"ليلاً… لا تُعِدَّ فِرَاشًا وَثِيرًا لأَفْكَارِك، هِيَ لا تَخْلُدُ لِلنّوْم.. تَبْقَى مُتَيَقِّظَةً.. تَعْبَثُ بِك، تُمَارِسُ اليُوغَا وَتَلْعَبُ الشّطْرَنْج فَوْقَ جُمْجُمَتِك.. تُخَطِّطُ لِهُجُومٍ مُسَلّحِ عَلَيْك.. أَيّهَا المِسْكِين ذات صباح كانت "أمينة العربي" تستعد لتكتب شيئا عظيمًا عندما ظهر فارسٌ تحت نافذة بيتها ليخبرها أنها ستذهب معه في مهمّة مصيرية!!
وأخيرًا، كُتب لهذه الشّابة الفتيّة التي أتعبتني كثيرًا أن ترى النور في شهر سبتمبر، شهر ميلاد أمي الغالية أيضا جاءت وحملت معها كل الأفراح التي يحملها طفلٌ صغير، كانت ولادة عسيرة لكن رؤيتها أخيرا أنستني كل آلامي وأحزاني وعذاباتي شكرًا سبتمبر لأنك شهر الذين أحبّهم
لم أتعب منه حقاً، وإنما تعبت من الأصوات التي تضج بداخلي؛ لأنني مثل كل العرب، أخاف من الحقيقة!
صباحاً وحين كنت أقرأ آخر جزء من الرواية وأعاتب عينيّ اللتين أغمضتا رغما عني: قلبت الصفحة إلى الفصل الحادي عشر؛ ليفاجئني الأمر: ليس الوقت مناسباً لتسأم، لا تتثاءب، اشرب قهوتك وَ "صَحْصِح معي"... إلخ.
ثم يأتي صوت بائع الحليب، ثمّ "زِيْــــــــك" الطويلة التي يصدرها شباك الجارة الخشبي حين تفتحه صباحاً، تليه نقنقات فراخ العجوز الساكن في قبو العمارة، بعدها ينسرب صوت البقال يدلل على الأجبان التي تصنعها زوجته، أصوات تأتي مختلطة ومتداخلة عادة، لا أدري اليوم لماذا تتابع وكأنها نوتة موسيقية أدرك ما تعنيه كل قطعة منها، إلا سباب الأطفال الذي كان يجيء مثل نشاز الفن المعاصر، الأدب المعاصر، القيم المعاصرة... الـ ... ضع أي شيء مكان النقاط الثلاث الأخيرة وأتبِعها بكلمة (المعاصر) وسأثنّي على اقتراحك!
سأخبركم شيئاً بصراحة،
أنتم – وجميعكم - لن تحبّوا هذه الرواية، أراهن على ذلك؛ لأنها تفضح كل شيء... إلا إذا كان قد تغيّر معيار حب الناس للأشياء، وأراهن مرة أخرى على أنه - حتى هذه اللحظة على الأقل – لم يتغير.
هل ظننتم أن العنوان "الرومانسيّ جداً" هو طاقة ورد يحملها عاشق ويقطع آلاف الأميال لينقذ حبه من الموت؟ مخطئون، الرواية ليست عاطفية إطلاقاً، إنها تحارب العواطف المستفزّة التي يضجّ بها عصرنا العجيب!
سوف تشعر مبدئياً بأن كل ما تقرأه الآن حقيقة، ثم فجأة... تسقط من قمة خيالك على واقع أنك تحلُم، وأنت الواثق تمام الثقة بأن هذه الفتاة تهذي، تسترسل في هذيانها، وترقص ثملة وحسب، تفكّرُ للحظةٍ في تبليغ أقرب مشفى عن حالتها.
يا للشقاء يا أصدقاء، كيف صار الحق في الحياة تهمة!
هل عرفتم الآن عم تتحدث الرواية؟ ليس بعد؟
إنها تتحدث عنّا، بكل جرأة!
ها هي تتحدث عن المهام المستحيلة، عن تنظيف الشبابيك – مثلاً - كمهمة مستحيلة، لا أعني تنظيف زجاج نوافذ البيت تلك المهمة يمكن أن تؤديها بمهارة أقل (الفتيات الصانعات) كفاءة، إنما أعني نوافذ الأفكار، نوافذ الإحساس، نوافذ الحياة، النظر النقي، القراءة الذكية، الرؤية الثاقبة، الأفق الرحب، القيود الوهمية، الذهن الشجاع، والمرآة الصادقة!
