لا حياةَ في الجبالِ بعد رحيله، المطرُ لم يأتِ منذ فترة طويلة، غبشٌ في الصور بسبب الغبار العالق الذي لا يريد النزول ولا الصعود، متشبِّثٌ بالتضاريس والهواء. لا تكاد ترى حياة هناك، لا طيورَ جارحة، لا رفرفةَ حجل، ولا صوتَ لأبي معول، لا ضحكاتِ وبارة تتردَّدُ في صدور الجبال، ولا نقيقَ للضفادع في غدران الشِعاب. السقيفةُ مبقورةٌ، باردةٌ بلا دفء، المكانُ يشتاق لمداعبات الأحبَّة في لحظات الصفاء، الموقدُ يفتقدُ حرارة الجمر، ورائحة الخبز، الوحشةُ هي الساكنُ هناك، الساكن الذي يبغض الحياة. "الصِفِر" هو ما تبقَّى من المواجهة بين فردٍ ضعيفٍ، وقوةٍ موجَّهةٍ لا تشعر، الصِفِر المبثوث القادمة من نحاس الأرض يرغب في العودة إلى قلوب الصخور بدلاً من رؤوس الناس، وقلوبهم. "الصِفِر" بعد أن تخلَّص من رؤوسه عبر حلوق البنادق، بقي جثاثًا صفراءَ، لا حياةَ لها سوى البريق الذي يحدثه النجمُ الكبيرُ، البريق في الصدوع، والجباه، على الصخور، وأسفل جذوع الشجر. "الصِفِر" جثثٌ أخرى في المعارك، فراغٌ مرعبٌ محروقٌ داخله، بعد أن كان يحبس الدويّ والاشتعال، والموت. الموتُ في الطرف المقابل، موتُ البشر، أو موتُ المعابر سحلاً فوق الصخور، أو بردًا في سماء الله.
لا أحب أن أكتب مراجعة لما أقرأ من كتب. الرائعة منها لا تنتظر تقييمي ومراجعتي، بالتأكيد ستجد طريقها لقلوب آخرين يصفونها بشكل أفضل. أما الضعيف وما لا يعجبني فربما يكون السبب في ذائقتي لا أكثر، ونقدي ربما يصد شخص ما عنها كان سيجدها ملهمة له لو قرأها. ولكني أقدر بشدة مراجعات الآخرين للكتب، وأعتبرها دليل ملهم بالنسبة لي كي أختار ما أقرأ. هي حالة غريبة لدي لست فخور بها، أعلم ذلك..
هذه أول مراجعة لي لكتاب ما في قوودريدز، وأنا هنا منذ سنوات وسنوات. (الفيومي) عمل بديع بحق. حجم تعاطفي مع عطية فوق كل الحسابات. حب الحياة، حب البساطة، صدق النوايا، كره الظلم، قهر الرجال،.. عناوين بارزة. عندما تهرب من كل ذلك الضجيج بحثاً عن ذاتك، تعلن استسلامك وهزيمتك أمام حياة متوحشة وتطلب اللجوء للجبال، إلى قريتك. ولكن نوائب الدهر ترفض أن تتركك ترتاح، تطاردك حتى آخر لحظة وكأنها تريد الإنتقام منك، وأنت لا تعلم بالفعل لماذا..
