاب حتلاقى نفسها بتضحك وبتعيط فى نفس الوقت فى لقطات كتير فى الرواية
الخلاصة دى من امتع واسعد وانضف التجارب اللى الواحد مر بيها من فترة مش قليلة انا بعد ماخلصتها حزي�� لانى نفسى احس بمتعة قرايتها لاول مرة تانى (
أنا سعيد بالرواية دي جداً .. جداً .. تقريباً لو اتحوّلت لفيلم هتبقى انقلاب في كهنوت الأندلس والترنّم بنوافيرها وقصورها اللي مُتصوَّره عند أغلب المترنّمين بها
الحمدلله انهيت الرواية كأول كتاب اقرأة بعد المعرض .,اذا كنت عزيزي القارئ مهتما بالروايات التي تحكي عن الاندلس فغالبا قرأت ثلاثية غرناطة لرضوي عاشور و راوي قرطبة لعبد الجبار عدوان و ربما ليون الافريقي لأمين معلوف و بالتالي السؤال هل يوجد جديد لم يكتب بعد ,, الاجابة نعم ستجد الجديد في غارب ..كلمة غارب هي أعلى كُلِّ شيء او كاهلة او اسم فاعل من غرَبَ لست متأكد من مقصد المؤلف الاسم فالرواية تحكي اخر لحظات المسلمين في الاندلس و اخرمحاولاتهم اليائسة للتمسك ببقايا دولتهم من خلال شخصية القائد موسى بن أبي الغسّان علي فرسة الاعمي غارب.اثناء قرائتك للرواية لا تملك الا ان تسال نفسك هل انت متعاطف مع هذه المحاولات ام تشعر بان هذه هي النهاية الحتمية المستحقة كنتيجة للخيانة و التهاون الذي وصلوا اليه بارادتهم او بغبائهم. بالنسبة لمحمد عبد القهار فاسلوبه لا يجعلك تسرح للحظات بل يجبرك ان تستعمل كل تركيزك حتي لا تضيع منك الخيوط مع الاهتمام هذه المرة بتوضيح كثير من المصطلحات الغريبة عن القارئ – من قرا الطبعة الاولي من روايته سراي نامة -الغازي و الدرويش – يعرف مقصدي. كذلك هناك تيمه مشتركة مع الرواية الاولي و هي انك تجد نفسك فجأة داخل صراع البطل الداخلي و خواطرة و احلامه (كل الفصول التي عنوانها أنت تحتاج منك الكثير من التركيز) . ملاحظ فنية اخيرة علي الطباعة : هي اقل طبعات دار مدارات من حيث الجودة و نوع الورق و لكن لهم العذر نظرا لتغير سعر الورق و الخامات الي جانب محاولتهم الحاق الرواية بالمعرض حسب ظني .
بداية بنهايات موسى و طارق و الغافقي ، مرورا بعبث المضريين و اليمانيين ، وصولا إلى تقلب الإمارة الأموية على غضى الثورات ، ثم التمزق بين مهرجي الطوائف ، و إنتهاء بالإسترداد..و لا أظنني أقسو على الأندلس كثيرا فوق ما تستحق ، فحقيقة إنقراض الإندلس خير دليل على عبثية تاريخها الطويل ، و حتمية إنتهائه بالشكل الذي أنتهى به.. على أن هذا لا ينفي حقيقة أن أيام الأندلس كانت رمادية ، مثلها كمثل سائر أيام سائر الدنيا ، تتقلب بين البياض و السواد..لا تنس من فضلك أننا نتحدث عن أندلس الداخل و الناصر و الزهراوي و إبن حزم وابن رشد و القرطبي و سواهم مما يعيى به المحصي و إن جهدا ، ممن أضاف لحضارة الإنسان ما يبكي الباكين على ذلك الفردوس المفقود إلى يومنا هذا..على أن غياب القدرة على الإتعاظ و تكرار الخطأ الواحد بعينه مرات و مرات ، و الحماقة ، تكفلوا بالقضاء على أصحابهم.. كانت الأندلس رمادية ، و لكن سوادها كان كالحا فغطى بياضها أو واراه التراب ، و قد حجب الله عنها نور الغوث لحكمة لا يعرفها إلاه.. هذا الغضب الذي أكتب به ، ليس غضب الكراهية..قرأت مقالة ذات يوم تصف الفارق بين نقد أبو العلاء المودودي للدولة الإسلامية ، و بين نقد فرج فودة لها..يقول الكاتب أن سلوك المودودي في نقدها كان كسلوك الأب المحب المتألم لحال ابنته المائل إذ يعنفها ليقومها ، بينما سلوك فودة في نقدها كسلوك الزوج المستبد المستعبد الغاضب ، إذ يعنف المرأة ذاتها ليفرغ فيها غضبه و ينتقم منها..منذ بدأت أفهم ما أقرأ و أنا أغضب و أزداد غضبا ، و أتمنى لو أمزق من أوصلنا لهذه الحال بيدي و نواجذي..و لكن هذا لا ينفي للحظة أن غضبي مولود من رحم الحزن المكلوم المتوارث المتراكم ، الذي يأبى إلا أن يتجدد كل يوم.. هكذا تعرف لم لا أقرأ عن الأندلس..لا أريد أن أعرف تفاصيل القصة الحزينة الطويلة..التفاصيل التي يتخيلها الأدباء مؤلمة ، لكنك تعرف أن الحقيقة كانت أكثر إيلاما..هل تتصور حقيقة أكثر إيلاما من خيال رضوى عاشور و أمين معلوف و واسيني الأعرج ! و لكن هذه هي الحقيقة يا سيدي ، أن الحقيقة الأندلسية كانت أكثر إيلاما من خيال كل هؤلاء..
كان هذا ، إلى أن جاء السيد محمد عبدالقهار...و إسمح لي سيدي ، أن أتحدث قليلا عن السيد عبدالقهار... كان آوان معرض الكتاب قد حان منذ سنوات قليلة ، و كنت أنا أصول و أجول في موقع "جودريدز" الخاص بالكتب ، بحثا عما لذ و طاب من الغنائم التي سأحوذها من المعرض..وجدت رواية تدعى سراي نامه لها غلاف جذاب ، و عرفت من المراجعات المكتوبة أن مستوى الرواية فوق المتوسط بكثير ، و أنها الرواية الأولى لكاتبها.. فيما بعد عرفت أن الرواية ليست جيدة ، و لكنها عبقرية تماما...توقفت طويلا أمام اللغة الراقية الأنيقة الوقور ، الصعبة ، المصفوفة تراكيبها بعناية كعناية الجراحين ، و المنظمة معانيها في تماسك و سلاسة..تذكرت التعبير الذي قرأته في "أيام" طه حسين ، إن هذا الرجل يكتب سلاسل الذهب.. توقفت طويلا جدا أمام الإسلوب..الرجل يدلف إلى قلبك و عقلك في آن واحد ، بلا إستئذان ، دون أن تعجز أو ترغب في ردعه..الرجل يضبط مستقبلاتك المخية على موجاته بتقنية غير عادية ، فيصلك إرساله كاملا غير منقوص.. كل هذا لا بأس به ، و لكنه ليس فريدا..يمكنك دوما أن تقرأ لكاتب شاب واعد بدأ بقوة.. كان ما أستوقفني ، و ما زلت مستوقفا ، هو الأفكار..أنا إمرؤ جبل على الإعتراض و الرفض ، و قد زادني فشل الثورة رفضا لمعظم الأشياء ، و على الأخص ، لمعظم الأفكار..في حالة هذا الرجل ، فأنت لا تستطيع أن تعترض..ليس بوسعك هذا..ليس بوسعك إلا أن تقرأ الصفحة مرة ، أو مرات ، لتتعلم..لا تدري هل يغسلك الرجل دماغيا ، أم أنك واه الفكر إلى هذا الحد..لا تدري هل أنت ساذج ، ما زال عقلك في طور طفولته ، أم أن الرجل قد أوتي جوامع الحكم..ما تعرفه ، و ما تهتم له ، هو أنك تستمتع ، و تتعلم لغة و أسلوب و أفكار لا عهد لك بها..
كانت هذه تجربتي الأولى مع السيد عبدالقهار ، و هكذا ترى لم كنت مجبرا على قراءة روايته الثانية ، الأندلسية..كنت أعرف قبل أن أشتريها ، أن ابا عبدالله الزغل هذا ، المذكور على غلاف الرواية الخلفي ، ينتمي لاخر ايام الاندلس..أي أن محمد عبدالقهار قد وظف استاذيته ليكتب رواية بهذا الحجم عن البؤس الذي أتحاشى القراءة عنه منذ سنين..و لكن هل بوسعك ألا تقرأها ؟!..
إذا ذكرت الأندلس ، فأنت تظن – حتما ، كما فعلت أنا – أن "غارب" رواية تاريخية بالدرجة الأولى..و لكن في تقديري ، فإن الرواية لا تحكي قصة التاريخ ، بقدر ما هي تحكي قصة الإنسان..الفرد المسلم ، الخلية الأساسية في البنيان التاريخي..العبقرية هنا أن القصة التي ترويها عن الإنسان المسلم في تلك الفترة ، تتقاطع في خطوط كثيرة جدا مع قصة الإنسان المسلم في يومنا هذا ، إلى حد يقترب – أحيانا – من التطابق ! طوال الرواية و أنا أشعر أن الرواية تتحدث عني..تتحدث عن تخبطي و جهلي و حماقتي و ذنوبي و غروري و مشاعري و إحباطاتي ، و تتحدث في الوقت ذاته عن سعيي المتواصل لإيجاد معنى ما لحياتي و تحقيق مراد الله من خلقي ، و تمسكي المضني بالأمل في رحمة الله ، بالرغم من كل عيوبي..في صفحات كثيرة ، يصور عبدالقهار دخائل نفسي ، و كأنه أطلع عليها في كتاب مفتوح فنقلها بلغته و أسلوبه البليغين ، ثم – حين يصل الموقف إلى الذروة – تجده قد تركه على حاله دون أن يطرح له حلول من خياله ، فإما أن تظل المشكلة الإنسانية قائمة طوال الرواية ، أو يتجاوزها لأحداث آخرى ، دون أن يخل هذا بحبكة الرواية أو مسارها المرسوم ، ولكنه يتجلى عن سمتين أساسيتين في كتابات عبدالقهار... أولا ، الرجل لديه فهم تام لمشكلات المسلمين ، الفردية و الجماعية ، و لديه قدرة عبقرية على تصويرها ، و لكنه لا يزعم أنه يملك حلولا لها..فقط هو يطرحها ، ثم يثير أفكارا و تساؤلات من خلال سياق كتابته ، و يدع القارئ يتفكر و يتسائل ، و ربما يجيب إجابته الخاصة.. ثانيا ، الكاتب لا يصدر أحكاما على الأشخاص قط..يفهم حقيقة أن البشر كائنات معقدة جدا ، و أن تصرفاتها و سلوكها ناتج عن مجمل تجاربها الحياتية و نشأتها و بيئتها و دوافعها ، و من ثم فهو يتعاطف – بنضج بالغ – مع الجميع..لا يقول قط أن فلان كان شريرا أو قديسا..فقط يرسم صورة رمادية لكل شخصية ، تتباين درجات البياض و السواد فيها بحسب أعمالها..و حتى السطر الأخير من الرواية ، يؤكد أنه لا قدرة لكائن على الوقوف على حقيقة الإخلاص ، لا ملائكة و لا شياطين ، و لا حتى المرء بينه و بين نفسه ! فما بالك بحكم الرجل على رجل آخر !! السمة الآخرى للرواية ، و هي من سمات أدب عبدالقهار في روايتيه ، إنه يحسن وصف أسباب الإنهيار ( الفردي و الجماعي ) ، من خلال سلوك الحكام و العوام..و هو - بالرغم من تناوله لفترة سوداء في تاريخنا – فهو لا يشيطن الملوك شيطنة كاملة ، من الناحية الإنسانية على الأقل..و لكنه يصف فسادهم و ضعفهم المؤدي للإنهيار..و لعل "الفساد" هو المصطلح الجامع لكل مساوئ الحكام الذين تناولهم ، و الذي يفهم مكوناته و أسبابه فهما تاما ، فيبدع في تصويرها و وضعها في المواضع التي تبين هذا الفساد بيانا واضحا لا لبس فيه.. ثم هناك طبعا ، الإلمام الموسوعي بتاريخ المرحلة المذكورة في الرواية ، بل و المراحل السابقة عليها المذكورة في سياقها ، او المؤثرة في أحداث ذلك الزمن..الرجل لا يقف عند مصدر واحد ، و لا يقف عند المصادر العربية ، بل يبذل ما أستطاع من جهد في الإلمام بكل ما هو متاح عما يتحدث عنه ، بالرغم من إنه لا يستفيض في ذكر الأحداث التاريخية هذه..و هذه المعرفة تعينه في تكوين آرائه و قناعاته التي يكتب على أساسها ، بالإضافة إلى تحديد الرسالة التي يرغب في إيصالها للقارئ من خلال كتابته..و أظن أن الرسائل تصل كاملة..
