صدر للشاعر والكاتب عبدالشهيد الثور كتاب في السيرة الذاتية بعنوان «أيام في ذاكرة الوطن» عن دار الصفوة في 192 صفحة من الحجم المتوسط، يمر فيه على تجربته الأولى مع محطات «السجن ومناورات التحقيق» والجدير بالذكر أن هذا هو الإصدار الثاني له في المجال نفسه؛ فقد سرد مسبقا حكايته الثانية قبل هذه الحكاية بعنوان «كان في السجن يا ما كان» وذيله برواية «سجين من رحم الحقيقة»، أما في هذا الإصدار الجديد فقد عاد إلى الوراء ليسرد شوارد تجربة سابقة «تقترب من عشرين عاما ابتدأها من عتمة رحيل السيد أحمد الغريفي 1985 ليقف في ليلة معتمة أخرى في الألفين مبديا استغرابه من استمرار زوار الظلام حتى هذه اللحظة الإصلاحية في 2001 والتي توقفت عنها الحكايات.
وفي حين ترك الآخرون لحكاياتهم أن تضمحل وينالها النسيان وتتراكم فوقها الذكريات، وتبقى حبيسة أمل بالكتابة والتوثيق في يوم من الأيام، ألحت على صاحبنا ذكرياته فلم يتركها تتلاشى أو تكون حبيسة المسامرات مع الأصدقاء وشاء لها أن تجري على قلم طالما براه في سعي حثيث ليقول شعرا أو نثرا ما يدخره من ذاكرة تقاوم النسيان كما قاومت السجان في يوم ما.
وفي المحطة الرابعة عشرة والتي عنونها بـ «فخ الأكاذيب» يسرد لنا إحدى حكاياته «قال: أين كنت في تاريخ 18 فبراير/ شباط الفائت؟ غصت في أمواج بحر ذاكرتي علني أجد شيئا. قلت له: لا أتذكر. هبطت إجابتي عليه بردا وسلاما كأنه كان بانتظارها. تهللت تقاسيم وجهه فرحا. قال: وأين كنت بتاريخ 15 أبريل/ نيسان؟ عبثا أحاول البحث عن ذاكرة تحفظ تحركاتي بكيفية ما يريدون...».
قال وأساريره منفرجة كقائد حقّق ظفرا على جيش عظيم: نحن سنذكرك بما لم تتذكره. من الجميل أن ذاكرتنا تتناسى الكثير، ويذهب مع كثير ما نتناساه كثير مما لا نود نسيانه. نحن بطبعنا نضع محتويات ذاكرتنا في الغربال، نصفّي محتوياتها كي لا تثقلنا وترهقنا بندوب لا تزول وفي النهاية النسيان نعمة.
قال: في التاريخ الأول كنت في اجتماع في بيت عبدالأمير الجمري. وذكر في التاريخ الثاني التقائي بشخص ما على ساحل البحر. في أمثالنا نقول «أقعد أعوج وتكلم عدل». وحضرة الضابط هذا يعمل بخلاف القاعدة تماما. يحاول اصطيادي بحشو الكلام وتلفيقه. راق له سكوتي يزودني من أكاذيبه، ولكن وشت بي ابتسامة صغيرة جدا طاردها في وجهي.
أدرك إحساسي بسخافة ما يقول، لكنه يريد ردا!... أجبته بلسان بالغ الحجة، إذ كلما كان خصمك كاذبا كنت أقوى لوجود الثغرات في جبهته. قلت: أولا لست ممن يرتاد بيت عبدالأمير الجمري. ثانيا: الشخص الذي ذكرت التقائي به عند ساحل البحر شخص لا هو ممن يشار إليه بالأنشطة السياسية، وهو ممن يتعاطى الخمر وليس لي علاقة بأمثال هؤلاء. فكل ما ذكرته محض افتراء لا غير.
أراد إيقاعي فأوقعته في فخ أكاذيبه. عقدت الإجابة لسانه، لكنهم لا يلقون أسلحتهم بسهولة فأسلحة الخبث والمكر والدس وغيرها بدائل. لابد من المكابرة، قال بحنق ظاهر: هذه أمور ثابتة عليك. يا ويلنا من هؤلاء يخاطبوننا بحجة القوي على الضعيف. كل حجة تأتي بها باطلة، وكل مدع منهم حق، فأين السبيل مادام خصمك هو الخصم والحكم؟
افترضنا ثبوتية ما قال. أين التهمة في ماورد؟... منذ تلك الأيام والجمري صخرة جاثمة على صدورهم وكل ما يواجهونه يعزونه إلى شخصه. الجلوس معه مغامرة والالتقاء به يشكل مؤامرة. الأحمق يأكل بالسكين عوض الشوكة وعندما يُجرح يكون المذنب طاهية الطعام أو صانع السكين. أكدت كلامي قائلا: لاعلاقة لي بكل ما ذكرت لا من قريب ولا من بعيد. كنت مطمئنا إلى هشاشة دعواه. إنه يحوم حول هدف آخر. كانت مناورة منه... لكنها مناورة هواة مكشوفة، أقفل الإضبارة الزرقاء وربت عليها عدة مرات وقال: كل ما في هذا الملف يدينك ويكلفك عقوبات تصل بك إلى أن لا تخرج من هنا مدى الحياة. كان صادقا، فبمثل هذا التلفيق من يستطيع قول لا؟!... لم يكن ذكيا بالقدر الكافي، لربما كان من آخر الناجحين في كليته.
