وددت لو كتبت هذه التجربة (العامية) بعد عشر سنوات مثلًا كي أعطيها حقها.. ولكنها؛ رغم تأخرها في النشر لثلاث سنوات مضت إلا أنني فضلت ذبحها على باب "التجريب"... ووجدت أن ذلك هو الميقات المناسب لتواجدها بين قصيدة "أراها" تتماهى مع ما وصلت إليه العامية المصرية من كتابات راصدة وتعبيرية لا تتخذ موقفًا محددا من نفسها ولا من أختها الفصيحة فتنقذ إحداهما الأخرى من الانخراط في العادي واليومي ولا النزعة الغرائبية التي ظنها البعض تجديدًا.. فالتجديد لا يأتي دفعةً واحدة بل ما هو إلا إرهاصات تتراكم لتكوّن قصيدة واعية في زمن فاقد الوعي!
- وعن بناء العمل فآثرت أن يتسق دلالةً ولغةً وغايةً مع اسمه (معجم المقامات) فعلى صراط أو وتر (العجم والصبا والحجاز والسيكاه والنهاوند والبياتي والكرد والراست) مشت ( روحي وعشقي ووجدي وجسدي وناسي وشعري وغنائي وشجني) غير عابئ بدلالة ووقع التعريف الأكاديمي للمقام؛ كي يطرب لها مستمع ويعي لها قارئ.. بلغة وسيطة (غير فسيفسائية) تطمح أن تكون "غجرية" كالموسيقى يفهمها ويشعر بحالتها من سمعها على اختلاف لهجته وخلفياته الثقافية؛ محاولًا مغازلة العمودي والتفعيلة والنثر والموال والمربع على بحور شعرية بعضها مهجور وآخر يصعب حقنه بالشاعرية لصخبه وسرعته..
وما بين (المعجم/ اللغة) و (المقامات / الإيقاع) حاولت أن تخرج مجموعتي الأولى بشكل إن لم يكن جديدًا فهو بالأحرى يسعى وراء ذلك.. إيمانًا مني بأن (اللغة/ الوعاء) حتى وإن لم تتخل عن شعبيتها قادرة على شق طريق للعامية المصرية لتكون على قدر ما أراها ترهص إليه من صدارة بعكس (اللغة/ الأداة) التي أفرغتها من مضمونها ودورها فارتضت لنفسها مرتبة الرديف لا الفارس.
أخدت وقت كبير في قرايته لأن الحالات الحلوة دي الواحد بيتمنى انه مايطلعش منها .. قريت الديوان أكتر من مرة .. اللغة هايلة والموسيقى اللي في النصوص عجبتني والمواضيع المختلفة والمغايرة لكل المألوف دلوقتي في دنيا الشعر .. شابوه يا جعفر :)
في ديوانه معجم المقامات يقدم محمد جعفر متاهة شعرية غايتها متعة السعي ووهم الوصول يؤنس العابر فيها أصوات لشخوص لا تبين وخيالات مرحة وحزينة وغناء بلا صوت ودليل مخادِع ورفيق من الطير وَالنَّخْل وبئر مالحة ينتصر جعفر في تجربته الأولى ل "التداعي الحر" بعد أن شحذ حواسه وامتلأت نفسه بالحالة ففاضت بها فيجئ الديوان كما لو كان قصيدة واحدة طويلة لم تفلح التقسيمات والابواب في تجزئتها فالمتاهة بادئة من العنوان حيث المعجم ليس معجمًا ولا الأبواب مرتبةً فيه أبجديًا مثلا فهل يهوِّن المسير اختصاصُ كلِ مقامٍ بإيقاع ؟ ليته فعل فليس في الديوان لكل مقام مقال لا من زاوية الايقاع ولا المعنى الشائع فهناك حزن ليس علي الصبا وفرح ليس علي السيكاه
فهل يكون المقام صوفيّاً اذن ؟؟ يغرينا افتتاح الديوان وثناياه بذلك فعلاً في الصفحة الأولى اقتباسات من القران والحلاج وابن عربي والنفري لكنها وإن ظهرت تجلياتها في الديوان لا توازي إشارات المقامات الموسيقية الثمانية التي جاءت الأبواب عليها وتوزعت آلاتها ودلائلها نايًا وقانونًا وأوتارًا ودفوفًا
لكن ما يعنينا هنا هو أن هذه الإشارات الصوفية الأولى وضعتنا علي قانون المتاهة الشعرية من أول (ن والقلم وما يسطرون ) حيث استحضار هيبة فعل الكتابة ومسؤليته مروراً بزمكان ابن عربي وألواح النفري وأثر طير الحلاج يشير جعفر ويلتزم هنا أنه مُقْدِمٌ علي عمل خطير سيكون فيه كالطير عابراً دون عناء البحث عن أثر وكخشب المركب فرداً في مجموع