تحدثنا قليلا عن الرواية ، فلنثرثر قليلا إذن عن الأحداث و الشخصيات..
أولا. هناك موسى بن ابي الغسان ، الشخصية ا��رئيسية ، الأمير ، الذي إنتزعه نظام تداول السلطة بين أمراء بني الأحمر من جناحه الفاخر في حمراء غرناطة ، و تقاذفته الحياة بين الكتابة و الفلاحة و الطب و الجهاد..لا يمنحك عبدالقهار الفرصة للتعاطف معه ، و لكن موسى لا يمنحك الفرصة لكي لا تفعل ! لماذا ؟! لأن موسى هو أنت..في تخبطه بين مهنة و آخرى ، في حبه للعلم و تثاقله عنه ، في شهواته المكبوتة ، في إحباطاته ، في علاقته بفاطمة ، في إنصرافه للجهاد و خوفه منه ، في خداعه لنفسه ، في كبره الفارغ ، في سعيه اللاهث نحو السعادة ، في كثير من الأشياء ، أنت ترى نفسك في موسى..في البداية رأيته فتى غر دللته أمه كثيرا ، ثم بدأت أشفق عليه..ثم وجدتني لا أتعاطف معه فحسب ، بل أتمنى له أن يجد السعادة التي بحث عنها طويلا..كنت أتمنى أن يغادر الأندلس بعدما أدى ما عليه لها ، و يعود لفاطمة فيقضي معها ما بقى له من دهر..لكن عبدالقهار يأبى ، لسبب لأ أفهمه ، و إن كنت أستسيغه..ربما يقصد عبد القهار – من النهاية التي وضعها لموسى – أنه علينا أن نواصل السعي حتى آخر أنفاسنا ، و إن أيقنا بإستحالة النصر..ربما يقصد أن يصور نهاية الأندلس كلها في شخص موسى..ربما أراد أن يكافئ موسى عن كفاحه الطويل بالشهادة ، يريده أن يتحول لرمز أسطوري للمجاهد الذي أشترى الآخرة بالدنيا..حقيقة لا أعرف.. ثانيا. أبو الحسن و ولده أبا عبدالله الصغير ، و أخوه أبا عبدالله الزغل..حسنا ، سأحيا ما بقى لي من عمر ، و سأموت ، دون أن أفهم كيف يتقاتل الإخوة فيذبحون بعضهم ، و عدوهم يتربص خلف الأبواب..سأتجاوز نقطة وراثة الحكم ، و سأتجاوز الإنتزاء – الإنقلاب – على الآباء ، و سأتوقف عند العلاقة بين الزغل ، و بين أخيه و ابن أخيه من بعده..بأي عقل ، و بأي منطق ، يتصارع هؤلاء على فتات بقيت من البلد بعد قرون ثمانية من الصراعات ، على علمهم بنمو الروم – سواء الاسبان أو البرتغاليين أو حتى الفرنسيين – على تخومهم التي تبعد فراسخ قليلة عن معاقل المسلمين الأخيرة الباقية ، و على علمهم بإستحالة قدوم النجدة من السعديين من ناحية المغرب ، و بعد المسافة بينهم و بين المماليك و بني عثمان من ناحية آخرى ، ناهيك عن الصراع الذي تفاقم بين أولئك الحمقى – المماليك و العثمانيين – في ثمانينيات القرن الخامس عشر ؟!..هل كان ذلك الملك الذي تصارعوا عليه يساوي نفي الإسلام من الجزيرة نفيا مبرما ، بالإضافة لما عاناه المسلمون بعد ذلك في محاكم التفتيش ؟! ألم تكن تلك النهاية – خروج المسلمين من الأندلس – واضحة جلية ، بعدما تآكلت الأندلس حتى صارت شريطا ضيقا على الساحل الجنوبي ، بعدما وصلت لذروتها أيام الناصر و المنصور ؟! يشير الكاتب إلى أنه في المشاهد الأخيرة بين المسلمين و الروم ، كان أبو عبدالله الصغير لا يسعى لتحقيق تكليفه بالجهاد ، بل كان يسعى لأن يعلي ثمن خروجه آمنا فحسب !..أي أن الرجل لم يستسلم مباشرة – رغم إيقانه بالهزيمة و التسليم – لأنه أراد أن يحتفظ ببعض الشروط في مفاوضات خروجه ، و لن يمنحه هذا المقدار القليل من القوة سوى أن يرى الروم أن لديه جيشا ، أو بقايا جيش ، حتى لو فعل هذا على حساب أرواح الرجال.. الغريب أن عبدالقهار لم يرسم صورة قاتمة السواد عن الصغير..عبدالقهار يعي و يظهر في تصويره أن الصغير كان يدفع ثمن ثمانية قرون من الحماقة ، بل و أظهر أن الرجل – في بعض المشاهد – كان يجاهد جهادا حقا ، و كان يشعر بخزي حقيقي لما آلت إليه الأمور تحت ظله.. ثالثا. العطار..تقريبا كان العطار أفضل الحكام الذين ظهروا في الرواية.. و ربما كان أقدرهم على حكم ما تبقى من البلد..و هنا أحب أن أسأل سؤالا بسيطا..لماذا لم يحاول أن ينفرد بالحكم ، ليحافظ عليه من عبث بني الأحمر ؟! لقد أظهر بني الأحمر من الهوان ما يجعلني أظن أنه ربما كانت الإطاحة بهم أسهل من نيابتهم..فلماذا لم يقم العطار بهذا ؟! هل كان يؤمن "حقا" بحق بني الأحمر المتوارث في الحكم ؟! هل يمكن للبشر حقا أن تؤمن بحق بشر آخرين في "توارث" حكمهم ، بغض الطرف عن جدارة و إستحقاق الورثة ؟! هل يمكن أن يصدق البشر إنهم بضاعة في يد الأسرة / الجماعة الحاكمة ؟!..بل لماذا قبلت الناس ببني الأحمر طوال قرنين من الزمن ، بالرغم من بدايتهم الذليلة ، التي ذكرها الكاتب ؟!..بل كيف نقبل نحن بحكامنا اليوم ، على كل ما جعلونا فيه من ذلة ؟!... هناك أمثلة عديدة على قادة كانوا جديرين بالحكم ، لكنهم لم يحاولوا أن يصلوا له لأسباب غير معلومة..أتذكر الآن – و أنا أكتب هذه الكلمات – رجلا آخر ، عاش في نفس الفترة التي عاش فيها العطار ، و لكنه كان يعيش في أرض آخرى ، لا تقل ظلما و جحودا عن الأندلس..الأمير أزبك ، أتابك السلطان قايتباي ، رجل الدولة القدير المحنك الذي ظل قريبا من العرش المملوكي طوال حياة الأشرف قايتباي ، و لكنه رفض بعد ذلك أن يعتلي العرش الذي صانه ثلاثين عاما..الحقيقة أن العرش آل لبعض الكلاب قليلا ، ثم آل لقنصوة الغوري ، الذي إنهارت الدولة تحت ظله السعيد... لماذا ينفض الجديرون أيديهم دوما ، و تتعلق مصائر الأمم بالصعاليك ؟!... رابعا. أحب أن أتوقف قليلا عند الحوار الدائر في الصفحة الثامنة و الخمسين بعد الثلاثمائة..و لعله أحد الأفكار الأساسية التي اوردها عبدالقهار في كتابه : + إن الحق في صدر كل منهم ، فيما استقرت عليه ضمائرهم ، و انعقدت عليه الإرادة في قلوبهم.. - و الحلال و الحرام ، كيف تقول بالتسوية بينهما يا داعي الله ؟!!.. + و من أدراك أنه تبين لهم ؟! و من ادراك أنه لم يشبه لهم هذا بذاك ؟!.. - إذن لاعتزلوا ، او تبينوا.. + و كيف يتبين الناس ما لم يشتبهوا انه اشتبه عليهم ؟! و كيف يسألون عما يجهلون أنهم يجهلونه ؟!... لعمري ، إن ما في هذه الكلمات من أفكار لجدير بالحيرة و التفكر سنوات !..هل نعتبر الحق هو ما أضمرته الصدور و استقرت عليه الضمائر ، على إختلاف رؤاها ، أم أن هناك قواعد أساسية لا خلاف عليها ؟! ماذا عن الأهواء ، و كيف نتأكد من خلو الصدور منها ؟! حسنا ، هؤلاء الذين رزقهم الله حسن رؤية الحق و إتباعه ، لو أنهم لم يسعوا في إصلاح الناس و إرشادهم ، أليسوا مذنبين بتقاعسهم عن هذه المهمة الشاقة ، الضرورية ؟! أليسوا مذنبين لو لم يسعوا في تعلم طرق الدعوة الصحيحة ، التي تقيم الحجة المنطقية على الناس ، فتصلهم رسالة الحق كاملة ؟!..و كيف لا يحاسب الجاهل على جهله ، لو أنه علم بجهله ؟!.. أسئلة ، أسئلة تدخلك في دائرة مغلقة من التفكير..و أنا لا أملك مقدار العشر مما أحتاجه من العلم لأعرف الحقيقة..هذا لو أن هناك حقيقة...و أظنني بجهلي هذا آثما.. خامسا. من الطبيعي أن يكون هناك ما لم يعجبني في الرواية ، على قلته.. في البداية ، حيث يذكر موسى في رسالته قصة تعليمه ، و نشأة طفولته..هذا الجزء ممل للأسف..نقطة آخرى ، هي وجود الكثير من المصطلحات التي لم أفهمها ، و التي كنت أفترض معناها بناء على السياق ، كما أفعل أحيانا و أنا أقرأ بالإنجليزية ! سادسا. فكرة معسكرات الجهاد ، التي يخرج إليها من يرغب في الرباط و الجهاد ، أعجبتني كثيرا ، بالرغم من "نوعية" مريدي تلك المعسكرات..ربما لأنني من هذه النوعية للأسف ! الحقيقة أن الحرب – بالرغم من كل مساوئها و مآسيها – عموما تصبح ضرورية في بعض الأوقات من فترات الترهل أو الفساد المجتمعي ، لتجدد شباب الأمم و تبعث الحياة من بين حديدها و نارها ..كيف ؟! لأنها تجمع القلوب الأشتات ، و تجلي نيات المجاهدين ، و توضح للمجتمع حقيقة وضعه بين سائر الأمم ، و تجدد للشعوب إدراكها بحقيقة هويتها و غايتها...الحقيقة التاريخية أن الحروب كانت توظف أحيانا في خدمة هذه الأغراض ، كما كانت تستخدم لغيرها...و المثال الأقرب على هذا الإستخدام هو الحرب البروسية الفرنسية ، التي إستخدمها مستشار بروسيا الحديدي أوتو فون بسمارك في توحيد الدول الألمانية في دولة واحدة ( بالرغم من براجماتية بسمارك ، و تحفظاتي على هذه الحرب عموما ).. سابعا. في هذه الفترة – آواخر القرن الخامس عشر – كان المسلمون ما زالوا محتفظين بتفوقهم الحضاري على الكفار..من ناحية الصناعة و الزراعة و الفنون و المعمار ، و سائر المجالات..و لكن هذا لم يكن شفيعا للأندلس لتبقى..لماذا ؟! لأن العود المنفرد ، مهما كان قويا ، لا يصمد أمام حزمة من الأعواد..و المسئول عن عقد الحزمة او تفككها هم الحكام ، و من مآلئهم من العوام..أظن أن النجاة في هذه الأزمان تكمن في أن يصون المرء نفسه عن الإنخراط فيما ينخرط فيه المفسدون..كنت أظن أن الواجب هو السعي في الصلاح ، فلما رأيت إستحالة الإصلاح لم أعد واثقا من شئ.. ثامنا. هناك الكثير من التفاصيل التي أحببتها..شخصية شرف الدين الظاهري و قصته ، و ما فعل ، و كذلك الإمام السلجماسي..حاولت أن أبحث عن شرف الدين ، فلم أجده..كذلك أحببت مشاهد المعارك ، و عبدالقهار مبدع في تصوير المعارك ، و ينقل إليك بقلمه ملحميتها ببراعة ، بالرغم من أنه لا يهتم بتصوير الكثير منها بشكل خاص..كذلك أحببت فكرة تقسيم الرواية على ثلاثة محاور/ ضمائر متكلمة ، و كذلك فكرة أن يكون المحور الأخير هو تصوير لما يدور في نفس موسى..أعرف أن عبدالقهار قال أنه أخذ هذه الأفكار من آخرين – فوينتس و الإمام الغزالي تحديدا – و لكن هذا لا يقلل أبدا من براعة توظيفه لهذه التقنيات...