تشعر للحظة بأنك في حضرة سوق الموت، لشدة ما تصرّ الروائية على أن كلُاً منّا – بلا استثناء – حتى أنت، كائن "أهبل" لا يهمك أن تعرف من أي أتيت، لا يعنيك ما يحصل معك أو ما يدور مِن حولك، لا شأن لك بالقادم أو بالغاية التي ستنتهي إليها، كل ذلك يديره آخرون مغرضون ممَن حولك وأنت تترنح، لا تزال تترنح، وتدندن مخموراً: "خدني معك على درب بعيدي"
مرة تجد نفسك في حي شعبي مصري، مرة ثانية في سكن طالبات عربيات في دولة نائية تتقاسم فيه النزيلات كل شيء - إلا المودة طبعاً - هذه المرة لن أقول "بلا استثناء" فمثلاً حين تطلب إحداهن مشط الأخرى؛ لأنها أضاعت مشطها مؤخراً ولم تدر في أي زاوية انحشر المسكين ضمن الفوضى المسيطرة، أو في أي كيس قمامة قرر الرحيل هرباً من شعرها الذي أكل عليه الإهمال وشرب حتى تجعّد وتقصف...
(المشط الهارب) ممم إنه عنوان شهيّ لفكرة قصة جديدة، هكذا تفكر فتاة ثالثة من بين النزيلات في كتابة قصتها الجديدة، بينما تلقّط الأفكار لأعمالها القادمة من حنق ونزق وخناقات الصبايا الأخريات...
هكذا تماماً... لا تحس إحداهن بزميلتها ولا تشاطرها المودة أو تتعاطف معها مطلقاً، لدرجة أن تتقاسم قصة عشق وليدة عبر "واتس آب" بالتحديد مع الفتاة التي سرقت عشيق زميلتها النزيلة، في ذات الوقت الذي تربت فيه على كتف النزيلة الزميلة – يفترض أنهما مقربتان - محاولة تهدئتها بعد أن تركها عشيقها وفرّ مع أخرى.
هل مللتم من الوصف؟ حتى أنا مللت؛ لأنه صورة للواقع، وقد غصنا بما فيه الكفاية في قرف الواقع!
عوالم تدوس الأحلام البسيطة لتصعد، أحلام (أسامة) و (أمينة) وأحلامي وأحلام صديقتي الكاتبة، مع ذلك ظلّت عوالم ناقصة، وقد تمنيت لو أنني وجدت عالماً مكتملاً مؤثثاً بالشكل الذي يليق بحياة شبه مكتملة، لكن، ظلّ كل عالم مقضوم الطرف كتفاحة (Apple) إحدى آخر صيحات التكنولوجيا التي يلهث وراءها العالم، والناس الذين أعد نفسي إحداهن.
في بؤرة النقص وفي المكان المقضوم تحديداً كانت بلورة تدور وتعكس أفكار الانحدار المخيف في الثقافة الجمعية للمجتمع العربي، تعرض فيلماً متصل الأحداث، تسرد: كيف انسلّ المجتمع شيئاً فشيئاً من لغته، عاداته، أخلاقه.
كيف تقف إحدى الفتيات بوقاحة لتخبر من وراء الكاميرا الغشاشة أنها تصرف للعناية بأظافرها مقدار ما تصرفه تسع عائلات في العالم السفلي، خلال شهر كامل، وعلى كل شيء، كل شيء المسكن والأكل والتعليم والملبس والشرب والتنظيف... بإمكانكم أن تقدّروا ما تحتاجونه خلال شهر!
كيف دخلت ثقافة الجمال المشوهة، ومقاييسه وتحديد كل شيء فيه فسحة ومساحة، كيف فُرضت المقاييس والأطوال والأوزان والأحجام... كيف تسللت تقليعات غريبة مثل: تقشير الاكواع كيميائيًا، فرد الشعر الأجعد، تغيير الأشياء التي كانت لطيفة على طبيعتها، أو منع التعرق وتنظيف الإبط من اللون والرائحة.
