ظلت العربية واقفةً، وعجلة الزمان من حولها تدور، حنى بعدت الشقة بينها وبين الحياة الجديدة ومطلوبات العلوم والفنون. إن اللغة بمثابة جسم حي، يولد ثم ينمو ثم يتوالد، وإن اللغة حي يموت كما تموت جميع الأحياء، إذا امتنع عليه النماء وتعذر التوالد. وللغة كل خصائص الأحياء، مع قياس الفارق، فإذا عدمت اللغة القدرة على التغذي بعناصر جديدة، وعجزت عن تمثيل تلك العناصر تمثيلًا يحولها جزءًا من بنيتها، فإن اللغة تموت، كما يموت الحي، إذا فقد القدرة على هذه الأشياء. من هنا ينبغي لنا أن ننظر في مجمل الآراء التي دارت في هذا الموضوع، ونناقشها مناقشةً علمية، عسى أن نصل إلى قواعد ثابتة.
إسماعيل مظهر: مفكر مصري ليبرالي، وواحد من أعلام النهضة العلمية والثقافية الحديثة، ورائد من رواد الفكر والترجمة، وأحد الذين أولَوا ميدان الفكر الديني والاجتماعي أهمية كبيرة في مشروعهم الفكري.
ولد إسماعيل مظهر في القاهرة عام ١٨٩١م في أسرة ثرية ذات أصولٍ تركية؛ فهو حفيد إسماعيل محمد باشا، وينتمي إلى أسرةٍ كَتَبَتْ في صفحة التاريخ سطورًا من النبوغ العلمي، ولا سيما في حقل الهندسة. التحق إسماعيل مظهر بالمدرسة الناصرية ثم أكمل دراسته في المدرسة الخديوية، ودرس علوم الأحياء، ثم درس اللغة والأدب في رحاب الأزهر الشريف. وتُبين تلك المراحل الدراسية التي مرَّ بها توقُّفه عند المرحلة الثانوية. وقد كان لخاله أحمد لطفي السيد بصمة كبيرة في فكره الليبرالي الذي أَرْسَى دعائمه ثأثره بالثقافة الغربية وإجادتُه للغة الإنجليزية التي تعلمها أثناء سفره إلى إنجلترا.
دخل إسماعيل مظهر مُعْتَرَكَ الصحافة صغيرًا، فأصدر جريدة الشعب عام ١٩٠٩م، وخاض معركة النضال السياسي مع الزعيم الوطني مصطفى كامل، ومن ثَمَّ بدأ اسمه يذيل صفحات الصحف الكبرى كجريدة اللواء. وقد تميزت كتابته في الصحف بطابع الحرية الذاتية، والتجديد، وعرض الآراء عرضًا مُنَزَّهًا عن الأهواء الشخصية. كما اضطلع إسماعيل مظهر برئاسة تحرير مجلة المُقتَطَف، فارتقى بها إلى أوْجِ سُلَّمِ المجد. وقد فتح آفاق العالم العربي على شُرُفاتِ نظرية النشوء والارتقاء عند داروين. كما نادى بضرورة الإصلاح الاجتماعي، ورأى أنَّ الحل يكْمُنُ في تكوين حزبٍ جديدٍ أطلق عليه اسم حزب «الوفد الجديد» بقيادة مصطفى النحاس.
وقد قدم مَظْهر لعالم الثقافة ذخائر معرفية تجسدت في «وثبة الشرقِ» الذي أجلى فيه السمات العقلية للشخصية التركية الحديثة، و«تاريخ الفكر العربي» و«مُعْضِلات المدنية الحديثة» و«مصر في قيصرية الإسكندر المقدوني»، وقد وافته المنيةُ في الرابع من فبراير عام ١٩٦٢م.
في بحث قصير يناقش فيه الكاتب إسماعيل مظهر أحد المُشكلات الكُبرى التي تواجهها اللغة العربية. يضع الباحث تصوّره في وضع أسماء عربية لأفراد الحيوان والنبات من الفصائل والعشائر والمراتب والأجناس والأنواع. وهي محاولة شجاعة هدفها الخوف من موت اللغة والتي هي حيّ يمكنه أن يموت إذا امتنع عنه النماء وفقدت القدرة التغذّي بعناصر جديدة،وعجزت عن تمثيل تلك العناصر تمثيبًا يحوّلها جُزءًا من أصل بِنيَتها.