لا أعرف هل نسيت شيئا أم لا ، لكني حين قرأت الرواية منذ ثلاثة او أربعة شهور كانت لدي ملاحظات كثيرة..أتمنى أن أكون قد ألممت بها كلها.. في النهاية ، ألخص جملة كلامي في أنني أستمتعت و إستفدت بالرواية أقصى حدود المتعة و الفائدة...أنتبهوا لمحمد عبدالقهار أيها السادة ، فهذا الساحر ، الغول ، القادم من هندسة عين شمس – مصنع الأبطال – حقيق بتجديد شباب الأدب العربي ، فليس لأسلوبه و أفكاره مثيل بين الأدباء المعاصرين ، فيما أزعم... و أكرر طلبي السابق ، أتمنى يا سيدي أن تكتب رواية تنتهي نهاية سعيدة :"))
اظنها أفضل رواية قرائتها في حياتى .. أن تكتب رواية تاريخية دون أن تقع فى فخ الكتابة الوعظية او رواية الاساطير فهذا شىء جيد .. ولكن أن تنقل صورة العصر الذي تكتب عنه بدقة تفصيلية مخيفة تتجاوز الشائع من الطعام والشراب و صور البنيان و الشعر و الامثال الي التيارات الفكرية المتناحرة و مراجعيتها المختلفة و تاريخها قبل ان تصبح تاريخ و كأن عبد القهار قد أحتز قطعة من ذلك الزمان و مزجها بمداده لينقل لنا صورة تكاد تلمس من هذا الدولة الغاربة فهذا امر يقف له احتراماً . لا توجد شخصيات سطحية في هذا العالم الذي يرسمه عبد القهار .. لا شخصية احادية الجانب فلا أم رحيمة ولا أب رؤوم ولا أخ شفيق ولا عم شرير .. اعطي لكل شخصية حقها من العمق و تنوع الجوانب فلا ابيض ولا اسود و ان كرة المراهقين . ولكن هذا العمق يصبح له معني اخر عندما نأتي لموسي رواي القصة و شاهدها و ان شئت اسميته بطلها فمن خل��ل مملكة موسي التى في صدرة ويتجاور فيها الخير والشر متشاكسون ندخل الي اعماق موسي ونكشف حجب ظاهرة و ستور باطنة فلا نقف عند وعيه و انما نري حتى لاوعية وما وراء قولة وفعلة من افكار و ما وراء الافكار من مشاعر واهواء وذكريات ! ** الرواية ليست فيما اري صعبة لغة ولا اسلوباً .. ولكن انخفاض السقف الناتج عن محاولات الادباء ارضاء الجمهور ( وجله من الشباب ) لتحقيق النجاح عود القارىء على العمل السهل السلس وان كان المضمون لا هو سهل ولا سلس .
وحده أبو الضمير قام منتصباً : "أيها السائل عن الإخلاص مهلاً . ألا تعلمن أنه لا يعلمه شيطان فيفسده ؟ ولا مَلَك فيكتبه" . ثم نظر إلى الملِك المحتضر مواسياً وأردف : "ولا صاحبُه فيدعيه". وعندئذ أسبلت عينيك على رؤية المالقي والعطار ، وعلى صورة أمك تحويك بياسمينها. ******* على صورة أمه تحويه بياسمينها أسبل موسى عينيه ، وختم محمد عبد القهار تحفته الفنية الرائعة ... عمل أدبي تاريخي عظيم ماتع جداً ... والله أكاد أتراجع عن نقل بعض ما سجلته عن الرواية أو حتى عن كتابة هذي الأسطر بالكلية مخافة أن يقال عنها شطحات تأثر وانفعال ، وتوصف شهادتي فيها بالمبالغة ... لكن حسبي أن أقول أنها فعلت بي ما لم يفعله نص قرأته حتى الآن.!
- أبدع الكاتب في نسج قصة أمير طريد منذ صغره ، حبيس مخذول عند نهايته يعيش عمره ويعيش القارئ معه مقتولاً بالحنين والذكرى ورجاء وصال ولده وزوجه وأيام صفوه وهناه ... أتقن الكاتب رسم تلك الصورة في تؤدة وعلى مهل ، ومازال يلعب على وتر ألم الذكرى والفراق والشوق والحنين حتى هصر قلوبنا هصراً
- وُفِّق الكاتب إلى حد كبير في تقسيم الرواية عبر فصولها إلى ما يكتبه موسى لابنه ، وما يحكى عنه ، ثم ما يختلج في نفسه من أحاديث وسجالاتٍ صورها بأناقة وعمق.
- في ذلك القسم تحديداً ... (أنت) أبدع الكاتب في استعارته ههنا وتشبيهه للنفس بالمدينة على لسان جده لأمه - وسميّ ابنه - عبد الملك ، ثم اتخاذه للقلب والعقل والضمير والأعضاء والحواس والمشاعر .. ملكاً ووزيراً وقاضياً وعرفاء وجواسيس وأرباضاً ؛ يصير بينها التلاحي والمجادلة والغضب والجرأة والنصح وغير ذلك مما تقوم به الحيوات ، فكأنما أحياهم داخل نفسه في عرض مسرحي رائع ... يكشف لكل قارئٍ - إن وعى - بعض ما دار في نفسه أيضاً بين مليك مدينته ووزيرها وقاضيها !!
- وقد بلغ ذروة إبداعه هذا في تصوير مساءلة قلب الدين لهم حينما هاجت نفسه واضطربت بسؤال الزغل له "اشكون الفارس ؟" من صـــ238 حتى صـــ242 وفي تلك الصفحات إن أحسست بوجع قلب الدين في كلماته وهو يتساءل "من أنا" ، فلا مفر ستبكي كما بكى المليك ونحب وأبكى من حوله
*******
- في القسم الثاني من الفصل الأول .. تحول الكاتب لمخرج سينمائي ماهر جداً .. ثنّى في مخيلة القارئ تصويراً مزدوجاً لمشهدين يتزامنان فيرى الملك سعداً يقرأ كتاب محذره ، ويرى مهاجميه في الخارج يتماهى تقدمهم مع تقدم موسى في أكل حلواه الحمراء ، وكأن ملكَه يتهاوى أمامه في فم ابنه قبل أن يرى بعينه فعلة أبي الحسن ؛ .. إلى أن وصلوا إلى باب حجرته فسقطت جدران بهو البركة من فم موسى مع كسر الباب !! تصوير سينمائي بديع
******* - الرواية تعج بالحكم والقيم والرسائل الملهمة الدفينة ودعوات التأمل الصريحة التي ناسبت مكاتبة أب مكلوم لابنه الذي حيل بينه وبين تربيته وتنشئته كما يهوى ..
- فمثلاً (وما يلي غيض من فيض إذ يقصر المقام عن نقل كل ما سجلت) .. نجده في صــ39 في الفقرة الأولى "وما نقل جدك من الكهولة إلى الشيخوخة .. ما دمت حياً" نراه هنا يرق لحال أبيه وينكر عقوق إخوته ثم يندم أشد الندم في كبره على ما لم يدركه في صباه .. فتجد القارئ يندم أشد الندم على ما كان ينبغي له أن يعيه ويفهمه فيما مضى
- نجده أيضاً في صــ43 في نهاية الفقرة الأولى يكتب عبارة تفيض سماحة وعفواً وتغافلاً محموداً في قولته على لسان جده عبد الملك حين قال : ما أضيق الحياة لولا الحلم والغفلة ، ولو عوتب كل أحدٍ في زلل لسانه ما تعارف الناس .!
- في صــ95 وفي نهاية الفقرة الأولى نرى لوم عبد الملك لنفسه على ما فرط في حق ابنه فرأى اليوم الذنب ذنبه إذ رحل يحلي عقله ويزينه بأغلى المعارف تاركاً ولده ينشأ في السوق ويكتسب أخلاقه وعوايده من الدلالين !! فنبهني هذا اللوم إلى يفعله بنونا بنا ، يكبتون حرية سفرنا وترحالنا ويثقلوننا بتبعة لا فكاك منها ولا مهرب :(
- صــ264"وقالوا في الجلوس على المياه والرياحين مما يسلي العاشق ويتداوى من أحزانه به .. وأما أنا فأقول إن ذلك يزيد في تذكاره" ... وأنا أوافق موسى في ذلك عن تجربة ؛ بغض النظر عن برهانه ودفوعه التي أقامها
- أبرز دوران الأيام ومداينتها في تكرار الزغل لقولة أبيه عندما استقبل أخاه أبا الحسن معزولاً ... في صـــ269 "اشكونوا اشكونوا ..أطفال صغار يلهون بصولجان الملك ويتقاذفونه فيما بينهم ، ولا يعلمون أن لولا الكبار الذين وثبوا عليهم لكانوا يستجدون العطاء والمراتب في بلاط فاس أو قشتالة ! أو يبقون في الحمة ينتظرون لحظة شك من السلطان يتبعها حز الرقبة في جوف الليل!" ..... فتأمل .. واعمل ما شئت
- تجلت دوماً قدرة الكاتب على صياغة النص الأدبي العالي ... الذي يكاد ينخلع له قلبك ... ومن ذلك في آخر فقرة من صـــ278 "لم يسعه إلا شراء الجواري والطوف بهن عازلاً ، فلا يريد ولداً إلا عبد الملك ، وكلما تعلق قلبه بواحدة منهن باعها ؛ فلا يريد حبيبة إلا فاطمة ... .... فيأتيه الوسن بعد طول تذللٍ . عندئذ يرى نفسه يسير مهاباً يركب غارباً في شوارع ألمرية وقد ارتد بصره ، يعود ليرى ولده يتعلم الكتابة بين يدي مؤدبه المالقي ، يقبل يد أمه العطرة بالياسمين ، ويسمع حكمة من حكم جده ، ثم ينام بين ذراعي فاطمة حتى يشعر في نومه بضمتها تضغط كتفيه ، وأبوه جالس تحت شجرة في السماء يمسك مصحفه الأحمر مبتسماً . ثم يهجره الوسن ، فيصحو وضمة فاطمة في صدره ، ويسأل نفسه سؤال كل صبح : ما يرجى من الصحو إذا كان في النوم تتحقق الأحلام ؟" ... فانظر كيف يحبس موسى نفسه في ذكراه فلا يبغي بها بدلاً
- في صــ334 مع أول فقرة في صــ335 ... يقلب الكاتب بين أيدينا تحولات الناس في سيرة العطار وتبدل ذكره فيهم من حسن لسوء ومن ذم لندم ومدح ، ربما ليرينا في سرد بليغ جميل ؛ بأنه لا يبقى ولا ينفع من العمل إلا ما كان لله ... فالدنيا غرورة ومتقلبة حتى لذكرك بعد مماتك
- في نهاية صـــ296 لم أر ما فعله العطار مع موسى ومعايرته إياه بعدما ألح في استعفائه ... لم أر ذلك منسجماً مع ما نسجه الكاتب لشخصية العطار
- يبصِّرنا الكاتب بخطورة الجور والحيف في التعامل والتعاطي مع الولد ... إذ لابد من التنبه إلى أصغر الصغائر .. فنجد موسى يقول متحدثاً عن أبيه بأسىً : "وكان غاية أملي أن ينظر إلي مثلما ينظر لأبي الحسن" فانظر كيف يكمن الحسد وينفذ الشيطان للإخْوة من أقل الحركات والسكنات
*******
- أخيراً ... أشكر كاتب الرواية وأدين له على ما فعل بي ! .... فقد أبكتني كلماته غير مرة .. واشتد علي ذلك بخاصة في موضعين : أولهما .. خاتمة كتاب موسى لابنه وهو يعتذر عن هذره في أول الكتاب وعجله في آخره ، كأن كتابه عمره ! ... ثم وهو يعده إن عاش أن يجوز البحر إليه وإن قضى الله أمراً أن يدعو له ويزور قبره إن علمه !! ... ثم في وصيته له بأمه ... وكذلك في صـــ398 و 399 في كلمات ربض الأمل للمليك يحثه على الرجوع والتسليم والذهاب لابنه ولفاطمة ... التي إن أتى على ذكر الفراق .. أمسك بيدها وحمد الله أنه جمعها به في آخر العمر.
********
وعلى بساطة الأسلوب وسلاسة السرد فقد جاءت لغة الرواية عزيزة جزلة ، وجاءت تفاصيل تنم عن اطلاعٍ واسع على تاريخ تلك الفترة وهضمها جيداً في خيال القارئ وكأنه عاش معهم ....وهو مما ينبئ عن جهد مشكور وسعي للإتقان محمود
وكذا أرى أن بدأه الرواية بالبسملة لم يخل من دلالة
ولا أخطئ إن دعوته - بعدما رأيت منه في غارب - أن يترك ما يفعله كله ويتفرغ فقط فيما بقي من عمره للكتابة بهذه الصورة العبقرية الفاتنة ... ولعل الله يوفقه إلى مزيدٍ من فتحه وفضله ... وإن لم يتيسر له ذلك فعزاؤنا فيما كتبه يحمد الله بلسان الرضا الممزوج بمسحة حزن : "وهكذا يابني تجري علينا المقادير من غير حول منا ولا قوة .. والحمد لله على كل حال" ... وليعدنا بمزيد من كتابات على مثل روعة "غارب" وجمالها
قيثارة حزينة، حبل مجدول من ألم وأمل وتطلع وانكسار، عزفٌ منفردٌ على الناي الذي قُطع عن أصله وهو يحنّ إلى زمان وصله، سِفرٌ في فقه العمران، نافذة على فصل من فصول تاريخنا يستمد روعته من كونه بشريا، أملٌ منكسرٌ على جوادٍ أعمى.