ألا يرى هذا العالم أن رائحة بعض الأخلاق تصبح نتنة مثلاً، وبعض عوالقها تحتاج إلى النتف بعناية، ألا يرى كيف أن بعض الشوائب العالقة بالعقول تحتاج للتقشير والاستئصال ولو بكتاب واحد... أو أن القلب والعقل يحتاجان للتضخيم أكثر من غيرهما!
كيف فهم هذا العالم الانفتاح، كيف فسّر السير إلى الأمام، كيف تشرّب الحرية بهذا القدر من التشوه، كيف انفتح هذا العالم ليتماهى شيئاً فشيئاً، كيف أصبح لزجاً ثم أكثر لزوجة، هلامياً... ثم تلاشى!
هل تقولون إنه لم يتلاش بعد؟ ربما!
لكنه أصبح يشبه المخاط الذي ينفضه الجميع، أو كالماء الملوثّ الذي هو أصل الحياة لكن الجميع يتخلص منه!
في الرواية تشعر مثلاً بأنك في حضرة فوارس الزمن الأول كله من العهد السابق للبداية، ومؤسسها، وقبل الأخير/ الأخير الذي وصلتَ إليه، تشعر بغصة التفكير في: لماذا كلما تقدّم الزمن قتلتنا الأسئلة وضيعتنا المتاهات؟
لكن،
هذه الشخصيات المبهرة التي كانت تعتقد البطلة أنها شخصيات "مريخية جاهلية"، أجزم أن تسعين بالمائة من بنات هذا الزمن يتمنين أن "يتحشّرن" في ثيابهم، وأن يحملن أسماءهم... أما العشرة بالمائة المتبقية... هن صويحبات "البديكور واللوي فيتوو وشرائح السليكون!"
هذه الشخصيات النادرة والمستحيلة هل وجدت في أزمان لا تليق بها؟ أم أن تسعين بالمائة من بنات زماننا لا يعرفن طريق السعادة التي تبتدئ بغمزة رجل من زماننا المائع؟
هذه التوليفة التي لا توجد إلا في أخيلة المجانين!
وهذه الرواية، رواية ساخرة، تشعر بأنها تمد لسانها لك هازئة كلما قلبت صفحة جديدة أو انتقلت إلى فصل جديد... لكنها غريبة فعلا غريبة إلى درجة أن تعتصر روحك دموعها وتنتحب حواسك ويبكي كل جزء فيك وأنت ترى الحقيقة، لا تستحق حتى أن تشعل عود ثقاب لتحيلها رماداّ!
هذا النوع من السخرية الذي يجلب الضحك المجروح إلى حَنجرتك المشروخة بشهيق روحك: إنها سخرية المُتنبي: "ضحكٌ كالبُكا"
هل فوجئت بأن حياتك التي تؤثثها بعناية، ليست سوى مشاع للسخرية، إنها ربما حتى لا تستحق أن تكون حلماً، بالأصح (كابوساً) تبصق عن يسارك ثلاثاً حين تستيقظ منه!
لقد فكرت وأنا أقرأ الرواية، بأنها ليست برواية، إنها أُمة جاءت في هيئة امرأة تشكو مغتصبيها بنحيب صامت... ثم أخذت تتعرى ظنًا أنها تفيض إغراءً، بينما كانت تفضح بؤس تفاصيلها، وترهل جلدها، وندوبها، شيئاً فشيئاً!
لكنني لا أنكر أنني ضحكت أكثر من مرة بينما كنت أقرأ الرواية، ضحكت ولكنه "ضحك كالبُكا!"
العزيزة/ مُنْجِية
لقد حان وقت سؤالي لكِ وقد غامرتِ لإيقاظ الضمير، واستعادة الشرف، وتحريك النخوة: ألا تقتضي المغامرة وجود الشرف والنخوة والضمير أصلاً؟
وكما تقولين دائماً: "هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه أرضًا، ويخبطها على الحائط، ويرمي بها من أعلى جسر عالمي!"
إنه فعلاً أمر يدعو للضحك، أن يفعل ذلك أحد، وطبيعي أن يتهم بالجنون أيضاً، فحتى أنا يبدو أنني سأتضامن مع (منى) والبقية وأقلب الطاولة ضدك، الآن فهمت بينما أضحك ودمعتي جارية لماذا كانوا يرون (أمينة) مجنونة!
