يُعيد فيه محمد مصطفى حلمي الاعتبارَ للحياة الروحيّة في الإسلام، بوصفها تحقيقًا أمثل للعقيدة الإسلامية الخالصة، الجامعة ما بين الرُّوح والعقل من جهة، وبوصفها الممثلَ الأصيل لمبحث الأخلاق في الإسلام من جهة أخرى، وذلك من خلال الرد على فريق المستشرقين الذين لم يمنحوها حقها من الدّرس والتمحيص، وأغلب الإسلاميين ممن انحصر جل همهم في تقدير قيمتها بميزان الدّين. وفيه يتتبع المؤلف الجذور الإسلامية لنشأة الحياة الروحيّة في الإسلام، ثم تدرجها وتطورها فيما بعد، انتهاءً بتحولها إلى مجرد طُرُق ودروشة فيما بعد القرن السابع الهجريّ. كما يُعَد الكتاب أيضا محاولة جادة لاستعادة نهج الشيخ مصطفى عبد الرازق في تكوين الدرس الفلسفي في الجامعة المصرية، ليفصله عن كتب الطبقات التراثية من ناحية، وعن مناهج المستشرقين التي نحَّت الجذور الإسلاميّة، وجعلت من التصوف الإسلاميّ محض ميتافيزيقيا من ناحية أخرى
جاء هذا الكتاب في قسمين : أولهما تاريخي يعرض مصادر المختلفة التي أستقيت منها الحياة الروحية الإسلامية سواء مصادرها الإسلامية أو المصادر الفارسية والهندية والمسيحية والافلاطونية الجديدة والتي كان لها أثر كبير وواضح خاصة ما سنراه من تغلغل لكل هذه المصادر في التصوف بعد أن جاوز مراحلها الأولى حتى بدا واضحا تجلي الزعات الغريبة عن الإسلام في كل ممارسات المتصوفة .والقسم الثاني فقدحاول فيه أن يدرس أصول الحياة الروحية التي وضعها أصحاب الرياضات والمجاهدات والأذواق ووضعها في إطارا التاريخي الذي عرف سمة تطورية عجيبة واحتكاك طويل ثم إنفصال تام بين مواضيع التصوف ومواضيع الفقهاء والمسلمين إلى ما ترتب عليه هذا التطور وتأثيره في الحياة الروحية والحياة عامة للمسلمين . ومن منطلق اشبه بالحياد يقف بنا الكاتب محطات عديدة في تاريخ تطور الحياة الروحية في الإسلام متمثلة في التصوف . ويمكننا ان نخلص بعد فراغنا من هذا الكتاب إلى أن القسم الأول حاول فيه الكاتب جاهدا رد التصوف إلى مصدر إسلامي بل نبوي خالص حيث أنه يصرح بأن البذرة الأولى للحياة الروحية في الإسلام ألقيت في قلب النبي (ص) متمثلة في مراحل تحَنّثِه في الجبال قبل نزول الوحي ، وكذا في زهد الصحابة وتقفشفهم وعزوفهم عن ما في الدنيا من بهرجات وزينة .ثم ينتقل في نفس المرحلة إلى نشأت طبقة أخرى عرفوا بالزهاد والعباد ، ومن خصائص هذه المرحلة طابعها التزهدي والتعبدي وخضوعها لسطان الحزن والبكاء نتيجة الخوف من عقاب الله ، وكذا تمسك أصحابها بالكتاب والسنة دون مخالفة لتعاليمها فمن هذه الطبقة كان الفقهاء والمفسرون والمحدثين ولعل أبرزهم رجالاتها إبراهيم بن الأدهم ، وشقيق البلخي ،والحسن البصري ثم تخلله نفحات من السيدة رابعة العدوية والتي لقبت إمامة العاشقين والمحزونين ، لينطلق التصوف في وجهة أخرى إمتدادا لما كان في القرنين الأول والثاني . ومن هنا حاول الكاتب كما أسلفنا إثبات المصدر الإسلامي لتصوف الزهاد الأوائل ، وإن لم ينفي تاثر التصوف بعد هذ المرحلة لمخالطة المصادر الاخرى كالفلسفة اليوناية والهندوسية والبوذية والفارسية .. واما التصوف فينحى منحى جديدا مع بداية القرن الثالث مع تطور الحياة الروحية ظهرت طبقة التصوفة والصوفية ويعود حسب العديد من المؤرخين إلى أن أول من سمي بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي (ت 150هـ) إلى هنا كان لا يزال التصوف في مبدأ خطواته لا يزال متمسكا بالسنن وعرف هذه المرحلة بموزاة تدوين الفق كعلم للشريعة فنحى المتصوفة كذلك نفس المنحى وعكفوا على تدوين