رواية (غارب) هي رواية متعبة، أتعبت كاتبها إذ ألزم نفسه أن يزهق روحه ليخطّها على الورق، وأتعبته إذ طوت له الزمان والمكان فألقته في غرناطة بني الأحمر، ينادم الناس فيها، يسمع حكايتهم، ويتعلم لهجتهم، ويشهد أيامهم، ويشاركهم أفراحهم القلقة، ويتجرّع انكسارهم المحتوم. هي من تلك النوع من الروايات التي تقتات من روح صاحبها، حتى أنه يتطور مع الحكاية، فهو في آخرها أحكم وأقدر منه في أولها.
بناء شخصية (موسى بن أبي غسان) من أعمق وأبدع ما قرأت وشاهدت من الشخصيات الروائية، وإن لم تكن باقي شخصيات الرواية قد أخذت ذات العناية. لا أحسب ذلك عن قصورٍ في الاعتناء بها، بل لأن حضور (موسى) طغى عليها. موسى، ذلك الفارس الباحث عن حلمه، الذي شكّلته تصاريفُ الأيام، الطبيب الذي شد الجرح فقتل صاحبه، والأمير الذي أنكر نسبه، والزوج الذي أضاع حبيبته في عرض صحراء الشدائد، والأب الذي يشتاق لوصل ابنه لا يربطهما سوى السفن والحمام بين العدوة والجزيرة، والمقاتل الذي صارع كِبره قبل أن يصارع عدوّه، والمسكين الذي لا يدري ما يفعل، والمتصوف الذي كانت آخر رسائله إلى رسول الله، والقائد الذي لا مقود له سوى جواد أعمى، لما انحسر الإسلام وأهله نحو الجنوب.. سار يحمل نفسه الأبية وعزمه اليائس وضميره الحي وكِبره المستكن وفرسه الأعمى نحو الشمال!
الفقرة التي وصف الكاتب فيها شعور (غارب) الفرس الذي أصابه العمى، لو ترجمت بالإنجليزية فنسبت إلى ديكنز، أو بالفرنسية فنسبت إلى هوجو، أو بالروسية فنسبت إلى تولستوي، لما أنكرت نسبتها.
الرواية مع ذلك متعبة لقارئها، لغتها تراثية صعبة تحجب أغلب القرّاء عن سبر أغوارها، أسواق الحزن فيها منصوبة، وفِي نصفها الأول تطويل مملّ وإن كان بديعا. ولو أردت أن آخذ على كاتبها الفذ شيئا واحدا لقلت: لقد دخل إلى الأدب من باب التاريخ، وكنت أحب أن يدخل إلى التاريخ من باب الأدب.
لله درّ الكاتب، إذ بذل هذا الجهد الكبير، وحرص على هذا الإتقان، وألان الله له حديد اللغة القديمة، في وقت كسدت فيه أسواق العلم، وعزف الناس فيه عن القراءة. ولو ألزم نفسه بهذا الجهد في كل ما يستقبل من الأعمال.. لصار أديبا يفخر به أبناء زمنه.
لأن كل أرض كربلاء، ولأن كل حزن عاشوراء، فإن المصائب بينها نسب، والآلام أخوة لعلّات، وكل حزن يذكر بسابقه، فإنك في هذه الرواية التاريخية ستشهد مصارعك وأحزانك وفرصك الضائعة ورعونات نفسك وآمالك المحزونة ومجدك السليب وروحك الوثابة ونقائضك العجيبة. سترى نفسك فيها، وهذا هو جوهر الإبداع الأدبي، أن يرى الإنسان نفسه في الحكاية، وإن (غاربا) لكذلك.
وأندلساه أعشق الأندلس وتاريخاها أعشق صعودها ونهايتها أعشقك كل كلمة عنها لا أمل القراءة عنها فما بالك برواية مثل غارب ترى الأندلس وتشم يسمينها وترى ساحلها وتمشي على ترابهاوترابط في ثكناتها وتحارب مع جنودها وتدمع لزوالها
رواية حقيقة عظيمة! لا أظنني قادرة على تلخيص أحداثها ولكني سألخص متعتي. رغم الظروف التي قرأتها خلالها إلا أن متعتي لم تقل أبدا عن أول يوم بدأتها فيه. يأخذنا الروائي المصري محمد عبد القهار في رحلة إلى آخر أزمان الأندلس مع موسى بن أبي غسان من طفولته ووجعها إلى صباه وطيشه حتى اشتد عود بدنه وفكره و وعى لأي الأرباض يمد سمعه ويتبع عمله. قلم هذا الأديب عظيم حقا. لغة تفوق السلامة (التي قل وجودها اليوم) لتمتع وتبهر وتسعد قلوبنا أن ولد في زمان الرداءة هذا من يكتب بهذا الجمال.
قد أكتب عنها مستقبلا بتفصيل أكثر لأن غارب رواية لا تقرأ مرة فقط. مدارات تنجح مرة أخرى في أن تكون دارا متألقة لا تطبع إلا الاستثنائي من الكتب!
#مدارات_للأبحاث_والنشر #غارب #محمد_عبد القهار #كتب #أدب #رواية_عربية شكرا للحبيبة سماح على إعارتي هذا الكتاب اللطيف جدا 💚🌺🌸
"لا غالب إلا هو "! شعارٌ اتخذه بالأمس ابن الأحمر الكبير ناقشاً إياه بدماء أهل اشبيلية ممتزجاً بماء النصارى المقدس على عرش غرناطة عله يثبته ، واليوم يختم به بنوه الجزية قبل أن يعطوها عن يدٍ وهم صاغرون إلى ملوك قشتالة وأراجون ، وغداً يزين سيف داوود باشا " أحد أنذل الرجال الذين عرفتهم الدولة العثمانية " على حد وصف كاتب "تاريخ الدولة العثمانية العلية "! ... اسم بلا رسم .. وصف بغير معنى إذاً ؟ لا ،إنه المعنى في أجلى صوره ... دال الملوك وعروشهم ثم زالوا جميعاً فمن غلب .. الله غلب ! لماذا لا يعتبرون إذاً ..أتواصوا به ؟! لا يا صاحبي إني " ما رأيت أحداً إلا واستحكم في قلبه حب الرياسة حتى على اثنين ، ولله در القائل : هي آخر ما يخرج من قلوب الصالحين " .. وإنه "ما أزرى بالأندلس إلا وثوب السلاطين ، وحسد القواد وإفناء بعضهم بعضاً " و أنت "ستدافع عن سلطانك الجديد في كل مرة ، لأنك به تدافع عن نفسك ! " ..تقلب على أسِرَّة الملك ، وأحكِم شهوة السلطان في قلبك إذا .. واضرب عليه "أنه لا غالب إلا هو " قبل أن تضربها على عرشك وسيفك وكتبك ونقدك ..علك تنجُ ...! ************* "لاش يا بلحسن لاش ! " ألهذا الحد استبطأت عمر أبيك ؟! وهو الذي فضلك على أخوتك وعهد إليك بالولاية بعده " بين واثب وموثوب عليه ! *********** "ما أضيق الحياة لولا الحلم والغفلة ، ولو عوتب كل أحدٍ في زلل لسانه ما تعارف الناس ! " وهو حد الحكمة ! .. يا صاحبي إن لك عندي من الأمر خبرا : هل تعرف لم كان زلل اللسان ، إنه الناطق عن مخبوء النفوس فيفترق الناس به فريقين : يستنطق به النفس فيعاتبها ويظن بها فيتحقق بظنه ، وآخر يعلم أن للنفس زللاً قبل أن يزل لسانها ، فيغفل ويحلم ، ويعذِر فيُعذَر، وأينا يمسك نفسه أن تزل وتردى ، ومن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ؟! وإن كان حسن النوايا ليس بشافعٍ ... فأنى يرتجى حسن الظن ، لماذا لا يذكر المرء نفسه "مثنىً من محاسنهم .. إذا ذكرت عيوب القوم أحداناً " .. لم باتت تلك حجة أضعف من أن تقوم في النفس مقام الصدق : بالأمس يا موسى كرهت أباك لتفضيله أخوتك ، وغدا تخطب الود من ثراه ! وتدرك أن "فراق الأحبة حجاب العقل يا ولدي ! ".. اليوم تتلف "عمراً " بكبرك ، وغدا تحصد اتلافك إتلافه إياك ... وصاحبتك : بالأمس تعيرها وهي التي حملتك ، وهي التي "أحبت فيك رقة لم تجدها من أبيها وأخويها " واليوم :" قد ماتت الأم وخفت الحب ، وبقيت أنفتك وأذاك " وغدا يقطع الوصل بينكما وتفرق عن قرة عينك وفلذة كبدك ، وبعد غدٍ "ترحل ولا تدري أن فاطمة تستنبت أملاً أدنى للقاء " .. اليوم تغادر العطار الذي طعنك في كبريائك وذكرك بفضله عليك ، وغدا تبكيه دماً بعد أن تحل عليك النكبات بفراقه تتراً .. ما أضيق الحياة يا موسى لولا الحلم والغفلة ! ************ "تلقي المعاذير لكل أحد حتى لا يتغير عليك ، أو يسيء الظن بك ، حتى الساعة تقضي فيها حاجتك ! " حديث في أرباض النفس ... ولات حين مندم ! ************ "ثم تفكرت في صورة البلاء لماذا وقع في أحب الأعمال لديك ، الطب ، لماذا ابتليت من دون الناس في صنعتك ، وفي أعز الصفات لديك العُجب والأنفة " هل كانت نكبتك "غضب من الله عليك " أم "إشارة منه لتتضرع إليه " أم "جزاءاً وفاقا لما فعلت وحسب " أو أنها " إعداد لك لما تحمله في قابل الأيام " ؟! ولم لا يكون لك من كلٍ كفلٌ .. أما علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، وأنك في تقلب أحوالك بين الرضا والسخط ، والإفراط والتفريط "هو معكم أينما كنتم " يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .. يحملك ويضعك حيث شاء لا حيث شاء لك الهوى ...أوليس لك في هذا غناء عن شغلة البال وشقوة الحال . أما رأيت أن "الطب صنعة شريفة خطرة ، وهي شريفة بجعل صاحبها مهوى الأفئدة ومحط الأنظار ، وجعله في غنى عن الناس يحتاجون إليه ولا يحتاج إليهم بذات المقدار " .. تُراد إذا ولا تريد ...أثمّ حيث وضعك الله أم حيث وضعت نفسك ؟! ...لا يهم ، الأهم هو أن "تضع" نفسك على كل حال و "واياك والغرور والاستغناء عن ذوي الاحلام فان الصبا حسن الظن بالنفس واعتقاد الكمال في كل شيء " ! وقد أصبنا منه ما أصبنا .. لعلك طلبت العلم لتماري به السفهاء ، أو تجاري به العلماء ، أو تصرف به وجوه الناس إليك ... فاحمد الله إذا أن جعل نكبتك بأنك الأمير المنكوب ، والزوج المهجور والأب المقطوع وصاحب الزرع المحصود ، والفارس الشادي والطبيب الذي لف الجرح فقتل صاحبه ! .. عله تكفير عن ذنبك فلا يدخلنك به النار ! ************* "فقر في قلبي أن ليس للإنسان الا ما صدق الله فيه فلقيه به يوم القيامة ، ولا ينفعه ولا يضره غيبة القواد في المجالس ، ومدح الزجالين وهذر النسوان في الزنقات " من قضى نحبه.. و من ينتظر ! ************ "يا سنتياجو أمِت ..! يا خالد يابن الوليد..! " كأنهم أهل الحق ونحن أهل الباطل ... يدفع ملك المسلمين بجنده في المعارك ليزيد ثمنه ، وملك النصارى يدفع الثمن ليفدي دماء جنده من المعارك .. يا سنتياجو ..قاتل باسمك لذريق فقتله غر مغمور بين الناس برمية سهم طائشة ولم يكن يعرف منك الاسم حتى ، يا خالد يا بن الوليد قاتل باسمك الظاهري والشلوبيني وابن المول فمنهم من اعتزل القتال وترك البلاد بمن عليها ، ومنهم من خاض الفتن بين المسلمين ، ومنهم من قتله حب الرياسة والظهور وإخضاع العباد ... أين القاتلين والمقتلوين باسميكما ... أين الحق إذا ؟! دعك من ذلك .. "حينما دوت صيحات التهليل والتكبير بين طائفتين يقتتلان ... وسرت دماؤهما بين شقوق البلاطات " : أيهم كان أولى بالتكبير ؟ سؤال يقض المضاجع منذ "الجمل " !! أين الحق إذا كانوا كلهم عليه ؟ ... وكيف يتبين الناس ما لم يشتبهوا أنه اشتبه عليهم ؟ .. وكيف يسألون عما كانوا يجهلون أنهم يجهلونه ؟ يبعث الناس على نياتهم إذاً .. ولو صلحت النبية عند الجميع فأيهم أولى بدماء بعض ، ولو فسدت عند الجميع ففيم يكون فيها "من يفسد فيها ويسفك الدماء " إذاً ..أمور تحار فيها العقول ، ولا يقر فيها المرء على رأي . لكن أعظم الغيب : ما كان في معرفته راحة البال وهدأة القلب ، فيكون جزاء الإيمان به على بعد شقته وتغييبه أعظم جزاء . *********** "تبين لي أن الله أرحم بي من عقلي ، ولطفه منفكٌّ عن كسبي ..فتأمل ! " قال إني أعلم ما لا تعلمون *********** أهل الرباط ! "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، يلقون الله وهم على ذلك " ..ما يبعد القوم عن مصير بني إسرائيل بالذلة والمسكنة وغضب من الله إلا أملهم ألا يهلكوا وفيهم أهل الرباط .. لكن حتى هنا في الرباط يتفشى المكر والحسد ، وتستحل الحرمات ، أين المفر إذاً ؟! وكيف يستجيب الله وفيهم من هو بعيد عن الإسلام بالجملة ولا يدري من دينه شيئا إلا وداخله مثله من دين النصارى ، ففسد الدين وفسد اللسان ؟! "ربي قال نسعى ! " ، وكم من نيات أحبطها السأم ...فعادت عزائمَ لا قولٌ ولا عمل ُ ، وسبحان الذي قيض لنصرة هذا الدين فجاراً لم يركعوا لله ركعة .. واستبدلهم بجهال ضلال يصدون عن سبيل الله وإن كانوا أهل علمٍ أو أهل حربٍ أو أهلٍ مال لكنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، ولو كانوا فيكم لأوضعوا خلالكم ، وما زادوكم إلا خبالاً ، قد خضت بالجند كل مخاض ، ووجدت زراعا وعمالا لم يعرفوا من الحرب الا اسمها خاضوا معك واظهرك الله بهم على العدو ، وخضتها مع سلطانٍ غادرٍ وقادة حسادٍ وأهل حرب لا خلاق لهم وأهل نجدة لا أيمان لهم .. هل يستويان مثلاً قل لا يستوون . إنما الرباط في القلب ، والجهاد الأكبر أصلٌ فرعه جهاد العدو .. وهل من عدوٍ لك أشد بأساً وتنكيلاً من نفسك وشهواتها وهواها ؟! ********* "الإخلاص في النية لا يعرفه مَلَكٌ فيكتبه ، ولا شيطانٌ فيفسده ... ولا صاحبه فيدعيه ! " الجنيد ******** وغارب ... أدركت به أن "السرج غفلة الفارس عن فرسه " ، فلا يشعر بالإثم لركوبه وتسخيره ، كما يشرب قلب العاصي بالإثم فلا يجد في صدره منه حرجاً .. آه منك يا غارب ! كان يحمل موسى إلى المجهول .. كان طفلاً لموسى يلتمسه كلما نزل عنه لشأنٍ من شئونه حتى كان يقض مضجعه أثناء النوم ليطمئن عليه ، يطمئن أن سيده موجود ، أن سيده حي ، ثم لما همله موسى ، وركب بغلة العطار ، "غار غارب عليه كتغاير النساء "، ولما صالحه موسى وأخرجه بين الفينة والفينة للنزهة ، "رضي منه غارب رضا الأم بفتات أوقات ولدها بعد الزواج "، واليوم يحمل غارب موسى بطاعة الابن ومروءة الصاحب وحب الزوجة وحنان الأم . خرجا معا ، وحدهما ... أتعبت الندماء بعد يا غارب ! ما قصرت بك عجمة البهائم التي ادعوها عليهم ، وما قصر بك كف بصرك ، و ضيق حالك وهزالك بعد دعة وترف ، ولا قصر بك مجافاة الفحول لك بعد أن كنت عليهم سيداً ... ما قصر بك أن صرت حصوراً بعد أن كانت الرمك تحتك لا ينازعنك فيها أحد ... اليوم تحمل سيدك وانت تعلم انك مقاد إلى حتفك ، تعلم أنها عدوتك الأخيرة وترضى بذلك لأنها حيث يعدو بها صاحبك كذلك .. أوريت قدحاً وأغرت صبحاً وأثرت نقعا ووسطت جمعاً .. علمت صاحبك لحب الخير لشديد! فاستبدل بك في غزاته بغلة العطار وخيل الركب الصافنات الجياد .. ما راعك ذلك فأنت اليوم "وحدك " معه .. فأي غارب أنت ! ******** "كان البيطار يريد موسى أن يلامس غارب ويداعبه وحسب ذلك عزاءً . لم يخطر ببال الطبيب أن ينفق الفارس وقته في سياسة جواد أعمى .لا يدري الطبيب أن غير الجواد يحتاج للعزاء !" ******** وموسى ... لماذا لم يكن لك من اسمك نصيباً ؟ لماذا كان "فرعونك " من أهلك يربطك به دماء ورحم اليوم تغادره خشية القتل وغدا تأتيه فتمكن منه ثم يختار الله له وما كان لك الخيرة ... جعل الله لك خضراً من بعد خضرٍ بين "مالقي " و"سلجماسي " وعطار" و"ابن أزرق " تأخذ بطرف من كل واحدٍ منهم وتصيب نافعاً ، لكن لا تستطيع مع أيهم صبراً حتى يكتب عليك الفراق بين يدي كل واحدٍ منهم ... ويأتيك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً لكن بعد فوات الأوان ... لم يكن حماك "شعيبا" رغم انه من أهلك ، ولم يرد أن يستعملك حججاً بل أراد أن يستعبدك ويتغول مالك وأرضك على أن ينكحك ابنته ... شابهته في مواضع الشقاء وحسب : فان قومك لم يصبروا لك على طعام واحد ، وردوك قائلين : " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " ، وخذلوك صائحين " اذهب انت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " وهم يومئذٍ بقية الأندلس وعصابته التي إن تهلك لن يعبد الله فيها بعد اليوم ... هل كان بيديك أن ترفع فوقهم الطور وتأمرهم أن يأخذوا ميثاقهم بقوة ؟ هل تشق لهم البحر شقاً ؟ هل تنزل عليهم الغمام والمن والسلوى ؟ ولكن قبل أن تسأل .. هل آمن بنو إسرائيل بعد كل ذلك ... اللهم لا ! جعل الله أخيك من الصلب في نحرك ، و"هارون " الذي شد به أزرك كان بينكما رحم وأخوة السلاح ، وقد علمت أن بها ملك المماليك مصر والشام كلها وهم أعاجم عنها وأنها آصر من أخوة الدم والنسبة ... ضج قومك بك وكانوا "كالذين آذوا موسى " ..فهو عنين ، بل هو طالب سلطان ، بل هو يهوى الغلمان ، بل هو محب الشهرة ، بل هو جابي الأموال وقد "برأك الله مما قالوا " بما أجرى على يديك إذ تلقي ذهبك على بصاقهم فيودوا لو انهم ردوا إليك ذهبك واستعادوا معه ظنونهم فيك ، وودوا لو ردوا الاثم والخذلان الذي انهمر عليهم كانهمار الذهب من كيسك ،" وأي إثم يحيك في الصدر كالخذلان يا ولدي ! "، وبرأك بأن كتب لك ما لم تعرفه حتى من نفسك ، وشهد لك بالإخلاص في مستقرك الأخير ، وهو خير الشاهدين .. وأما بقيتهم فقد فرق الله بينك وبين القوم الفاسقين ، وكتب عليهم التيه في الأرض ، وياليتهم صبروا ساعة... كان نصرٌ فيها أو شهادة ... والكل نصر ! ********* "ابك كالنساء ملكاً لم تحفظه كالرجال " عائشة أم أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة ومن ورائها الأندلس ... أعادها الله لديار الإسلام .. تصحيح : أعاد الله الإسلام ديارنا !!
من علامات نجاح الرواية في رأيي أن تنقلك إلى عالمها أولا فتستغرق فيه ثم تنقلها أنت إلى عالمك فتربط طول الوقت بين أحداثها وبين ما تعيشه ، في " غارب " حدث الأمران ففي بداية الرواية ستشعر بغربة ما كشخص يتعرف لأول مرة إلى عالم جديد ، ستشعر بالإيقاع بطيئا والكلمات صعبة والشخصيات غير مفهومة ، ثم تتضح الصورة وتترابط الحكايات وتبدأ الرحلة مع " موسى " . تنقسم الرواية إلى فصول بعدد شهور العام وينقسم كل فصل لثلاثة أقسام : " أنا " ، " هو " ، " أنت " وهذا التقسيم كان عبقريا في رأيي وأعجبني بصفة خاصة هذا الوصف الرائع للطبيعة في كل شهر في قسم " هو " وكذلك قسم " أنت " الذي تعمق في شرح حال نفس " موسى " وتقلباتها ودوافعها ومبرراتها ثم اعترافها بالذنب أو الهروب منه . ربما كان التحدي الذي واجهته الرواية قبل أن تُقرأ وربما قبل أن تكتب :-) هو شهرة رواية " ثلاثية غرناطة " لكاتبة في حجم رضوى عاشور ، لكن يبدو لي الآن أن هذا التحدي لم يكن له أي أهمية ولا تأثير إذ أن المؤلف يسلك في روايته طريقا يختلف تماما عما سلكته ثلاثية غرناطة ليس فقط لأن الفترة الزمنية مختلفة فهذا قبل السقوط وهذا بعده ولا لأن غارب تنقلت في بلاد كثيرة ولم تنحصر في غرناطة فقط بل لأن سؤال غارب كان يختلف تماما عن سؤال ثلاثية غرناطة ، غارب لم تسأل عما حدث بعد السقوط من تنصير قسري ثم طرد للموريسكيين ، بل سألت لماذا حدث ذلك للموريسكيين أو ما الذي تراكم قبل مئات السنين ودفع باتجاه كل هذا العذاب للموريسكيين ؟! في الرواية تجد وصفا لحال المسلمين في الأندلس قبل السقوط وهذا الوصف يشمل عوامهم وقوادهم وسلاطينهم وعلماء دينهم وهو لا يجتهد في جعلهم شياطين يستحقون الحرق ولا ملائكة مظلومين مغلوبين على أمرهم بل هم ببساطة بشر تتصارع داخلهم دوافع الخير والشر والحق والباطل وللأسف تغلب الباطل دوما عليهم لينهزموا في داخلهم أولا ثم ينهزموا للأبد . أما " موسى " فهو كأهل زمانه يحلم كثيرا ثم ينقلب على أحلامه إما لأنه لا يؤمن بها تماما أو لأنه ضعيف ولا يستطيع أن يتحقق بالحلم حتى نهايته ، وهو أناني غارق في ذاته منكب عليها لا يرى العالم إلا من خلالها لكنه مع ذلك يضحي بنفسه وهو يوقن ن ذلك بلا فائدة ، وهو متناقض تتنازعه الأهواء والمثل العليا فينساق خلف هذه تارة ويطمح نحو تلك تارة أخرى ، وهو الرجل المخلص في حبه لزوجته وابنه وأبيه وأمه ومعلميه لكنه أحب نفسه أكثر ، وهو سريع الملل لا يصمد في حرفة ولا هواية ولا حب ولا مدينة لكنه في نفس الوقت احتفظ بجواد أعمى لآخر لحظات عمره ، لكن ل " موسى " فضيلته التي طغت على كل تلك المتناقضات أو كادت وهي مجاهداته الدائمة ضد نفسه والدنيا والشيطان ، لم يستسلم أبدا لسقطاته وأخطائه ونواياه التي كدرها حب الدنيا بل حاول طول الوقت أن يتحرر من كل ذلك وأن يتحقق بأنبل المعاني والمثل وأظنه أفلح :-) . أبكاني مشهدان في الرواية : مشهد العمى الذي أصاب غارب وفراق موسى لألمرية ، ومشهد موسى الأخير وهو يخرج من بوابة غرناطة غازيا للمرة الأخيرة ، وطعنني السؤال الي تكرر طوال الفصل الأخير : هل خرج الإسلام من جزيرة الأندلس إلى الأبد ؟! .. وبعد ، فهذه رواية عظيمة جديرة بالقراءة والاهتمام بذل مؤلفها جهودا تستحق التقدير ، وأزعم أن الرواية من النوع الذي ربما تخفى قيمتها الحقيقية في وقتها لكنها تزداد بمرور الزمن ، وبعد ، فلعلنا ونحن بلا " موسى " أن يلطف الله بنا وينجينا من مصير بني اسرائيل الذي كان _ و يا للأسف _ هو مصير الأندلسيين .