كأس العالم لأدب الجبال بالطبع هو لرسول حمزاتوف (بلدي). في السعودية يعتبر الكثير"ساق الغراب" و "الحزام" من عيون روائع روائيي جنوب السعودية. لا أبالغ إن قلت أن الفيومي تزاحمهما الصدارة. ماذا فعلت بنا يا طاهر!؟
الجبال لها حميميتها الخاصة، جمالها الشامخ، صرحها الأبي، والخيال يعمل جيداً حينما نكتب عن هواء الجبل وأنين السكون وخلابة المنظر هناك، واللحظات التي لا تتكون إلا في قمة الجبل.. حيث يكتب طاهر قصة جميلة، أسلوب شفاف ولقاء عذب ونص يبعث على الدهشة والغرق في السرد البسيط الهادئ، الجريء، المتعمق في تلك الأراضي والجبال المحيطة، الوصف هنا جميل والأحداث سريعة والمشاهد لطيفة مركزة، تبعث على الهدوء وتغري بالتسلل نحو جمالية النص، قصة الحب والدم، الوطن والأرض والقبيلة، قصة الصيد، قصة الغدر، التعب من ضجيج المدن، السير حثيثاً نحو أرض الروح، النقاء، الجبل المغترب، الرغبة في البقاء والمكوث في رائحة الماضي العنيد، قصة الغربة والكمائن، الجحود والضعف، قصة الجنون والضياع في أرض خلابة مدهشة، حيوانات وبيئة عذراء وتجوال ورحلة نحو القمم، يكتب طاهر عن أشياء كثيرة في هذه الرواية، عن العنصرية والتعالي وأعراف القبيلة التي لا تعترف بأي غريب، أحببت أجواء الرواية، أحببت الصفاء فيها والشفافية، والهدوء والقدرة على استكشاف الحكاية من خلال تدفق النص السلس..
أحببت قلم طاهر هنا ويعجبني ما كتب عن الجبل، وسأعيد القراءة له بلا شك..
منذ أمد وأنا عازف عن قراءة الرواية؛ وقد كنت لا أدخل مكتبة إلا واتجهت إلى ركن الرواية فيها وغرقت هناك، واليوم لا ألتفت إليه. لكن رائعة المبدع طاهر الزهراني (الفيومي) أسرتني من أول حرف. عندما حسم عطية أمره وترك أكوام الإسمنت والطرق المسفلتة وكل تلك الخرسانات الخالية من الروح وعاد إلى روحه/قريته/جباله. لم يقف طاهر بقارئه على أبواب القرية؛ بل ولج به إلى روح الجبال ونخوة القرويين وعقولهم المتخمة بالإباء والحريّة. أنطق طاهر الجبال والأحجار والأشجار بل حتى الوبر الذي تترصد له رصاصات الصيادين كان يتحدث في الرواية. قبل كل شيء، أسرتني اللغة عند طاهر. ذاك الثراء من المفردات والتراكيب وسحر الوصف الذي يعجز أمامه مثلي لبيانه. كيف استطاع طاهر وصف استناد غالية إلى جذع عطية (كهلال يؤوي نجمة)؟ أما وصفه لإعداد عطية الشاي لحنش فأمر كنت أراه رأي العين، ولعمري ما كان طاهر كاتبا هنا بل كان مصورا ومخرجا في آن واحد. أعجبني حسم عطية لشأنه كله؛ فلم تأسره المدينة وذلها، وطرد هيّاسا عندما خولت له نفسه طلب استرداد أخته، وغير ذلك مما لا أريد بتر مساحة القارئ مع هذه الرواية الساحرة. الحرية في الرواية هي أول خطواتها وآخر قطرة من دمائها، إباء عطية واعتزازه بنفسه يتسامى حتى على الحب نفسه، ذاك المعنى الجميل الذي يرى فيه كثير الانكسار رأس الشموخ. لكن عطية يأبى أن ينحني رأسه حتى لـ(غاليته). هذه الرواية آسرة ومؤلمة، كان السرد فيها عبقريا أعاد للحكاية مجدها. ولكن الفصل الأخير كان شيئا يفوق الخيال والوصف ، كان لوحة اختلطت فيها الألوان بالدموع، والأساطير بأصوات الرصاص، والتاريخ بالحكاية، في مزيج قلما قرأت مثيلا له. شكرا طاهر...شكرا لقلبك وقلمك ولأبناء المدن أقول: عودوا إلى جذوركم والعنوا الخرسانة بملء ألسنتكم
حكاية " عطية الفيومي " تاركاً وراءه وظيفةٍ في طريقها للنمو ، وأبويه وحياة المدن الفارغة ميممًا إلى الحد الجنوبي السعودي تحديدًا شعاب " الفيوم " ، نسبةً إلى أم جدته الفيومية المصرية ، بقطيع من الغنم وبقرة حمراء وحُلم بحياةٍ جبلية هانئة . يحتضنه الحظ الطيب والدعوات الصادقات والحب ثم تشتعل حياته بنار الحقد والطبقية وتنتهي .