يتناول الكاتب الخلاف بين الباحثين في هذا الأمر، والذي انحصر في ثلاث مسائل؛ القول بالتعريب، والقول بالنحت، والقول بالاقتصار على الاشتقاق من الصِّيَغ القياسية.
اقترح الكاتب طريقة جديدة سمّاها الاقتياس؛ لكسر جمود اللغة الذي تسبّب فيه تقديس اللغويين لقواعد قديمة لم يكن العرب أنفسهم يعملون بها في اشتقاق ونحت الجديد من الألفاظ التي أضافوها إلى اللغة.
بيّن أيضًا مذهبًا خاصًا لوضع المصطلحات العلمية والأسماء الاصطلاحية؛ والتي لها أصل أوروبي أو يوناني أو مزيج من شقيّن أو حتى ثلاث. الطرق المذكورة مشفوعة بعدة أمثلة للتوضيح؛ وأرى فكرتها فعلاً ممتازة خاصة مع تبريره:
"الواقع أن الذي يدرس علم الحيوان أو علم النبات، والذي يبحث في علوم المواليد بصورة عامة لا يلتفت إلى أصل الاسم الاصطلاحي الذي يستعمله، ولا إلى تركيبه اللغوي ولا إلى اشتقاقه، وإنما هو ينظر فيه باعتباره اسمًا اصطلاحيًا يُخصّصه الاستعمال، وقارئ هذه العلوم في اللغات الأوروبية لا امتياز له في هذه الناحية على من يقرؤها باللغة العربية. "
وهذا معناه أن الكلمة الاصطلاحية لا معنى لها في القاموس الأوروبي؛ لهذا فلا بأس من اشتقاق كلمة مقابلة بالعربية طالما لن تغير المعنى الاصطلاحي.
لكن تبقى مشكلتين أمام أفكار الكاتب:
المشكلة الأولى: أن اقتراحه وطريقته في وضع الكلمات الاصطلاحية قد تكون مناسبة لعلم الحيوان والنبات وحتى الطب التشريحي كونها من مخلوقات الأرض والتي تتشابه مع مثيلاتها في الشرق والغرب. لكن كيف يمكن أن ينجح هذا الاقتراح مع أشياء اكتشفها العلم ولم يعلم عنها الإنسان شيئًا من قبل مثل علوم الفضاء (الكوانتم) وعلوم الفيزياء الحديثة والأشعة و الكومبيوتر ولغاته؟
المشكلة الثانية: أن وضع الكلمات الاصطلاحية أو نحت الكلمات واشتقاقها يلزمه خبراء وعلماء أكفّاء من العرب ومجهود جبار لتحديث اللغة بالكم الهائل الذي يكتشفه الإنسان كل عام في العلوم الحديثة.
لكن في النهاية لا ينبغي أن نُخرج أفكار الكتاب عن سياقه وزمنها. فالكتاب نُشِر عام 1948. وتبقى أفكار الكتاب هامة كلَبِنة هامة لوضع أساس جديد للبحث عن أفكار لتطوير لغتنا العربية.
الكتاب نشرته مؤسسة هنداوي بطبعة جديدة عام 2020؛ وهو مجاني ومتوفر على موقعهم بنُسخ كندل ومصوّر ونصّي مكوّن من 60 صفحة على الرابط التالي
أقتبس هذه الفقرة ظلَّتِ العربية واقِفة، وعَجَلة الزمان من حولِها تدُور، وتَسارَع دَورانها في خلال القرنَين الفارِطين، حتى بعُدَت الشّقَّة بين الحياة الجديدة ومطلوبات العلوم والفنون، وبين اللغة العربية، حتى إنَّ الفرق ليُروِّع كلَّ واقفٍ على حقيقة الهُوَّة التي تفصِل بين العلوم والآداب، وبين اللغة العربية من حيث قُدرتِها على تأدِية مدلولات المُصطلحات في كلماتٍ مُضَرية الأصل أو صحيحة الاشتقاق، على القواعد التي احتَكمَ بها بعض اللغويِّين في بناء هذه اللغة الكريمة، وأخذَها عنهم كثيرٌ من أهل هذا العصر، أولئك الذين لم يَفطَنوا إلى أنَّ حاجات هذا الزمان غير حاجات الأزمان السوالِف، ولم يَعرفوا أنَّ اللغة بمثابة جِسمٍ حيٍّ يُولَد ثم ينمو ثم يتوالَد، وأنَّ اللغة حيٌّ يموت كما تموت جميع الأحياء إذا امتنع عليه النَّماء وتعذَّر التوالُد، وأن للُّغة كلَّ خصائص الأحياء، مع قِياس الفارِق، فإذا عدِمَت اللغة القُدرة على التَّغذِّي بعناصر جديدة، وعجزَتْ عن تمثيل تلك العناصر تمثيلًا يُحوِّلها جُزءًا من أصل بِنيَتها، فإن اللغة تموت كما يموت الحيُّ إذا فقد القُدرة على هذه الأشياء.