الرواية أكتر من ممتازة سواء مت حيث تناول الحقبة التاريخية واللغة وابهرني الكاتب بإسلوبه وطريقته في تقسيم الرواية والأحداث على أشهر السنة ، وتداول الحوار بين "أنا" و "أنت" و "هو" قراءة الرواية التاريخية أمر ليس بالهين هو السهل الممتنع خصوصاً إذا كانت معلوماتك التاريخية لهذة الأحداث ليست جديرة بالحكم عليها لكن الكاتب وفق أيضاً في ذلك في جعلك ان تقف على الأحداث من رؤيته وأحداثه وشخوصه كما أن الشخصية التي ركز عليها الكاتب معقدة لا تعرف ان كان جاني أم مجني عليه اختيارات الكاتب سواء في هذه الرواية او في ساري نامه للحقبة التاريخية اختيارات موفقة وممتازة
لا أذكر الكثير من تلك القصّة التي قرأتها طفلا، بعنوان "الجواد الأعمى". ولكنّني أذكر الألم الممضّ الذي غلّف قلبي وأنا أتخيل فكرة أن يكون الجواد أعمى. يستعمل الكاتب محمد عبد القهار ذات الصورة الموجعة فيمنحها عمقا أكبر وأفكارا أوجب للنظر والتأمل. ماهو غارب؟ ماذا يكون جوادُ بطلنا الأعمى؟ صفقة خاسرةٌ لولدٍ أندلسيٍّ تائه؟ واقعٌ تاريخيٌّ يكبّل عزم فارسٍ جاء في الوقت الخطإ؟ غربٌ إسلاميٌّ يتلاشى عاما بعد عامٍ وقرية بعد قرية. تتعدّد القراءات والأفكار، فتحتملُها صورةُ الجوادِ وفرسه بسعةٍ لم يسقط الكاتب في مأزق تضييقها.
ولربّما تعمّد محمد عبد القهار إسم غارب، ودلالات رحلته مع بطله الغرناطيِّ ودلالات نهايتها، ودلالات عاهته، لكنّ أغلب الظنّ عندي أنّ صورة عماه المؤلمة تومض في الذهن من دون سابق تخطيط أو حسابٍ، وهي من اللحظات القليلة في الرواية الّتي لا ترى فيها أثرا لمسطرة المهندسِ وبركاره. فأغلب الأدوات الفنّية تتردّد فيه بحسبان، يستعملها الكاتب لينسج روايته نسجا. ولا أبرزُ مثالا من العمل اللغويّ العظيم الّذي أتاه. إذ يستعيد محمد عبد القهار حقبة زمنية، بل حضارة كاملة عبر محمل اللّغة. ينثر فيها طرق القول والتخاطب، وأدوات الحقبة وتقنياتها، ويبثّ فيها من فلسفاتها وعلومها وأفكارها وأمثالها، ما يبعث بها من جديد في أذهاننا (من ذلك مثلا ما استغربته اذ استعمل عبارة "مطر فبريل احلى من فيض النيل" قبل أن أجد أنّ الدراسات تذكر ذلك، وتؤكد تأثر الحياة الفلاحية الأندلسية بالثقافة الزراعية المصريّة). و يتطلب كلُّ ذلك أكثر من سعة العلم والدراية، بل البحث الأكاديميّ الدقيق والقراءات الغزيرة الموجّهة. ولقد أجاد الكاتب استعمال خلاصة مباحثه بتكثيف شديد يخلو من التكلّف. وكان واضحا أنه يحاول محاكاة الكتب القديمة كأنه يتخيل شكل الرواية العربية لو أنّها بدأت من ذلك التاريخ. إننا لسنا أمام رواية تاريخية بقدر ما نحن أمام رواية من التاريخ تحاول أن تعبّ قدر الإمكان من فضاء اللحظة التاريخيّة المفصليّة وتنفثها قصّة دراميّة لم تنسَ جانب الامتاع. طبعا لم يصل الأمر إلى حدّ التماهي، فمازال هناك فاصل بيّن، ولا يمكن لتلك اللغة على أيّة حالٍ أن تحتمل آليّات القصّ الروائيّ إذا لم يعترها التغييرُ. وكان اشتغال محمّد عبد القهار على اللغة الدارجة واضحا أيضا، وإن لم يخلُ من هنّات أستشعرها ولا أدُلُّ عليها لقلّة إلمامي بهذا المبحث لكن يخيّل إليَّ أن الكاتب اعتمد على اللهجات المغاربية لقربها وتأثُّرها باللهجة الأندلسية مع انتصاب المورسكيّين بهذه البلاد، لكنّه لم يراعِ عامل الزمن في هذا القياسِ، ولئن فكّر في احتماليّة اختلاف لهجات المجتمعات المغاربية ذات الأصول المورسكية عن غيرها من المجتمعات المغاربية الأخرى خلال بحوثه (لأنني أعلم أنّه فعل ذلك) فإنّ التطبيق لم يظهر، وبدت اللهجة المستعملة، بالنسبة لي على الأقل، مغربية تارة وتونسية تارة أخرى، وربما شرقيّة بدويّة أحيانا. لكن على العموم فإنّ الصّورة الّتي قدّمها محمد عبد القهار عن الأندلس في أواخر عهدها، من أدقّ الصّور وأكثرها ثراءً وهو برأيي الغرضُ الأساسيُّ من الرواية.
ورغم بعض الثقل في البداية، وافتقارها للسلاسة في السرد، فقد تجاوز الأسلوبُ القصصيُّ هذه الهنّات سريعا ليقف على قدميْ الرسالة والسيرة. ويمضي فيهما مظفّرا. أقول إن البداية كانت على بعضٍ من الثقل، فزاد أن بثّ فيها (البداية) معلومات مفتاحيّة يغفل القارئ عنها بسهولة ليجد نفسه في موضع لاحق وقد تحوّلت تلك المعلومة العابرة إلى لبنة تغيير أساسية. فالقارئ في بداية النّص يتلمّس طريقه في أرض جديدة لا يعرف تفاصيلها، ولا يعرف ما يجب أن يحفظه لبقية الرحلة وما يجب أن يتخلّى عنه. لقد اضطررتُ للعودة صفحات إلى الخلف مرارا لا لقولٍ معقّد أو معنًى اشتبه عليّ، بل لأنّ حدثا مهمّا أقحمه الكاتب في سطر يتيم داخل مقطع وصفيّ، أو خواطر لهذه الشخصية أو تلك، فضاع الحدث، وارتبك الفهم من بعده. لكنّ الأسلوب وازن في ما بعدُ بشكل ذكيٍّ بين تلك المسحة الكَلبيّة المتشائمة الّتي رافقت رحلة البطلِ، وبين سياق تاريخيّ وحضاريّ تغلب على تعابيره وخطابه وأفكاره النزعةُ الإيمانيّة الدينيّة. فتشكّل موسى بن أبي الغسّان بمهارة أدبيّة رائقة بديعة كآنية خزف لا يُدركُ آخرُها بأوّلها. ولقد انفردَ موسى "غارب"، الصّورة العسكريّة الأسطوريّة الّتي احتفت بها بعض الروايات، والصّورة الرومانسية الحالمة الّتي اعتمدتها روايات أخرى. فكان عند محمّد عبد القّهار أكثر نضجا وعُمقا. يكادُ يقرب من نقيض البطلِ فنهزأ منه كما نفعل مع دون كيخوت، لكنّه لا يلمسه، وبالنّهاية يُفرزُ ملحمة وجوديّة جديرة بالأدب الرفيع. إنّ ما تناقلته القصصُ عن شخصية موسى بن أبي الغسّان ليس إلا مرحلة النهاية في حياة حافلة نسجها الكاتبُ من وحيِ خياله وبشكل قد يخفى عليه أو لا يخفى، من وحيِ حياته وأحاسيسه. ما من شكّ من نزوع الكاتب إلى إسباغ بطله بمظاهر البساطة والتجرّد من كلّ ما قد يجعله استثنائيا. فموسى لا يكاد يجيد شيئا تقريبا، ولا يكاد ينجح في شيء طيلة حياته، وليس له هدف واضح، ولا تمتاز الأحداث التي شهدها عمّا شهده أغلب من عاصروه، رغم نسبه الرفيع الذي يبدو أن الكاتب قد فكّر فيه منذ زمن يسبق زمن الكتابة بكثير... وهو على الرغم من تميّزه بعدم التّميّز، يجد نفسه شيئا فشيئا في مقدّمة الأحداث كأنّ قضاء الله يدفعه إلى ذلك دفعا، وكأنّ حركة التاريخ تتحوّل إلى إحدى شخصيّات القصّة، وهي الفاعل الرئيسيُّ فيها. وإذا الفتى يأخذُ دون أن يعلم، بأسباب صيرورته الوجوديّة إلى موسى الذي نعرفه. كأن يتعلم الطبّ أو ييأس من حياته فيأخذه هذا إلى الرّباط، ويأخذه ذاك إلى التعرّف على المملوك المصريّ وتعلم القتال وهكذا حتّى ينتهي به المطافُ رجلا مجهّزا بالأدوات النفسيّة والجسدية والذهنية ليكون أمل الأندلسيين الأخير، أو موسى الذي عرفته الأساطير. إنّها رحلة وجوديّة بامتياز، دعمتها مسألة نسبه، وتأرجحُه طيلة الكتاب بين الفخر والسخط على نسبه القديم، ليتصالح في النهاية مع فكرة اسمه الجديد، كأنّه اختار مشروعه الوجوديّ وحقّقه باستشهاده في الأخير.
وما من شكّ أنّ الكاتب لم يكبح جماحه كثيرا مع اقتراب خطّ النهاية، فتحمّلت الرواية نزفا رومانسيّا مبالغا قليلا، وبدا لي أنّه مع رسالة الغرناطيّ إلى نبيّه، تخلّى قليلا عن محاكاته اللغوية وكتب بلغة أقرب إلينا من القرن الخامس عشر. ورغم هذا المنحى الرومانسيّ الّذي أملته أيضا تاريخيّة الأسطورة، فإنّ اليأسَ سمةُ الرواية في أغلب صفحاتها ومشاهدها وشخوصها وهو يأسٌ لا يكادُ يأتي من سياق الرواية التاريخيِّ أصلا. لقد عاد الاهتمام بسقوط الأندلس في العقود القليلة الماضية، ومردّه المقاربة الحاصلة مع الواقع الفلسطينيِّ. ولعلّ رواية الراحلة رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة، من أجمل الأمثلة على ذلك. لكنّني في رواية غارب، أرى مقاربة مختلفة تماما، تعود بنا إلى حالة اليأس المسيطرة في مصر لا في فلسطين. فالكاتب مثلا لم يركّز كثيرا عن علاقة الشخصيات بالأرض، ولم نشهد وصفا لأحياء ألمرية أو مالقة بحنين من يفقد الأرض، وإنما بانكسار المهزوم. والكاتب لا يذهب بعيدا في ذكر ما تعلّق بالهويّة المهدّدة وحسبه الخطاب الاديولوجي الطبيعيّ بين أهل "الكفر" وأهل "الإيمان" والتنصر والهجن وغير ذلك. وهي ليست نقائص في الرواية فليس ذلك من أغراضها. إن غارب تحتفي بحالة القوم أمام الهزيمة، وأمام واقع مذلٍّ يفرضُ عليهم. تحتفل بتهافت الناسِ بعضهم على بعض، وتخبّطهم أمام الحتميّة المفزعة. إنّ هذه الحالة المفزعة من اللاتجاوب، ومن الهروب المستفحل وانتفاء الرغبة في الحياة، هي أقرب إلى محيط معاصر بحث له الكاتب عن قناع في نهر الزمن. كما أنّ شخصيّة موسى تستمدّ الكثير من مخاوفها وتأرجحها بين البحث عن المجد والبحث عن القناعة بالهدوء في شخص الكاتب نفسه. بالنسبة لمحمّد عبد القهار، فلربّما كان الخلاص يكمن في الهرب وراء البحر، واسناد الرأس في حجر الزوجة والولد. ولربّما كان الخلاصُ في مواصلة الطريق الرومانسية المقاومةِ حتّى النهاية المؤسفة المملّة.
أخيرا، تعرّض الكاتب خلال جردِه لأعراض حالة اليأس المبثوثة، إلى تحليل أسباب الهزيمة والتعرّض لبعض مظاهرها. وهو تحليل على لسان بطله، يمكن أن يتنصّل منه ولا يدّعي أيّا منه. لكنّ أكثر هذا الحديث يتواتر بشكل ربّما يتجاوز فكرة اسباغ الواقعية على شخصية موسى. وهذا التحليل لا يتجاوز تلك الأسباب السطحية المباشرة التي تختزل انحدار الدول في انحدار القيم وتكالب الناس على بعضهم وفساد قادتهم، وغير ذلك. وهذا ليس السبب للنجوم الثلاثة بدل الأربعة، فكما قلت وأعيد، الثلاث للعمل الحسن إلى العمل الجيد جدا والقيمة المضافة، والاربع للعمل الأيقونيّ أو الهامّ الذي ينبغي للمرء استغلال هبة الحياة لقراءته. وغارب بين هذا وذاك تقريبا، ولئن فكّرتُ في إضافة النجمة الرابعة إيمانا وتشجيعا فإنني في النهاية آثرت الحفاظ على وضوحي للسبب نفسه أيضا. غارب عمل أدبيٌّ رائق ومشروعٌ فنيٌّ يستحقٌّ التنويه والاهتمام لما يتضمّنه من جدية وبذل قلّما نلقاهما في الكتابة العربيّة.