جميلة وإن لم أندمج إلا في المنتصف تقريبا، جميلة وإن أزعجتني الحوارات العامية التي عجزت عن فهم بعضها.
رواية تتجذر بأصولها عبقآ بماضي جميل وحاضر مؤلم....أتقن فيها الكاتب وصف الحال الذي إستمده من إرثه الثري وحاضره الفقير ... لا أجد شخصاً يصف الجنوب بثراء ودقة مثل طاهر ،كما أن بعض الإسقاطات التي عرج عليها عن ما آل إليه وضعنا الحالي صنعت فارقاً محسوباً له وصنعت بطولة ل (عطية) فارس هذا النص ... السرد الرافض بدهاء والمتمرد بذكاء يرفع صوتاً للمستقبل القريب ... رواية تستحق الثناء
رواية جنوبية زهرانية بإمتياز! ما أروع الغوص في تفاصيل الحياة داخل القرية، هذه الرواية التي أعتمد فيها كاتبها على بعض المراجع تحكي قصة عطيّة الفيومي ذلك الشاب الذي أنزوى في قريته هاربًا من صخب المدينة ليتزوج الجميلة غالية ابنة شيخ القبيلة بعد مسابقة في الرماية لتبدأ معها تلك الأحداث التي أبدع الكاتب في سلاسة سردها و الحرص على نقل تفاصيلها
قصة عطية والجبل وفقدانه لكل شيء انتهاء بعقله....انبهرت بحياة القرية في الجنوب السعودي الذي لم أعرف عنه أي شيء قبل قرائتي لهذه الرواية...
عندي تحفظاتي بالطبع وبالذات فيما يخص تناول الكاتب للحرب مع الحوثيين والمشهدين اللذين لم أقرأهما لعدم جدواهما الأدبي... ولكن الشخصيات كانت حية وثرية وعميقة, وأثرفي ما مر بكل منها, وهذا أمر يحسب للكاتب.
رابع روايه اقراها للأستاذ عن قصه عطيه وعودته لقريته \ سبق وكتب الاستاذ روايه عن القريه و العوده للجذور في *روايه نحو الجنوب * وكان عمل جيد الفيومي اقل ع مستوى القصه \ الحبكه و السرد وممله كان فيها خطوط لو كتبت بشكل افضل بيكون بصالح النص حكايات الجده \ الصراع مع اخ غاليه و القسم التاريخي للقريه الغلاف جميل جدا
(النفس دون المبادئ) هذا ما كان يكرره عطيه بين السطور
١٨٠ صفحة، قطع صغير ، ممتعة عميقة وجيزة ، لي عليها مآخذ ، بعض الإيحاءات كان يمكن تفاديها و سيبقى مستوى الرواية ممتاز بدونها ، لكن لعل الكاتب اختارها في الرواية ، الرواية تستحق القراءة وخصوصاً من أهل الجنوب حبايبنا♥️ ،
الروايات عن جنوب المملكة دائماً جميلة توصية بسيطة لمن تعجبه هذه الرواية عليك قراءة رواية ( الحزام ) يا صديقي