رغم ذلك لم يقدّم الكاتب حلولًا شاملة للمشكلات التي تجمد اللغة العربية واقتصر على مناقشة مصطلحات أسماء الحيوان والنبات صحيح أنّ الكتاب نُشر لأول مرة منذ سبعين عامًا حيث لم تكن علوم الفضاء وميكانيكا الكم قد تبلورت بالشكل الحالي لكن هذا لا يعفي الكاتب من عدم التطرق لفروع أخرى من العلم كانت قد اتّخذت شكلها شبه النهائي في ذاك الوقت مثل الصناعات الثقيلة للسيارات والقطارات والطائرات والفيزياء النووية والكيمياء بأشكالها
الأمر الآخر هو أنّ الكاتب عرض حلولًا معروفة لدى الجميع لكن يصعب تطبيقها إلا من مختّصين ذوي خبرة عميقة جدًا جدًا في اللغة العربية والقواميس فأنا منذ كنت طالبًا في الابتدائية أعلم أنّ الحلّ للمصطلحات الأجنبية هوإيجاد كلمة عربية تدلّ نفس المدلول وإن عجزنا فلنعرّب أو ننحت لكن النقطة المفصلية هنا هي من سيبحث في الكتب ليجد تلك الكلمات المناسبة؟ فقد عرض أمثلةً معدودة كاقتراحات لتكون بمثابة دليل وحسب معلوماتي منذ خرج هذا الكتاب وحتى اليوم لم يشكل هذا الكتاب دليلًا لأحد ولم يعرّب أحد المصطلحات كما اقترح فالأجدى به بدلًا من الكتابة والتأليف في مواضيع شتى أن يوجّه جهوده لتأليف قاموس المصطلحات العلمية المعربة وأنا أراه أهلًا لهذا العمل كونه وضع أمثلةً ومنهجًا في هذا الكتاب
يتوقع القارئ من العنوان أن يتناول الكتاب مسألة تجديد اللغة العربية بكل جوانبها من تحديات ومشاكل عديدة لطرح تصور متكامل عن التجديد. لكنه يكتشف سريعاً ان الكتاب يتناول مسألة محددة وهي كيفية إيجاد أسماء للنباتات والحيوانات التي ليس لها أسماء عربية. وهنا قد يشفع في حصر الكاتب مشكلات العربية في مسألة لغوية شديدة الإختصاص أن الكتاب نشر في ستينات القرت العشرين قبل ثورة المعلوماتية والرقمية. يستفيض الكتاب الصغير في شرح طرق العرب قديماً في كيفية الإتيان بكلمات جديدة (التعريب، النحت، الإشتقاق من الصيغ القياسية). ثم يتوصل الى اقتراح طريقة متكاملة لوضع كلمات عربية للنباتات والحيوانات التي لا أسماء لها في اللغة العربية.
"اللغة بمثابة جسم حي، يولد ثم ينمو ثم يتوالد، (واللغة) حي يموت كما تموت جميع الأحياء، إذا امتنع عليه النماء وتعذر التوالد."
الكاتب: إسماعيل مظهر (1891-1962) هو مفكر مصري ليبرالي تقدمي. يُعتبر أحد رواد النهضة العلمية المعاصرة في مصر والعالم العربي، وأحد رواد الفكر والعلم والترجمة. درس علم الأحياء ثم تحول إلى الأدب. قام بترجمة كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين ونشره عام 1918. من مؤلفاته: "قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية الإنجليزية والعربية" الذي نشره عام 1951، و"قاموس النهضة : انجليزى -عربى" عام 1954 و"معجم مظهر الانسيكلوبيدي" وقد طبع منه ثلاثة أجزاء.