لغة الديوان هجين ناجح مخلوط بعناية بنكهة بدوية وخيال من الرمل والأسطورة وحكايات الربابة في لهجة لا قاهرية ولا صعيدية
إيقاع لافت وواضح تزيّنه قوافي مبتكرة في غير افتعال تنتشر تيمة "الدوبيت" والثلاثي وغيرها من التشكيلات الإيقاعية العروضية في أسطر قصيرة عادةً دون أن يغيب السرد وملامح نثرية طارئة أحياناً
يحل "ثالوث" النفس والشعر والحبيبة جليًّا في كل مقامات المعجم /الديوان معيداً صياغة الصور القديمة والموروثات الدينية والشعبية احيانا
تنتشر تيمة التصوير المقلوب او المعكوس التي تتماشي مع روح الحلول الصوفي والشك الفلسفي "ومن غنا في الإيد بقّع علي دُفّي "
هل أرى في المتاهة وجه ( فؤاد حدّاد ) ؟ نعم بل أري قصيدة كاملة عنه علي إيقاع رائعته "حيوا أهل الشام" لا تقِلُّ عنها جمالا ولا تنكر ولاءها
في رصدنا لتجربة محمد جعفر الأولى يمكننا أن نلاحظ الآتي وعيا شعريا بالصورة والإيقاع ودراما الصورة لا المشهد غياب القصيدة /الموضوع غياب الصورة / المدينة ونلاحظ عيبا تنسيقيا واحدا دمَجَ بعض القصائد بشكل حاد أحياناً
أخيراً هل تضمن تجربة المتاهة الشعرية لدى جعفر استمرار متعة القارئ دون أن يلهث بعد دورتها الأولي ؟؟ ربما .. ربما كان من الأجدى حضور القصيدة /الموضوع ، والمقام /الايقاع لكسر التداعي الحر الذي اختاره جعفر وذكره صريحاً
أما أنا فالسرَّ السّرَّ أقول لكم ابدأوا الطواف من قصيدة " الخريف" وعودوا إليها فلا تتوهوا أبداً
ديوان يستحق القراءة مرات عديدة، من ساعة ما جعفر كتبلي الإهداء من تلات سنين تقريباً وانا مقرر أسيب الديوان على جنب لحد ما ييجي وقته.
مشكلتي الوحيدة مع شعر جعفر، هي اللغة، دايما شايفها متعالية القارئ العادي ومش سهلة أي حد يفهمها، أسلوبه بشكل عام مش سهل ومحتاج قارئ مثقف وعينه اتمققت كتير وودانه بتعرف تفرق بين الشعر عيار ٢١ والشعر العيرة.
يحسب لجعفر جرأته في التجريب في وقت فيه أغلب شعراء العامية بينحتو بعض وميعرفوش يعني إيه تبني نفسك ويكون لك اسلوبك وبصمتك.
ال marker مفارقش ايدي تقريباً وانا بقرا، قصايد كتير كنت بعلم عليها بالكامل تقريباً، نزعة جعفر للصوفية واضحة اوي في قصايد كتير، اعتزازه بنفسه ومغامرته وغناه ومعدنه بيفوح من أغلب قصائد الديوان خصوصا باب الشعر، اللي أدهشني بجماله بشكل غير متوقع بالنسبالي.
صعبان عليا إن يكون ديوان متعوب فيه بالشكل دا، وفيه من شاعرية وفلسفة وفن يتوزع على عشر دواوين بيست سيلر، يكون حبيس الأدراج ومش مقري كويس، وكمان مأخدش حقه على مستوى النقد. ودا إن دل فهو يدل على تفاهة وضعنا الثقافي الحالي، وحال القصيدة العامية في السنين الأخيرة.
يمكن عشان شعر جعفر دسم ومش سهل، ومحتاج صبر ومثابرة، ويمكن عشان طبيعته الصدامية اللي بتخسره ناس كتير، وإنه بيقدس الشعر جداً وبيخاف عليه من الابتذال، يمكن حظه إنه مبيعرفش يسوق نفسه كويس، مش عارف بس دي كلها أسباب تخليني أقول هو ليه مخدش حقه.
أتمنى اقراه تاني بعين تانية، واتمنى اكتب عنه باستفاضة، واتمنى التجربة دي متكونش انتهت وماتت في بلاد البترول والسعي ورا السراب، وتحت أقدام اليأس والإحباط.