الإضبارة لأول نظرة لها تلحظ على الأوراق المحشوة فيها أوراق بيضاء وجديدة، بل وليس مكتوب بها. مجرد ملء مساحة الإضبارة. أين يدرس هؤلاء؟... وكيف يصبحون في هذه المراتب بأداء ضعيف هكذا؟! أما النابغون فنصيبهم الحرمان والشقاء، ونصيبهم أن يدفعوا فواتير الفاشلين من راحة بالهم. كان عليه ملء الملف بالأوراق المأهولة بالكتابة ليكون الدليل ناهضا على الأقل. أخلص من دسائسه جهة ما، ويراوغ بكلامه طرفا آخر. أصبح كقطعة الصابون بأي طرف منها تضغط تفر منك، فهي ملساء تنزلق تحت الأيدي. أسرف في الترهيب غير المحكم عبر الكلام، سألني عن الجواز هل جلبته معي. سحبت الجواز من جيبي الخلفي بعنفوان التحدي، سحبته دليلا على هويتي، ويح قلبي هويتي تتقاذفها الأعاصير... مهددة بالسلب والمصادرة.
في الصباح التالي كانت الثامنة صباحا تعبر على جسدي عند بوابتهم. ساعات ثلاث سحبتني على دقائقها وثوانيها في حجرة الانتظار الضيقة. يقتلون وقتك بقتلك، ويقتلونك بقتل وقتك، إذا كنت رخيصا كان وقتك أرخص، حتى اكتفى من ذبح وقتي ومثلت في مكتبه أصطنع ابتسامة ميتة... وقال: لعلك فكرت ورأيت الإقرار بما صدر منك؟
في بداياتِ سوق الحويش كنتُ عندما أبصرتُه باحثةً عن كتابٍ إن لم أقتنِه الآن فلعلّي لا أحظى بفرصةِ ملاقاته في المستقبل، وأظنّه كان الكتاب المنشود.
اجتذبني اسم عبدالشهيد الثور على الغلاف رغم أنَّ كل ما سواه هو في الوضع الطبيعي عاملٌ يجعلني لا ألقي للكتابِ بالًا، فأوراقه الصفراء، وحالته التي تحكي عن طولِ فترةِ مكوثِه في المخازن أو كثرة انتقاله وتحريكه، وعن الأكف العديدة التي صافحته وما اشترته، كانت كفيلةً لِأن أغضَّ الطرفَ عنه، ولكنّه حنينُ الدمِ إلى الدم، فالاسمُ البحراني في السوقِ العراقيةِ كان براقًا.
أعرفه رادودًا ولكنّي ما سمعتُ له قط، فمعرفتي به كمناضلٍ وسجينٍ سابق تفوق الأولى رغمَ نقصها هي الأخرى؛ لذا كان لزامًا عليَّ أن أشتري الكتاب، فمن المعيبِ أن تبخسَ هؤلاء المجاهدين حقَّهم وأنتَ مشاركٌ لهم في الدينِ والأرضِ والوطن، وإنَّ أبسطَ حقوقهم هو أن تعرفَهم وتعرِّفَ الآخرين عليهم.
ظننتُ الكتابَ سيعيدني إلى فترةِ التسعينات وسأعيش تفاصيلَها بِعين الكاتب، ففوجئتُ بأنَّها مذكرات تتمحور حول استدعاءات الكاتب واعتقالاته ومواقفه المتكررة مع رجال الأمن، وهذا لا يعيبُه، فالهدف هو بيان مظلوميّة المواطن ومحاولات السلطة البائسة في إلباسه التهم وتجريمه والترصد له عند كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، بل واختراع الصغائر والكبائر إن أتعبهم البحث عنها.
نعم فوجئتُ بمحتوى الكتاب الذي ما وافق تطلعاتي، لكن الأسلوب الأدبي والوصف الدقيق وتمكّن الكاتب من اللغة كان أكثر ما أثار دهشتي وشعوري بالاعتزاز لانتمائي وإياه للوطن نفسه، فقلّما تقرأ كتابًا أو روايةً لكاتبٍ بحراني، وقلّما يكون هذا الكاتب متمكِّنًا وكاتبًا بحق. ولأني لا أذكرُ إن كنتُ قد اصطدمتُ ببعضِ الأخطاء أثناء قراءة الكتاب أو لا، فأظنُّ الأخطاء بسيطةً -إن وُجدت-، وإلّا كنتُ تذكّرتها، وهي هفوات إن نظرتَ إلى تاريخِ وسنةِ طباعةِ الكتابِ قد تتفهمها.
وددتُ في ختامِ الكتاب لو أنَّ تجربةَ الكتابةِ هذه تكبر وتتسع ويحذو حذوها المناضلون في زمننا هذا، فرغم تفضيلهم لأساليب النشر الحديثة عبر المقاطع المرئية والمقابلات والبرامج الصوتية، يبقى الكتابُ مسيطرًا وعابرًا للأزمان.
يأخذنا الكاتب في تفاصيل ذكرياته اليومية قبيل اعتقاله وما يشوب تلك المرحلة من مخابرات تحوم حوله لإعتقاله وما يواجه من تعذيب من قبلهم و يستعرض لنا قصصه التي حدثت معه بإسلوب بسيط و لكنه مؤثر ليجعلك تعيش معه تلك التفاصيل بحذافيرها وتتألم معه .. توجد بين دفنات الرواية حلقة من الوصل تجعلك تسير مع الكاتب في أحداثه ...