عمل يمتزج فيه الماضي بالحاضر، ويتفقان على المستقبل. فكرة العمل مبنية على الأصالة، أصالة المكان والنسب والانتماء والأخلاق. لا أقول أنني قرأتها بل أأكد أنني سافرت معها إلى الجنوب، وتعرفت على شخصية عطية، وعلاقته بالبيئة الجنوبية، التي كتبت بحرفية جيدة. وهياس الشخصية الشريرة متقنة الصنع. وطبعاً غالية الجميلة. شخصيات ستظل في الرأس مدة غير قصيرة. رواية تضج بحياة الجبال ورهبتها ووفرتها ومخاطرها وتنوع نباتاتها وحيواناتها والصيد والعسل.. كل شيء أخذ حقه في عملية الوصف. وتصور عادات أهل الجنوب وتقاليدهم وكرمهم الذي يتميزون به في شبه الجزيرة العربية. وكأن طاهر يقول ان في أخلاقهم معنى من معاني الجبال
كانت تجربة فريدة على نفسي، ولا أظن أن يفوق فرادتها، وحميميتها عندي شيء. أن يقرأ المرء أدبًا من بِلاده كما نُسميها أو "ديرته" كما هو معروفٌ بالعامية كأنما يُربّت على حنينه لتلك البِلاد وقُراها، وجبالها، وغُدرانها، وسماها ايضًا. *فصل الديرة أبسمني، واللهّجة فيه أسعدتني، شعرت به أني بين أهلي، في قريتي، مُسترسلةً بلسان أهل الجبل ناسيةً لسان أهل الساحل..
إنها حكاية الجندي الذي ترك الحرب ورائه واتجه إلى الحياة الصعبة ، في الحرب لاشيء يعرف النصر مثلما يعرفه القناصة ، وهكذا كان عطية الفيومي ، قناصاً لمع اسمه في الحرب المستعرة على حدود الجنوب ، لكنه لم يمكث اكثر من دورة واحدة في الخدمة ، وقرر أن يعود إلى الحياة في جدة ، المدينة التي لم يتحمل البقاء فيها والاسباب كثيرة . يعود طاهر إلى الديرة ، الى المكان الخالي من أعباء الحياة السريعة ، الحياة الهادئة والبطيئة والمفعمة بتفاصيل الطبيعة ، يعيش مع جدته التي تقص عليه الحكايا قبل تناول تناول الطعام أو أثناءه ، يكتشف من الحكايا أصل وجوده الذي لا يختلف كثيراً عن اسم الرواية ، يحب حياة البدو ، الرعي ، والصباح ، ورائحة الخبز ، كل شيء هناك أسهل ، بلا تعقيدات ، كل شيء يعيدك إلى البدائية التي كان يعيشها الانسان دون أن يهتم للغد ، أو يتكالب في سبيل الحصول على كل ما لا تستطيع يده أن تصله ، في البدو حتى الاحلام بسيطة ، وتحقيقها فوري ، في البدو لا شيء يخرجك من نفسك ، وتبدو ابسط الاشياء أكثرها سعادة . يتخلل الحب صفحات الرواية أيضاً ، أي عبقرية هذه في وصف المرأة التي لم تعرف المدينة الا لماماً ، الدلال في ابهى صوره ، والجمال طبعييٌ هو الآخر . هذه الرواية نادرة الحدوث. ، وقد تخلق بك حب البداوة . حب أن تترك كل شيء ورائك وتركض إلى الجبل ، مستكشفاً ما يمكن ان يحدث لك ؟ ومدى ما يمكن أن يتحمله عقلك ؟ وهل صحيحٌ أن للجبال قلوباً لا يعرف أحد لغتها ؟ وأصواتاً قلما ينصت إليها أحد ؟ .
تشهد الرواية تحولات جذرية وصائبة ، ليست مجرد سرد ، انها حالة اجتماعية عن التطور الانساني من الداخل ، عن الضغط والظلم وما يمكن أن يدفع الإنسان لارتكابه في حق نفسه او في حق الآخرين .