إنني سأصارعك كأسامة والآخرين: "صديقتي أنت تفسدين كل شيء بتأويل الأمور بطريقة غريبة ومملة، حاولي أن تعيشي حياة طبيعيّة، توقّفي عن التحليق"
حينَ سمعت كلمات ناشزة مثل الضمير، الشرف والنخوة، لا شك أنك سمعت خطأ، فالموجود يا صديقتي للأسف: الحمير، الترف، والنشوة!
أقول: في المرة القادمة سأهديك "نكشات أذن قطنية"
هل يسرّك فعلاً أن تخرجي من السجن بحماس مقضوم؟ ابقي حماسك جميلاً وتحمّسي للتقشير الكيميائي للكوعين والفخذين والإبطين، أليس ذلك مستحِق؟ آه... التشقير أيضاً يستحق المغامرة، ليست كايلي ومادونّا وشقراوات الإعلام أحق منك بالبروز، فالبروز الصناعي أو الطبيعي هو من حقك في كل الأحوال.
أنت شخص يؤمن بأننا نتعرض لمؤامرة، كأننا مهمّون مثلاً... أخبريني: من نحن ليتآمر علينا غيرُنا؟ نحن دمويون، مرضى، وعديمو الثقة بأنفسنا، فشلة، ضائعون... أيّ هراء تعتقدين؟ ربما تكونين جزءًا من مؤامرة، ومن مصلحتك أن تروّجي للمؤامرة!
ها أنا من جديد ضحكت بينما أرى الواقع يبدو كالنكتة، كيف تتجول زميلة لنا مع شاب زنجي يرتدي أثواب غريبة، وتقول إنه فارس جاهليّ، أيّة متعة خلّبية أوصلتك إلى هذه الحالة؟
ثم أخبريني: ماذا قدم الجاهليون ليوفدوا إلينا كبير منظريهم؟ لقد قدموا دماءً وحسب...
وبالمناسبة: عليكِ أن تضيفي إلى مرضيكِ (الببليومانيا والببليوفيليا) مرضاً ثالثاً اسمه (فيوبابوسايدفزيا) هذا المرض أنا اخترعته وحددت مكوناته وأسميته بهذا الاسم، ومعناه: السفر بالخيال إلى الأزمنة السابقة؛ للإتيان بأفكار مستحيلة تثير الفوضى والشغب في محيطنا المثالي!
رواية متميّزة جدّا لأصيلة وادي ريغ الجزائرية "منجية"، هنيئا لنا عملك الثّاني الذي لا يقلّ جمالا وبهاءا على "من بعيد أجمل"، بل أراني أمام تجربة سردية ناضجة جدّا تستحقّ الاحتفاء والمتابعة. صدقًا أدعو كل المهتمين بالسّرد أن يُقبلوا على هذه الرّواية قراءة ودراسة... .
يخبئ في جيبه قصيدة، عنوان جميل قد لا يعكس موضوع الرواية وأفكارها الأساسية، إلّا أنّه يشير بوضوح إلى هوس الكاتبة بالشعر وحبّها لبطلي روايتها وتغنّيها بقصائدهما (المتنبي وعنترة ابن شداد). هو اكتشاف جديد لموهبة شابة قوية، “منجية إبراهيم” أو كما سمّت نفسها في الرواية “أمينة العربي”، مرهفة الحسّ، ضائعة في تناقضات الحياة ومفارقاتها، بين الحب والجمال والسخط من مظاهر التميّع وفقدان الهوية، كيف تُسمى الأشياء بغير مسمّياتها، وكيف تكون الحياة في أٌعلى درجات قسوتها، فنتوقف مدهوشين، هل هنالك شيء أسوء من كلّ هذا؟ تابع قراءة المراجعة: https://goo.gl/aoEB3A
هذا الابداع الحقيقي وهذه اللغه الجميله وهذه التراجيديا المؤلمه لواقعنا والمذهله لهذه الكاتبه التي جعلت من قلمها فضاءا خصبا بالابداع تستحق النجوم الذهبيه الخمسه ..تستحق ان تزين مكتبه كل فرد ..فقد كان الصخب جميلا