في عام 2009، وفي ذروة معاناته وإحباطاته؛ يبدأ شاب في البحث عن جده الغائب منذ عام 1972، مُستعيناً بمذكراته التي أرسلها قبل زمن بعيد ولم يهتم بها أو يقرأها أحد من أبنائه، ما بين إهمال، وغضب، وخوف من مواجهة ما تحويه من أسرار، قد تنجلي بها مسببات رحيله. ومن خلال رحلة البحث عن المذكرات، ثم قراءة فصولها، تتقارب الأسرة من بعد شتات طويل، ما بين اغتراب الأرض واغتراب النفس، لتجمع الأوراق ما فرقه الزمن، ويرتحل الجميع في قراءة لمذكرات "إبراهيم البنداري"، التي انصهر في فصولها الواقع بالخيال، ما بين معاناة جيل الستينات بأكمله، وتحطم آمال العشق على عتبات اختلاف الأديان، وارتحاله الغرائبي رفقة "مليكة"، التي تبزغ في حياته في ذروة ذلك كله، لتنتشله من واقع فقد فيه دوافع البقاء، وتدور به عبر أجساد سكنتها روحه عبر التاريخ، تاركة لها مهمة استكشاف نقاط التلاقي، بين ماضيه البعيد، وماضيه القريب.
تنتهي الرواية بأمل في لقاء تأخر لأكثر من أربعة عقود، ما بين إبراهيم، وبنيه وأحفاده، فهل يتم اللقاء؟
في مملكة مليكة، القارئ منذ الوهلة الأولى، مَعْنِيُّ بالبحث، مُكلف بالتجرد، شريك في التجربة، ورفيق في الترحال، فهو إذ يشارك شخوص الرواية بحثهم عن صندوق إبراهيم، فهو في واقع الأمر يفتش في جنبات عقله، عن صندوق ماضيه الذي يحوي إرثه الخاص. وهو حين يرتحل بين أوراق إبراهيم، فإنه يقابل وجوها مرت بجواره ذات يوم، ليعيد رصد مثالب حاضره هو، فيكسو الخيال بثوب الواقع. وهو عندما يتنقل رفقة إبراهيم البنداري بين الأزمنة، فهو حينئذ شريك في نسج معابر تصل الأمس باليوم، والحاضر بالقادم.
قارئ هذه الرواية، إذ يغادر مملكة مليكة فور الانتهاء من قراءة صُحفها، فهو حتماً، لن يكون كما كان حين وطأت قدماه بوابتها للمرة الأولى...
محمد سمير ندا، مصريّ الجنسية، ولد في مدينة بغداد عام ١٩٧٨، وقضى سنوات الطفولة الأولى في بلاد الرافدين، لتتشكّل طفولته على إيقاعات الحرب العراقيّة الإيرانيّة. عادت أسرته لتستقرّ في مصر في القترة بين عاميّ ١٩٨٤ و١٩٩٠. عقب ذلك شدّ والديه الرحال مجدّدًا، غربًا هذه المرّة، ليقضي مرحلة صباه في طرابلس-ليبيا، حتّى عادت أسرته لتستقرّ في مصر مجدّدًا عام ١٩٩٦.
تخرّج في كليّة التجارة، وعمل محاسبًا في المجال السياحي، حتّى استقرّ به الحال في منصب ماليّ وإداريّ في إحدى الشركات العاملة في مجال السياحة والمطاعم. له أخّين هو الأوسط بينهما. متزوّج منذ عام ٢٠٠٨، ولديه ولدين.
والده هو سمير ندا (١٩٣٨-٢٠١٣)، الأديب المصري المتفرّد الذي لمع نجمه في ستينيّات القرن الماضي، وقدّم للأدب المصري قامات أدبية شابة آنذاك؛ مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهما. كما قدم عدّة أعمال روائيّة وقصصيّة ومسرحيّة متميّزة، علاوة على فيلمين تسجيليّين عن حرب الاستنزاف. اصطدم مشروعه الأدبي والفني بالتضييق الأمنيّ والسياسيّ في الستينيّات والسبعينيّات نتيجة دفاعه عن حرية الفكر، ومعارضته للأنظمة الحاكمة. كانت هجرته الأولى من مصر عام ١٩٧٤ إلى المملكة العربيّة السعوديّة، ثم توالت الهجرات إلى العراق، وليبيا، مرورًا بمحطّات عربيّة أخرى قصيرة. أحدث طفرة صحفيّة في جريدة "عكاظ" ومجلة "اقرأ" السعوديّتين في السبعينيّات، وعمل في إذاعة "صوت سوريا" في العراق وكتب في مجلة ألف باء العراقيّة. اختتم حياته المهنيّة كمستشار إعلاميّ للسفارة السعوديّة في ليبيا.
تخرّجت والدته في كلية الآداب - قسم اجتماع وعلم نفس، والتحقت بالعمل في وزارة الثقافة المصريّة، وتدرّجت وظيفيًا حتى تبوّأت منصب مدير الإدارة الثقافيّة في قصر ثقافة مدينة بنها، قبل إحالتها للتقاعد فور بلوغها سن المعاش.