الجبال.. الجبال السلام لكل عطية في هذه الأمة.. الذين يحاولون دائماً في نفخ الحياة في كل الأماكن وحتى الجمادات.. الذين يخلقون السعادة في أحلك الأوقات.. الراضين بقضاء الله وقدره دون تردد الكره لكل هياس في هذه البلاد.. قاتلين الأحلام "غالية".. الرحمة على غاليتنا أحلامنا والعوض على الله الرواية رائعة بحزن بقوة بشغف بكره بأمل بفقد تعيش المشاعر كلها في موقف واحد..
تحكي عن حياة عطية، جندي الحرب السابق والجبال. رغم أن جوهر القصة جميل ورائع، إلا أن السرد لم يعجبني. بالتأكيد كان موجهًا لفئة أخرى تفضله. كان هناك بعض الملل المتغلغل في الأحداث، لم يكن الملل بسبب هدوئها، بل بسبب خلوها من أي شيء قد يجعل القارئ يستمر. لم أفضله بالتأكيد. ورغم ذلك، أتممت قراءتها حتى النهاية، ويجب الذكر أن النهاية قد أعجبتني.
عطية ذلك الغريب / اللاغريب أمام أسئلة الجذور وعشقه للمكان بجبله وكائناته وحكاياته الدفينة وحبه لغاليه التي تصبح غريبة هي أخرى لمجرد أنها تزوجته ..رواية جميلة تحركها أحداث متتالية ومع كل فصل شعرت أنه الأهم كان النص يمنح حتى آخر صفحة تلك النهايات المفتوحة التي لاتحد أفق الفيومي بل تمنحه حيوات باقية ..
هذا العام قليل من الأشياء التي صادفتني نالت إعجابي حقاً وهذه الرواية واحدة منهم، ممتنة للكاتب على كل هذا الجمال البسيط والقريب من القلب، تمنيت فقط لو أنني أفهم المصطلحات الجنوبية أكثر متأكدة أنني كنت سأستمتع فوق استمتاعي الحالي أضعاف المرات.
عمل رائع عن القرية والجذور والحنين والوطن في حقيقته، أحداث بسيطة وقد تجدها ساذجة وسطحية لكنها عميقة جدًا، يعيب العمل في رأيي المتواضع كثرة الحوارات العامية
منذ البدء عند غروب ذلك اليوم الذي قرأت فيه الجملة الأولى " لا حياة في الجبال بعد رحيله "اتساءل هل تفقد الطبيعة روحها جراء فقدها لأحد ابناءها، هل تموت الحياة في الجبال لأن أحدهم سُرقت روحه؟ قد تكون الإجابات متعددة و يبقى السؤال جزء متعلق بذاكرة الأماكن التي تبدو كمصائد ، الذاكرة آلت تعزينا من شعورنا بالوحدة، تستل خاصرة أوجاعنا و تجثم على صدورنا، "لا تكاد ترى حياة هناك" الفيومي، الحياة التي بدت على طبيعتها الخلابة، الجندي الذي لاذ بالحياة و هزمه الموت في أرض المعركة، الجدة التي تحفظ من ذاكرة التاريخ ذخيرة بهية و موجعة بعض الشيء، ما يمكن للمرء العيش بها في كل لحظة و للأبد، الحرب التي ألتهمت أرواحنا حرب النفس الجزعة، المتغطرسة التي تبحث على الدوام على التشبت بما ليس له قيمة تذكر، القيمة المزيفة التي تأكل شعورك بالإنسانية، ما يجعلك على الدوام تحتار في أمرك كيف يكون الإنسان أكبر الأعداء على وجه الأرض، الحقد و العنصرية شر لا مناص منه حتى و أنت باقي على حلتك تُجبل على أن تكون جزء من الفراغ و الحزن الذي يدك غياهب روحك، "هياس" ليس مجرد شخص ما، إنما صورة المجتمع اللامع الذي