ما يكتب اليوم بالعربية على أنه هايكو، يفضل توصيفه، كما أرى، بكلمة: تغريدة، وجمعها تغريدات، أو تغريد وجمعها تغاريد. وهي كلمة ذات بث إيجابي في الدلالة والرنين على طريقة الهايكو بشكل من الأشكال. وهذا ما حاولت قوله، وشرحه وتقديمه، في مشروع "ديوان الشعر العربي الجديد" بأجزائه الخمسة وبالأجزاء القادمة. ولم أتجرأ مرة واحدة على توصيف تلك المقاطع والتغريدات بأنها هايكو. لكني ادعيت أنها تجاول الاقتراب من روح الهايكو، وادعيت أيضا أنني وأنني.. ولكن.
يبدو لي أن الهايكو، على صعيد اللغة العربية، يشكل إغراء للكتابة فقط لأنه نص قصير ويوهم، من حيث الظاهر، أنه لا يحتاج إلى أية براعة لغوية. أضف إلى أننا نستظل بكلمة غريبة، ساحرة، مشهورة عالميًا، وبالتالي لها مالها من الحماية والدفاع الذاتيين، ولكن هذا خطأ ويقود إلى أخطاء أخرى,
شاعر سوري مقيم باليابان ولد في قرية (رويست العجل) على الساحل السوري، والتي تبعد عن مدينة جبلي حوالي ثلث ساعة أو ربع ساعة. حصل على شهادة في اللغة العربية من جامعة دمشق ثم اتسع ولعه ذاك ليشمل الفنون الكبرى للغة الشعر والنقد والترجمة. كان مولعا بالشاعر الفرنسي شارل بودلير وبديوانه الشهير أزهار الشر ومن أجله شد الرحال إلى فرنسا وأقام ودرس في عاصمتها على حساب أبيه حتى حصل على الدكتوراه، والتي عاش متنقلا بعدها بين باريس والجزائر شاعرا بوهيميا تارة ومدرسا جامعيا تارة أخرى. ذهب إلى اليابان سنة 1990 كأستاذ لتدريس اللغة العربية لطلاب جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، وقد استقر به المقام هناك واستقر بها.
الهايكو شعر ياباني معناه الحرفي: استخدام الكلمات بدلالتها الظاهرة الواضحة وبدقة، من غير لفٍّ أو دوران إلى حدّ الطرافة والفكاهة.
يعتبر من أشكال الشعر الأشدّ التصاقاً بالروح اليابانية، يتميز بالقصر والإيجاز، ولا يوجد به أي معنى عميق أو اسقاط فاليابانيّ -على ما ورِد في الكتاب- لا يعرف التأويل ولا يرى في الشيء إلا الشيء نفسه.
للهايكو طريقة كتابة معينة، وهناك شبه إجماع على احترام هذه الطريقة أو القاعدة الذهبية، يتكون من ثلاثة أسطر وفق مقاطع صوتية محددة العدد، حيث تكون قراءة الهايكو الواحد بنَفَسٍ واحدٍ خفيف.
كل هذه المعلومات عن الهايكو ورِد ذكرها في المقدمة الطويلة للكتاب التي كانت ضرورية لفهم هذا الشعر الجميل.
أشهر هايكو في اليابان كان من كتابة باشو
" يا للبِركَةِ العَتيقةِ
يَقفِزُ ضِفدعٌ
ويَترَدَّدُ صَوتُ الماء "
نقل باشو بشكل حياديّ وواقعي حَدث جرى أمامه، رسم بالكلمات منظر طبيعي عادي وبسيط جداً لا يقصد به سوى ما كُتِب عن بركةٍ وضفدعٍ قفز ليُسمع صوت الماء بسبب الهدوء الشديد.
وهذا هو الهايكو، احتفاء بالهدوء وسط الطبيعة. بوجهة نظري ومعرفتي القليلة عن اليابان، هذا الفن الشعريّ الجميل مناسب جداً للثقافة اليابانية ولطبيعة اليابان الهادئة.
كانت قراءة الكتاب ممتعة جداً، أعجبتني العديد من الأشعار الموجودة، وعديدٌ آخر تعجبت منه وآخر لم أفهمه حقاً، برأيي مدى فهمك للهايكو مرتبط بمدى معرفتك عن اليابان كون هذا الفن الشعري مرتبط ارتباط وثيق باليابان.
يفتنني الهايكو، حقاً لا بلاغة، يأسرني، أنا التي أحب في الكتابة الهذر والحشو وتكرار الفكرة نفسها والكلمة ذاتها آلاف المرات في نصٍ واحد، أنا التي يُعذّبني أن أوجز، بثلاث مقاطع فقط يحكي تأملاتٍ وأحزان رقيقة عذبة مُعذّبة، تتراءى لي فيها المشاهد والمواسم، وأكون في البحر أو على القمر، أكون ذبابة أو كاميليا متساقطة أو غصن برقوق أو كرسي خشبي. أتخيل أنه من ثلاث مقاطع هايكو عادية يمكن أن يصنع فيلم يستمر لساعات وساعات، وأنه يمكنني مشاهدته بلا كلل أو ملل.
أحببت إرفاق المترجم للقصائد بلغتها الأم، هكذا أمكنني أن أجرب تهجئة كل منها واستشفاف معانيها بيابانيتي المتكسرة.
"في صوت تساقطها نفسه تتساقط الورود." -ناكامورا تييجو
كم من الصعب أن نرى الحياة كما هي، دون تشابيه، دون مجازات، دون معانٍ ضمنية ورسائل كونية مخفية، ثم كيف نجد المعنى الغامض تحت هذا الكم من الوضوح. أحسب أن الهايكو هو المقاربة الأفضل وسط هذه الازدواجية.