النشأة في مثل هذا المناخ الثقافي، وتنوّع الثقافات المكتسبة والمعارف الحياتيّة إثر التنقّل بين أكثر من بلد عربي، علاوة على طبيعة عمل الأب، ودوافع تنقّله من وطن إلى آخر، هي الأمور التي شكّلت وجدان المؤلف، لينشأ شغوفًا بالقراءة، مدافعًا عن الحريّات، مهتمًا بكتابة الشعر والأدب.
صدرت روايته الأولى "مملكة مليكة" عام 2016، كما صدرت روايته الثانية "بوح الجدران" عن منشورات إيبيدي في مطلع عام 2021 فازت روايته الثالثة "صلاة القلق" في يونيو 2024 عن دار ميسكلياني، وفازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لسنة 2025
من أفضل ما قرأت عن رحلة الأنسان في البحث عن حقيقة العلاقة بينه و بين الله اسلوب الكاتب مشوق، يبحر بين السرد الأدبي و الأفكار الفلسفية، رواية تستحق القراءة بتمعن
أشفقتُ كثيرًا على الكاتب الذى استعان بشخصيات عديدة وأحداث جسام فى بناء نصه الروائي, لكنه كان موفقًا ورحيمًا بنفسه, حين جعل الفصول منفصلةً, فاستطاع القبضَ على الشخوص والأحداث, وكان من الذكاء بحيث جعل لغة السرد ناعمةً مرنةً, تتبدلُ –كحرباء أليفة- لتناسب الزمن وحدثه.
فإنى أقف الآن بين يديك مفضيًا بما لدى مُعترفًا.. أعترف بأننى قد أمضيتُ عمرًا فى مدح حبيب الله المصطفي.. وعمَّدت أخاكَ.. لا يعلم سواكَ الآن, أننى حضرت به فى مهده, صلاةً فى معبد اليهود فى شارع عدلي.. دفنتُ القبطى بجوار المسلم, محققًا رسالتى التى كبلتها سلطات الحكام.. حفظتُ كتابَ الله... وفهمته قبل الحفظ.. ووقفت برحاب ذكراك, معترفًا كما يليق بمسيحى صالح»».
هنا فقط فى نهايات الرواية, يكشف الراوى عن وجه روايته كاملًا؛ هو يبحث عن وجدان جمعي, عن حقيقة وجود الإله كضرورة, فكان الأبطال يحملون اسماءَ «إبراهيم ونوح وآدم بالطبع, فى المقابل كان بديهيًا وجود حواء ومريم.
العلاقات المتشابكة الدائمة, الثقافةُ الشخصية لكاتب الروايةِ –التى انزعجت عدةَ مراتٍ وهو يحاول فرضها وتأكيدها داخل الرواية- منحت الروايةَ هيكلها ولحمها، فكان استخدامه لتقنية «الراوى العليم» حتميًا؛ ليتمكن من فرض قبضته على الشخوص وأحداثها, غير أن القارئ سيكتشف نفسَه كراوٍ عليمٍ موازٍ للروائي، فيما يخصُ الأحداث التاريخية, وكان الراوى ذكيًا فى طرح المفردة, وعدم الركض وراء المعنى فى أحداث محسومة بحكم التاريخ؛ فلم يذهب للإسهاب بخصوص تاريخ الإخوان المسلمين, مثلا, أو هزيمة حزيران 1967.
نقطة التنوير الرئيسية, كانت فى حواره الصاخب الذى انتهى إلى أن هدم الكنائس والمعابد والأبنية المقدسة يمكن علاجه باعادة البناء, لكن هدم الجسد البشري, لا يتوافر له إعادة إحيائه. ويدخل ندا فى منطقة مثيرة, ستحيله إلى صراعات لا نهائية مع العقول الجامدة, وربما يجدُ فيها بعض المنبوذين متنفسًا لاعادة وجودهم للحياة, فالافكار متقاربة للغاية: الدين الشمولى واللغة الوحيدة المنتصرة, ثم الكون أرض واحدة.
لم يكن فى صالح الرواية ولا الراوى كثرة الانحناء ليلتقط أسماء لمبدعين سابقين, وعلى النقيض تمامًا, كان استدعاؤه لشخص «المازني» كبطل ثانوى بالرواية موفقًا ومثريًا, والراوى كان يبدو مراوغًا متمرسًا؛ فعندما يستعدُ المتلقى ليضربه بتهمة محاكاة نجيب محفوظ, يظهر صنع الله إبراهيم ومن خلفه ومن أمامه (كل) كتَّاب جيل الستينيات, غير أن ندا فى الحقيقة لا يشبه سوى عقله الفردى بمغامرته المحفوفة بمخاطر عديدة وبعقله غير الجامد.
رواية مملكة مليكة –فى نهاية الامر تستحق المُطالعة و إلتهام ما تجاوز ستمائة صفحة فكرية...