يبحث عن مفردات تحت وطأة اللاشيء، أحب في الحكايات عودة الإنسان لموطنه "الوطن حيث يكون المرء بخير "، توقفت كثيرًا و أنا اقرأ الفيومي، تعيدني قراءة هذه الحكايا إلى وطني القريب البعيد، إلى أرض جدي الذي وجدوه ميتاً على رأس الجبل بجوار حماره، كان مبتسمًا كأنما وجد ما تمنى بعد مضي ١٠٢ عامًا في الجبال، عطيه الفيومي، الإنسان الذي أحب الحياة ووجد في غاليته ما يكمل روحه البهية، غالية التي سُرقت من نفسها ، النهاية التي كنت اتجنبها على الدوام في الحكايات الموت الحي، الموت الذي يأخذ روحك و يبقي على الجسد، الموت الذي يدفع المرء للمكوث بشكل آخر، بوجع جديد، ووجه يعرف الحزن ملامحه، التفاصيل بديعة جميلة ماتعة، كنت أشعر بروح كاتبها مع كل سطر، بخوفه، بسعادته، بحبه، بموت حنش "لا ديرة بدون حنش" هنا حزن طفيف، صلة دقيقة، تجعل القارئ على مقربة من روح الكاتب، يسمع صوته على مقربة منه ، يشعر به كما لو أنهم أصدقاء على طاولة يتنابون على شرب القهوة من فنجان واحد و تبادل الأحاديث بصمت. الفيومي، ستبقى في ذاكرة من يقرأها رواية الإنسان .
في بلدة صغيرة في جنوب الجزيرة العربية، وبين الجبال "الفاهقة" التي لاتألف إلا أهلها، لم يكن من عادة تربتها أن تتقبل جذورا غريبة، حتى ولو مر على غرسها ما يزيد عن نصف قرن، كانت تلك الشجرة الفيومية، التي أنجبت عطية. تبدأ الرواية من حيث انتهت حكاية عطية الجبلي ، على صخرة في أعلى الجبل، كان ممدا على الصخور،ينزف ذاكرته بكرم جنوبي، الذاكرة التي تنتظر السيل، عله يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبل" تطوف بك الرواية بتهامة زهران، بين البشام والسدر، وأصوات الحجل وثغاء الأغنام. عاد عطية من الحد الجنوبي بعد أن أدى خدمته بكفاءة، ونال النياشين، انسل عطية من وظيفته بهدوء رغم الترقية وإلحاح القائد، وانسل بعد ذلك من "جدة" وصخبها، ثم يمم وجهه نحو الجنوب وعاد "للقرية" ابتاع بقرة "حمراء" لجدته " الفيومية" وحمل بعض الهدايا لعمته أيضا. فور وصوله قصد بيت "صالحة" استقبلته بثوبها الجنوبي والريحان شكرته على هدايا أمه، وحملت له أيضا من قدور السمن وقرب العسل ما يرضي كرمها، وألحقتها بخروف صغير، وحمَلته فوقها السلام لأمه. في القرية، يخوض حياته الجديدة ، يرمم بيوت الحجر القديمة، يتجول في الشعاب، يتفقد الجبال، يتابع خلايا النحل، ينطلق في الصباح لاصطياد الوبر، يحمله في الظهر إلى جدته، يتشاركان القهوة والحكايات القديمة. كان قدرا عجيبا أنبت شجرة الفيوم في جبال زهران، وقدرا عجيبا ذلك الذي جعل القنص سببا جمع بين ابن الفيومية و"غالية" ابنة شيخ القبيلة. وياله من قدر جميل، لم يكن يحلم يوما أن تكون غالية نصفه الآخر، فهي ابنة الأكرمين وهو ابن الفيومية رغم امتداد الزمان، تزوج عطية من غالية بعد أن نال من المروة وفاز بالجائزة ، لقد قطع والدها الشيخ وعدا للرماة لمن