مذاهبهم وتفصيل أذواقهم ومشاهداتهم " ثم إستحال هذا كله إلى علم جديد يعرف بإم التصوف له مناهجه ومنازعه ." غير ان المحطة البارزة التي طبعت القرنين الثالث والرابع واصة الرابع تمثلت في انفصال التصوف عن الفقه وتنازع الجانبين وظهورالمتصوفة الذي غاصوا في المنازع الماورائية والميتفيزيقية كالفناء والإتحاد بدا واضحا وواقعا في شخص كل من البسطامي والحلاج (309 هـ) والمحاسبي ، على أن أقوال هؤلاء لم تمثل كل آراء المتصوفة فآخرون كالإمام الجنيد .. ويبرز في القرن الخامس الإمام الغزالي (505هـ) الفيسلسوف المتكلم المتصوف وجهده في رد التصوف من جديد إلى حظيرة الاسلام والسن،وكان ينظر للتصوف وقتئذ على أنه زندقة وخروج عن الدين حتى كان الغزاي فسعى جاهدا يدعوا الناس إلى الرجوع إلى دينهم الصحيح ويرغبهم في التصوف وقد جمه بين العلم الغزير والإطلاع الواسع وكذا الرد والذود عن الإسلام من العقائد المنحرفة خاصة المسيحية والباطنية والفلاسفة ، وقد إشتغل بالتدريس والتعليم وكان زاهدا منشغلا عن الدنيا مقبلا على طريق التصوف ببصيرة الفقيه العالم لا العابد الجاهل ، وأتخذ من التصوف علما وعملا وتلقاه أهل السنة بالقبول والثناء فترك للإسلام إرثا عظيما وصنفا في شتى العلوم وترك من المصنفات "إحياء علوم الدين " والذي جمع فيه بين الفقه والتصوف السني فكان عدة المسلمين وسبيل هداية إلى الطريق المستقيم. غير ان اختلاط الفكر الصوفي بداية القرن السادس والسابع وامتزاجا مع الفلسفات الإلاهية والكلامية فتكلموا في الصانع والنبوات والشرائع وحقائق وجودية علوية وسفلية وانتقلت مواضيع التصوف إلى التكلم في الحجب الحسية و القول بالقطب والأبدال والتكلم في الحقيقة المحمدية وقولهم هذا مشابه لقول الباطنية في الإئمة والنصارى في المسيح ومن أبرز رجالات هذه المرحلة نجد في مقدمه محي الدين بن عربي (637 هـ)( بلا ال تعريف) وبن سبعين وبن الفارض وكان تأثر هؤلاء بمذاهب الإسماعيليين الباطنيين وعقائدهم كبيرا جدا كذا بالفيثاغورية والأفلاطونية فقال منهم بوحدة الوجود والإتحاد والوحدة المطلقة والتصرف في الأكوان والمجاهدة الموصلة إلى الكشف والحلول والإتحاد، فانصرفت عباداتهم ومجاهداتهم من تحصيل القرب والرضوان الى تحصيل السعادة والإطلاع على عوالم الغيب والتكلم بإسم الذات الإلهية كأقوال البسطامي والحلاج سالفا وأقوال بن عربي في وحدة الوجود ووحدة الأديان. ثم دخل التصو ف انهيارا بعد ازدهار وتقهقرا بعد تقدم ، ومع ظهور الطرق والمذاهب عرف التصوف ذلة بعد عزة وإنقيادا وإنصياع بعد حرية وسياحة في الأرض ، فالإلتفاف حول الشيخ أو المرشد وحالة الممريد كحال الميت بين يدي مغسله كانت قمة الإنحطاط الذي يمكن أن تصل إليه هذه الحركة فبظهورها ظهرت مارسات الشعوذة والسحر والإحتراق بالنيران وأكل الحيات والرقص والموسيقى المصاحبة للذكر . وانتقل بنا الكاتب إلى حالة التصوف بعد القرن السابع وتلخص دورهم على شروحات وملخصات على كتب الأقدمين .لم تزد على ما أتوا به شيئا يذكر. " كان التصوف حالا فصارا كارا وكان إستتارا فصار إشتهارا ، وكان إتباعا للسلف فصار إبتياعا للعلف ، وعمارة للصدور فصار عمارة للغرور ، وكان تخلقا فصار تملّقا " والميل إلى السيطرة على العقول والجري وراء الزلفى للسلطان والجاه ..وانصرف عن الطريق التي صنعها السلف وغايته السامية فحق عليهم قول ربنا '' ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا "
ألا ليت شعري: هل يرى الناسُ ما أرى من الأمْرِ ..أوْ يَبدو لهمْ ما بَدا لِيَا؟ أيمن/ الجزائر