عرض ومناقشة كتاب "تجديد العربية" للكاتب والمترجم إسماعيل مظهر
يتناول هذا الكتاب الصغير جدًا - إذ يبلغ 60 صفحة فقط - موضوعًا في غاية الخطر ألا وهو تجديد العربية بحيث تصبح وافية بمطالب العلوم والفنون. وكنت أتوقع قبل الشروع بقراءته بأنه كحال الحداثيين المنبطحين تحت الغرب اللائمين للغة العربية المتهمين لها بالجمود والقصور عن مواكبة تطور العلوم، إلَّا أنه كان على عكس ذلك، فهو انطلق من إيمانٍ بأنَّ اللغة العربية خير لغات أهل الأرض، ولم تكن يومًا عاجزة عن الإحاطة بالمصطلحات الحديثة، بل العجز هو في الناطقين بها، ويجب عليهم تدارك الأمر قبل أن يعجزوا عجزًا تامًّا ويغرقوا في عصر غربة لغتهم.
اقترح المؤلف ثلاث مناهج لـ"تجديد العربية" (التعريب، النحت، الاقتياس) وعلى أنه يظهر تبنيه للأخير، إلَّا أنه عرض الأولَينِ عرضًا جيدًا، بل استفاض في عرض النحت وذهب ينتصر لقول ابن فارس بإن معظم غير الثلاثي من العربية منحوت.
أما نظريته (الاقتياس) فهي - بشكل مختصر - القياس على السماعيّ، يعني اصطلاح أسماء جديدة قياسًا إلى السماعيّ من اللغة، الذي يذهب جمهور اللغويين إلى منع القياس عليه، ولن أشرح هذا بالتفصيل فالكتاب قصير بإمكان الجميع قراءته بوقت وجيز والاطلاع على أدلته.
أقول: مع تقدير الجهد الذي بذله الكاتب هنا إلَّا أنَّ محاولاته تبدو غريبة وغير مألوفة وصعبة التعامل والتواصل والانتشار، فهي تستند إلى نظريات مركبة في اللغة يلزم ممّن يريد وضع مصطلح أو إدخال آخر إلى لغة العرب أن يكون محيطًا بها، وهذا صعبٌ مستصعبٌ حصوله في زمننا الحاضر على ما نشهده من إهمالٍ للعربية في الأوساط الأكاديمية، بل من إهمالٍ لها في الأوساط العامة حتى غدا ذكرها يكون في معرض عرضٍ فلكلوريّ تراثيّ، وللحديث شجون...
أمّا الحل الأجود الذي يجعل المفردات العربية تواكب التغيرات التي تحصل في العالم برأيي فيرتكز إلى أساسين: - الأول: التشرب بالعربية في أوساط الناطقين بها، والاهتمام باستعمالها لا تعلمها والكتابة بها فحسب، إلى أن يكون الفرد المتكلم بالعربية مُحِّسًا بها، يدقُّ جرسها في سمعه ولسانه وفي وضع مثل هذا ستظهر كلمات هي من كلام العرب لتعبِّر عن مصطلحات العلم الحديث. الثاني: فهم العولمة المؤثرة في اللغات والتداخل الحاصل بينها وكيف أن المصلحات تنتقل أما بلفظها تارة أو بمعناها تارة أخرى أو بتعريبها أحيانًا ...الخ.
ملحوظات:
1- الكتاب نُشِر في أربعينيات القرن الماضي 2- عاب البعض على الكتاب تركيزه على جانب أسماء الحيوانات والنباتات وترك العلوم الأخرى مثل الفيزياء وعلوم الفضاء، ولا أرى ذلك عيبًا لأن الرجل عندما ركز على هذا الجانب ركز على ما يعرفه - خاصة إذا عرفنا أنه هو مترجم كتاب أصل الأنواع لداروين - وأسماء الحيوان والنبات لها نظام عالمي يحكمها "التسمية الثنائية" عكس علوم مثل الفيزياء والفلك كانت توضع المصلحات حسب لغات الباحثين بها.