يصيب الهدف منهم أن يزوجه "غالية" تمر الأيام دافئة هانئة، لقد صار خلقا آخر بعد أن أصبحت غالية جزءا منه، تتشارك مع الجدة أعمال البيت وأحاديث الصباح، ارضاع البهم وسقي الزرع، وإسعاد عطية. تدور الأيام دورتها، يموت الشيخ والد غالية، يعود شقيقها لإسترجاع إخته بدعوى تكافؤ النسب، يخوض المعركة مع "هياس" ، يخرج عطية من المكائد شامخا، ولو خسر فيها الكثير، لكن كرامته وغالية أغلى من كل ما يملك. يحرقون البلاد فيبني السقيفة، يضيق السهل فيتسع له الجبل. ينجح"هيّاس" في استلال اخته من بيت زوجها، يظفر بحكم القاضي فهو ابن الشيخ، يعود صفرا بعد أن رحلت غالية"قهرا" ، "حنش" صديقه وعضده ورجل القرية الأقوى، ينهكه المرض فيموت أيضا. لم تنته الحرب بعد أن أخذوا منه -غالية- كل شيء، لقد عادوا لأخذ الأرض أيضا، الأرض التي هي بقاؤه "ينصت جيدا لصوت حنش يقول له" خذوا المرة لا ياخذون الركيب" يحسم عطية الأمر برصاصة في رأس هياس، لقد كان حاسما يوم أن استقال عن الجيش، وكان حاسما عندما عاد للقرية، وكان طاهر حاسما ودقيقا أيضا، يبدو أنه الآخر يتقن القنص.
رواية بطعم الجبال التي نحبها، في الأرض التي نحبها، ولغةٌ بديعة مشبّعة بالعطاءَات لا تخطئها العين. يبدو شيئًا أقرب إلى عودة الإنسان إلى جذوره، تحرّره من أصفاد وعورة هذا الزمن. والكثير من الحكايات التي لا تنتهي ما دامت تُروى ويتردّد صداها في الكون. "يشعر بمتعة العيش في تلك اللحظة، وهو ينظرُ في المكان، يحدّث نفسه أنّه ضيَّع عمره في جدَّة، لم يعد ينقصُه في ديرته سوى أن يُشارك الطيورَ سماءَ الله.."
رواية قصيرة جميلة، مكتوبة بلغة رشيقة وتنقل وتسلسل سلس للأحداث، وصف جميل لأجواء الجبال والقرى على سفوحها والركبان، تناولت مواضيع عديدة برشاقة العزلة والحرب والسلام والعنصرية والطبقية الإجتماعية والظلم، رغم اعتقادي انه وقعت مبالغة في مسألة أخذ الزوجة وحكم القاضي لأن هذا قد يحدث في المدن بعكس القرية التي يكون فيها عدم التزويج ابتداء، ايضاً استغربت غياب اسرة الفيومي اشقائه ووالديه عن القصة فهم في جدة التي تبعد ساعات قليلة عن القرية، بالإضافة للكثير من اللهجة الزهرانية والمصطلحات التي كان بودي لو وضع تفسير لها في الهامش عموماً استمتعت بقراءة الرواية
سعيدة جدا لأني مؤخرا تعرفت على أقلام شبابية من المملكة السعودية، ولأن غالبا كل فكر ينبعث من بيئته أولا فكان ذاك التفرد
أميل لقلم يعرف كيف ينسج من محيطه قصصا مشوقة تجذبك متعاطفا وتارة أخرى تشتم الموقف ! حياة القرى وتقاليدهم والجبال وكائناتها قلم معتدل باستعاراته التشبيهية وموفق في تسلسل سرد الأحداث .
جميل في وصفه للطبيعه والحياة في الجبال والقرية، جميل الترابط بين البطل وجدته والسلام الذي يحيطه ومعرفته نفسه، توقعت الكثير من الكتاب بدايته ينقصها الكثير طريقة السرد عاديه وعندما وصلت لمنتصفه بدأ في التماسك.