مر أكثر من عقد على انفعالاتي بروايات محفوظ.. تلك الجلسة التي تتحول فيها الحياة إلى صفحات كلماته وأبطاله أحزانهم وأفراحهم واضطرابهم وجلدهم وخورهم وحسناتهم وفجورهم.. فلا أقوى على تركهم إلا أن يفرغوا مني إلى أن وجدت نفسي تحت زخات الرصاص تروعني القذائف وتُفجع نفسي مع رضوى في تلك الأرض التي تسكنني وجدتني اليوم أبكي وأغضب وأضحك.. مر وقت طويل على مشهد كذاك مني.. أحببت غاربا وتلمست ذكره كلما غيبته سطور.. أتحير لحيرة صاحبه كلما ألم به خطب.. بكيت كثيرا.. أرقني غباء المحبين وما يورثه.. وأحببت ليلى.. صدقت البشريات الخادعات حتى أني دعوت الله أن يكذب صاحب الرواية يقين الخبر في الختام! ربما باغتني شيء من أمل موسى على علمه.. دفعني إلى الرواية شعور البذل فيها.. إلا أني لم أتوقع أبدا أن أقضي ساعات اليوم فيها حتى أنهييها وحين قربت النهاية احتشد في صدرى الأسى على كل ما كان وكل ما يكون.. وظننتني تاركتها قبل الختام كنت قد عزمت على قراءة ما كتب عن الرواية وما قاله صاحبها عنها.. لكني سأتخلص من تلك الروابط التي حفظتها.. لا أود أن أعرف شيئا غير ما خالجني في صفحاتها.. لا أريد إجابات ولا أخذ ولا رد حول أي مما جال بخاطري.. كتفسير لمفاجأة "غارب" وهيئته.. وددت لو تبدلت.. لكن صدق الأمل آخر ما تصحبك إليه الرواية.. ضقت بصفحاتها الأخيرة.. ليتها تفارقها فلا يفارقني غارب وصاحبه ونهايتهما المتوارية في حديثهما الذي تشبثا فيه كأنهما يأبيان رحيل كذاك الرحيل فلم يلتفتا إليه.. ورائحة الياسمين..
أربكتني كثيرا هذه الرواية ؛ في نسقها ولغتها وزمانها ومكانها حتى البطل كان تعاطي معه مرتبكا مترددا ، أما النسق أو الشكل الذي كتبت عليه فأحيانا كنت أجد نفسي أنغمس في تسلسل من الأحداث وقدر من التفاصيل وحبكات متصلة كانت أم منفصلة وحوار وأبطال وزمان ومكان فكان كل هذا يجعلني أذهب بكليتي إلى حيث أراد الكاتب أن أذهب فأشعر بكونها رواية ، وحينا آخر يستأثر الراوي ومن خلفه الكاتب لنفسه بالزمان والمكان وألسنة كل الحضور فكأني بمجموعة رسائل أراد صاحبها أن تقرأ كاملة لكنه تحرز من ملل القارئ فأسماها رواية ، وأما اللغة ففي كل حالتها كانت جميلة مستنفرة لمعجمي اللغوي البسيط، مستفزة لخيالي حتى يجسد معانيها ، لكنها على جمالها كانت كريمة فياضة في مواضع تصور المعنى مكتملا بلا إيجاز مخل ولا إطناب ممل ؛ فيسكنني المعنى وأدركه بتمامه ، وفي مواضع أخرى أراها بخيلة مقصرة فيكون تصويرها للمعنى مختذل وإدراكي له مبتور أيضا ، وأما الزمان والمكان فهو اختيار ألقاه إلينا الكاتب عرفهما وفقا لما رآه وعايشه وخبره ، وترك كل منا بعد ذلك يتحسس موقعه بالنسبة إليها ، بل ويعيد تعريفهما إن إستلزم الأمر بما يتناسب معه ويتماس مع تجاربه ، لذا فأندلس الأستاذ عبد القهار الضائعة قد تكون ثورة أحدنا ، وحبيبة ثان، وقدس وحلب وغوطة آخرون والحبل على جراره طالما الأيام تسير وسنن الله تمضي فيها وفينا، و رحابة الرمز تسعنا جميعا . وأما موسى ؛ إبن أبي غسان وإبن بنو الأحمر أيضا فأرهقتني سيرته ومسيرته ، فمنذ كلماته الأولى في وصف الحمراء وقد ارتحلت بنفسي إليه ، فإذا بقلبي يرتجف خوفا حين وثب أخوه على أبيه في الحمراء ، ثم إذا بي أكره أنه إنتقل لمنزل لا يرضاه ، أضجر لضجره من حجب جده له ، أتذمر من خاله وعياله كلما ذكروا، أتنسم شذى فاطمة مثلما كان يفعل ، أتذكر الحمراء بين الفينة والأخرى ، أشعر بمهابة شيخه المالقي، وأضحك في حضرة صحبته ، و أشعر بالندم على ذنب اقترفه وأحزن لفراق أمه وأمي سويا، و أحببت غاربا ربما أكثر منه، لكنى تنكرت له حين استبد بفاطمة في بادئ أمره ، آه يا ابن بنو الأحمر ، إنما العاجز حقا مالايستبد ؛ قالها ابن أبي ربيعة وها أنت تدفع العجز عن نفسك حتى وإن كان دفعه بلطمك فاطمة ، ولما عزمت الرحيل منعك أن تلحق بها كبرك الموروث من سعد ، وزهوك بنفسك الذي صحبته معك من حمراء أبيك ، حتى لما ندمت كان ندمك فقط لأجل أنك الخاسر الفاقد هنا لا لشيء آخر ، ثم ها أنت كلما ألم بك شيء وعجزت عنه تحججت بأنها تربية النساء هى التي صنعت بك ذلك ، وهل تربي إلا النساء يا موسى ، " ومالها تربية النساء يا أستاذ عبدالقهار -_-" ، لكنى عدت أسير معك مرة أخرى ، إذ لا متحدث ولا مرتحل ولا فاقد ولا متألم ولا مخذول ولا خاذل في الرواية سواك ، تقطعت أنفاسي وأنت ترمح بغاربك من مدينة لأخرى ومن عمران لعمران ، وأن تخوض معاركك الخاسرة كلها ، وأنصاف علومك ومعارفك التي أوردتك المهالك ، وأنت تداهن وتماري وترآءي ،حتى سفكت الدم يا موسى ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لكني على قسوة كل هذا كنت مثلك أخشى ما أخشاه هو حديث نفسي حين تتكشف كل الخبايا فلا أنكرها ، حين أدرك تمام الإدراك أن ما دفعني إنما هو الهوى وليس نب��ل القيم والأخلاق كما يتحدث عريف لساني دائما ، لعل كل هذا مغفور لك يا ابن أبي غسان لأنك أدركت في النهاية أن ربما أصدق معاني النصر تتجسد حين يقرر المرء أن يموت لأجل ما يؤمن به ، آه من حكاوى المظلومين حين تقص على ألسنة من بقي من بعدهم ، رحم الله إبن أبي غسان ولعنة الله على من خذل . ولا غالب إلا الله
تدور الرواية فى الأندلس فى اواخر عهد بنى الاحمر فيه, فى اندلس ما قبل السقوط, بطل الرواية هو موسى بن سعد من بنى الأحمر اخر حكام الاندلس الذى يهرب مع ابيه بعد وثوب اخيه على حكم ابيه المستعين بالله سعد الأحمري و عزله. الرواية قدمت نظرة جديدة عن الاندلس فى اواخرها فبعد ان ركزت ثلاثية غرناطة للراحلة رضوى عاشور - رحمها الله - على حياة العوام فى الاندلس و ما عانوه بعد السقوط تركز روايتنا هنا عن حياة امراء بنى الاحمر و حياة الولاة و الحكام فى نفس الفترة فقدمت رؤية جديدة و مميزة للرواية التاريخية عن اخر عهود الاسلام فى الاندلس. الرواية التى سُردت فى 12 فصل عشنا فيهم حياة موسى ابن ابى غسان فارس غرناطة الأخير منذ حياته فى قصر الحمراء فى غرناطة تحت حكم أبيه حتى خروجه منها و حياته فى مالقا و الميريا و التحاقه بالرباط و جهاده ضد النصارى و عودته من جديد لغرناطة حتى سقوطها قسمت كل فصولها لثلاث معنونة بـ " أنا - هو - أنت " أولا " أنا " وهى رسائل كتبها موسى لولده بعد فراقهم و فيها يسرد موسى قصته و حياته و علومه التى تلقاها و من مميزات الأسلوب فى هذا الجزء طريقة السرد الرائعة فأسهب موسى فى الوصف و الكتابة فى البدايات و عند حصار غرناطة كانت رسائله قليلة متقطعة موجزة تنبئ بحاله و ما يعانيه ثانيا " هو " و فيه سرد قصة موسى و حياته يرويها الكاتب و تجد روعة الحوار باللكنة الأندلسية ثالثا " أنت " وهو يعد من اروع فصول الرواية فهو فى خلجات النفس و تقلباتها و فيها ما لم يحكه موسى لولده تعيش فى روعة السرد للكاتب حياة الفارس على جواده " غارب " الأعمى تعيش معه حياته فى الحمراء و روعة قصرها و بهجته ثم حياة التنقل بين المدن بين مالقا و المريا و و تعيش معها انكساره و ذله
" ابكِ على شباب قد زال على حياة لم تعد، على مُلكٍ لم تصنه كالرجال "
هل خذلنا الأندلس ؟ أولم نكن على قدر المسؤولية فى الدفاع عنه ؟ كيف و قد ارسلوا ابنائهم لملوك النصارى ليضمنوا ثبات حكمهم كيف و قد قاتل جدهم ابن الاحمر مع النصارى فى اشبيلية ولما انتصر على اخوانه المسلمين و عاد سألوه من غلب قال الله غلب و نقشها على راياته " ولا غالب إلا الله " فهل كنا نستحق أن نحكم حاضرة العلم و المعرفة ؟ كيف لنا أن نحكمها و نحن سبب نكبتها بقتالنا أنفسنا و انشغال امرائنا بالوثوب على الحكم و بجمع المال و صون الجاه و كسب الحظية عند النصارى و التنافس فى الانبطاح امامهم لنيل رضاهم فى حكمنا .
الرواية هى العمل الثانى لصاحبها الأديب الشاب محمد عبد القهار فبعد رائعته سراى نامه التى فى نظرى تفوق غارب مكانةً لدى ولكن غارب تفوقها فى السرد اللذى أبهرنى طوال صفحاتها الـ 400 فعشت فيها فى الاندلس فى قصر الحمراء و نافورة الأسود فيه و في حصن أهل الرباط و فيه مدن الأندلس القديمة فى وصف رائع لجغرافيا الأرض و عبق التاريخ ما يعيب الرواية من وجهة نظرى هو الملل فى أسلوب السرد فى الجزء الخاص بالعلوم التى تلاقاها موسى فى صغره فبرغم اهميته و تعريفه على الكثير و الكثير من كتب العلوم .
ختاما الرواية بُذل فى كتابتها جهد بين فى صفحاتها و طياتها و صياغة تفاصيلها فهى مبهرة محزنة مسببة للكآبة و روعتها فى خاتمتها و رسالة موسى لخير الأنام محمد صلى الله عليه و سلم .
من اللحظة الأولى وأنا بسأل نفسي هو أنا بقرأ الرواية دي ليه؟ ده مش لوني المفضل ولغتها مش سهلة ومش مناسبة قطعا لقضاء أجازة العيد والأنتخة، الرواية كفنجان قهوة شديد المرارة وأنا بحب قهوتي زيادة! وحاليا بعد ما ودعت موسى و ودعني بسؤاله عن الإخلاص بسأل نفسي إزاي أصلا ممكن أرجع أشرب القهوة زيادة تاني!
"أيها السائل عن الإخلاص مهلا. ألا تعلمن أنه لا يعلمه شيطان فيفسده؟ ولا ملك فيكتبه، ولا صاحبه فيدعيه!"
على ما في الرواية من جمال مقدرتش أقتبس فقرة بعينها، هل أقتبس من حوارات الملك وربض اللوم والوزير؟ ولا من فصل "هو" " الظليم"؟ أي الحوارات كان أثره أقوى على نفسي؟! هل أقتبس من رسالة موسى لسيدنا النبي؟ ولا أي إقتباس ممكن، الرواية كلها واجبة القراءة بالمنظور المختلف للتاريخ اللي بيخرج عن نظرية المؤامرة التقليدية علشان يخلينا نبصر أخطائنا اللي بنتعامى عنها دايما وما أشبه اليوم بالبارحة! بالعرض "الواقعي" للنفس البشرية باللي عليها واللي ليها، بنظرات الناس لموقف واحد برؤى مختلفة كل على هواه... الرواية أفضل بكثير من سراي نامة وأكثر إحكاما...
والغلاف حكاية لوحده..موسى وغارب ولا غالب إلا الله " الإخلاص لا يعلمه صاحبه فيدعيه"
لو الأمر يرجعلي هتكون الرواية دي من المقررات على كل طلاب العلم الشرعي بلا استثناء والسياسي لو في طلاب علم سياسي أصلا.... من الروايات اللي أحب أرجع أقراها تاني إن كان لي عمر
أَعمى يَقودُ بَصيرًا لا أَبا لَكُمُ *** قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ هذا البيت لبشار بن برد يشبه مشاعري بعد أن انتهيت من قراءة الرواية. أ. محمد عبد القهار من الشخصيات التي تعمل بجد واجتهاد قبل كتابة أي عمل روائي له، وهذا واضح جدًّا في روايته، خاصة مع ربط أحداث تاريخية تتسم بقلة المصادر فيما يخص موسى بن أبي غسان، مع ما يدور داخل النفس البشرية من تقلبات يعيشها كل إنسان.
لغة الكاتب رائعة خاصة مع خلطها بالعامية، ولكن كانت هناك بعض الأخطاء الإملائية. طريقة السرد: تشبه نصائح لقمان لابنه، مجموعة من النصائح التي يقدمها الأب الذي رأى من ويلات الدنيا الكثير والكثير ويقدم هذه الخبرة لابنه بغرض الوعظ والتعلم، وجاء ذلك واضحًا في الفصل الثالث وهو من الفصول الجميلة جدًّا. أما عن رسالته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت بلسم الرواية.
وفي النهاية لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية قلم محمد عبد القهار وإن كان قليل الإنتاج، ولكنه يستحق القراءة. «أيها السائل عن الإخلاص مهلًا، ألا تعلمن أنه لا يعلمه شيطان فيفسده ولا مَلَك فيكتبه؟!».
خطرت مقدمة القصيدة الشهيرة لعبدالله بن المبارك، التي يقال إنه أرسلها إلى الفضيل بن عياض، في بالي، عند الانتهاء من قراءة رواية الكاتب المصري محمد عبدالقهار الرائعة «غارب».. وغارب ليس سوى خيل أعمى.. ولكنه شهد الكثير..
كأن هذه الرواية المليئة بغبار المعارك وأصوات الصهيل وأسوار القلاع.. يرسل «غارب» تلك القصيدة إلى الروايات التي أصبحت «موضة» الساحة الثقافية أخيراً.. والتي تجعل من الرجل العاشق الذي يتقن صنع دوائر راقصة جميلة للوصول إلى الحقيقة طريقة أسلم وأكثر حضارة من طريقة الجندي الذي ضحى بكل شيء لكي ينعم من تركهم خلفه بالأمان.. الذائقة الفنية.. والذائقة الفكرية.. وحتى الذائقة المصلحية تختلف باختلاف دواخلنا بالطبع.. ولكن صهيل «غارب» كان حتماً لا يسير ضمن المخطط الثقافي الجديد الذي يريد وصولاً إلى الحقيقة عبر طريقة واحدة.. وهي أن تكون صاحب «طريقة» أو تابعاً لها فقط!
تسير الرواية على خطى فارسها في 12 شهراً، في كل شهر تسمع ثلاث روايات لما حدث.. الأولى بصوت البطل نفسه؛ وهو سليل أحد ملوك الطوائف في الأندلس في فترة هي الأسوأ.. فترة انتظار الموت وما قبل السقوط.. والثانية بصوت الغائب الذي يرى الأمور كما حدثت بحيادية.. والثالثة بصوت الضمير.. وما أدراك كيف تكون رواية الضمير للأحداث؟
الأهم في هذه الرواية هي العبرة التي يمكن أن نستبدل بها الكثير من مناهجنا اليوم، العبرة من قراءة تاريخ «ملوك الطوائف»: متى اختلت البوصلة لديهم؟ ما الأسباب الطفولية التي جعلتهم يزدادون انقساماً على أنفسهم في كل يوم؟ كيف بدأت الخطيئة حين يقرر كل من ملوك الطوائف أن مصلحته مع إيزابيلا وفرنانديز وليست مع ابن عمه؟ كيف وثق ملوك الطوائف بمن لا تجب الثقة به؟ وكيف بكوا في ذات يوم على ملك لم يرعوه كالرجال؟ وتركوا لغيرهم البكاء عليه إلى يوم الدين.. بينما تزاوجت مملكتا أرجون وقشتالة لكي تصبحا أقوى في وجه العرب البرابرة!
على خطى الخيل الأعمى.. كتب محمد عبدالقهار ما لم يكتبه عشرات المؤرخين أو المحللين السياسيين أو حتى الفلاسفة.. شفافية مطلقة في التساؤلات الوجودية وفي مؤامرات البلاطات السلطانية، وفي المال والقوة والعقائد..
ولكن الكثير مما وقع تحت سنابك «غارب» يمكن اختصاره في ما نعرفه من قرون ولا نطبقه.. فقدرنا أن نصنع التاريخ في وحدتنا.. وقدرنا أيضاً أن التاريخ سيتجاوزنا وسنفقد كل ما نحب وكل من نحب في اللحظة التي نتحول فيها إلى طوائف.. تبحث كل منها عن مظلة غريبة لتنتقم تحت حمايتها المزعومة من أبناء عمها..!
ولا تظن ياعبدالملك أنه كان مغاليا في أجرته ، ولعلك تعجب اذا عرفت الأجر الذي أديته له ، وكلما تم أحدنا الأجل معه وهم بتركه ، أخذ عليه عهدا أن يقرأ جزءا من القرآن علي غسله ، فلما مات رحمه الله في السبعين من عمره اجتمع مائة وخمسون رجلا يقرؤون عليه ، فختم القرآن علي غسله رحمه الله خمسين مرة ، وذلك خير من الدنانير والزيت الأخضر والقمح الريون
غارب _ محمد عبدالقهار
حسنا ..... لن أقول كما قا�� أحمد خالد توفيق : غارب .. أخيرا عمل متقن ولكن سأقول : هذا سفر عظيم جدير بأن يقتني ويقرأ ويهدي ويورث وتفرد له ساعات طوال للمناقشة وهذا أديب مميز لا يحضرني بعد الانتهاء من روايته إلا أمنية بلال فضل بأن يحتجز خيري شلبي ليقوم بإفراغ رأسه من حكاياته عن مصر المهمشين والفقراء والضائعين ، أنا لم أحب خيري شلبي حتي الآن ولكنني أحببت عبدالقهار ومنذ روايته الأولي ، أعلم أن قوانين البوكر التي تم تعديلها بسبب الغثاء الذي تنشره دور النشر المصرية يمنعه من الترشح للجائزة وهو علي مستوي من يتقدمون للجائزة سنويا ان لم يكن أفضل من كثير منهم ، ولكن أتمني أن يجد أحدهم حلا لتلك المشكلة قريبا ليحقق ذلك المؤلف الوغد انتشارا أوسع فهو يستحقه وبجدارة وهو خير شاهد علي حقبة من تاريخنا يصل فيها أنصاف الموهوبين إلي قوائم الترشيحات للجوائز الأدبية المحلية ويحصل فيها بعض من معدومي الموهبة علي منح للتفرغ لكتابة غثاء لايسمن ولا يغني من جوع .
أحداث الرواية في الأندلس حيث بعض من أمجاد دولة الإسلام الضائع الذي كانوا كلما ذكروه قديما يقولون : ردها الله للمسلمين ، وتدور حول قصة موسى بن أبي غسان الفارس الأسود الذي قاد جيوش غرناطة قرب النهاية
الرواية عظيمة في كل تفاصيلها الأدبية والفنية اللغة رهيبة تتمني ولو للحظة أن تكتب بها يوما ما ، أو كما قال توفيق تشبه وببساطة كأنك قد قمت بترجمة مخطوطة ما ونشرتها كما هي ، لتعطيك احساس يشبه ما فعله يوسف زيدان في عزازيل التي يري الكثير وأنا منهم أنه لم يكتب شيئا يستحق القراءة إلا هي حتي الآن
كعادتي لا أكتب تفاصيل عن رواية أبهرتني وإنما أضعها علي قوائم إعادة القراءة لأستعيد مستقبلا بعضا من احساس الاستمتاع بروايات جيدة للغاية مكتوبة بالعربية عزّ أن تجدها في مثل هذه الأيام.
وكعادتي سيظل معياري الوحيد للحكم علي رواية هو قدرتها علي جلب أكبر قدر ممكن من الامتاع عبر القصة والأحداث والشخصيات وأسلوب السرد واللغة وهو ماحققته هذه الرواية من بداياتها وحتي آخر ورقة فيها
في أي رواية تدور عن عصور النهاية في الأندلس، عليك أن تجهز نفسك لنهاية حزينة، إلا لو أرسل لنا الله من يكتب فانتازيا تاريخية يغير فيها ما تنتهي إليه الأحداث، لكن عبد القهار لم يفعل هذا للأسف.
خطر هو المسلك الذي يصر (محمد عبد القهار) على إتباعه، في زمن نفتقر فيه إلى الرواية الجيدة، يكفي أي كاتب موهوب بذل مجهود محدود لكتابة رواية تخطف الأبصار لعدم وجود منافس حقيقي، لكن عبد القهار يصر في رواياته على بذل مجهود يصعب حتى تخيله ستقرأ عن الأندلس في نهاياتها وكأنك عشت فيها، دقة الوصف وتفاصيل الحياة اليومية لن تجدها عند كاتب روايات تاريخية عربي معاصر، إلا ربما مع ربيع جابر في دروز بلغراد مثلًا.
شاب الأحداث بعض الهدوء في النصف الأول من الرواية، القاريء المتعجل قد يصاب ببعض الملل لكن هذا يعود في الحقيقة إلى إحكام بناء الشخصيات وتطورها، وربما يرجع أيضًا إلى إستخدام عبد القهار للغة عربية حقيقية جعلت القراءة أصعب على قراء إعتادوا على لغة سلسة وبسيطة محدودة المترادفات والمعان مما يجعل قراءة عمل أدبي بلغة عربية حقة مجهود شاق.
قد يكون من الأيسر على عبد القهار إتباع الطريق الأسهل والأكثر شعبية في كتابة الرواية، قد يضمن له هذا جمهور أكبر ومجهود أقل بكثير في إنتاج الرواية، لكن إن فعل فستكون خسارة فادحة جديدة تضاف إلى سجل إخفاقات الرواية المصرية المعاصرة، لذا نتمنى أن يبقى عبد القهار كما هو "بيتعب نفسه" في كل رواية جديدة له، نحن نحتاج إلى هذا التعب.
روايةٌ قد مرّ الزمانُ و ما قضى ..بها قارئٌ وطراً و لم تتجملِ أجد نفسي أحن إلى أن أقرأها أخرى، أن أعيش قصة هذا البطل الذي جعله الكاتب إنساناً له عثراته و طيشه و له عزماته و حلمه، له رياؤه و عجبه و له إخلاصه و صدقه، أودعه تاريخ أمةٍ قد خلت، فخلت و ما خلى من نفسي. الرواية سيلا مشاعر و أفكار التقيا على أمرٍ قد قُدر، فغشيا بصراً كان قد ضَعُف، فكأنك بها رجلٌ أعمى يقرأ رواية جوادٍ أعمى ! منذ بدء قراءتها علمت أنه لن يقدرها حق قدرها إلا من علم تاريخ هذه الأمة الخالية و لست منهم! و لكن لتأثري بحاضرٍ كالماضي تابعت و مضيت منتظراً مشهد الموت في فصل الرحيل ! لم تتزين الرواية لهؤلاء الذين لا يعلمون عن ماضيها شيئا أو يعلمون ظاهراً منه و زخرفا بل كأنها ترمي أعينهم بسهام صنعتها من غرابة اللألفاظ و صعوبة التراكيب و تطعن قلوبهم بحرابٍ من واقع ماضٍ أليم، ولا عجب من تصعبها و تمنعها على أجنبي عنها فهي كذات خدرٍ لن ترى منها زينة إلا بميثاقٍ غليظ أو تخبؤٍ ترى به ما يدعوك إلى نكاحها(البحث عما لا تعلم).ا وددت لو أتكلم عما فيها من أحاديث النفوس وأعذار الخلائق في أفعالهم و من علوم الأندس و من زندقة الأمراء و خياناتهم و أخطاء الأشياخ و غفلاتهم و من العلاقات الاجتماعية و من أحوال الجهاد و الرباط ومشاعرهما و غيره و لكن الأمر يطول . أخيرا : كنت أرجو أن تضبط بعض الألفاظ تسهيلا على القارئ و الله المستعان!