هنا باريس، وسيرورة الحياة فيها، حيث الثقافة وجود، والمرأة حرية شرسة بقدمين، والعلاقات صفقة مؤجّلة، والذات تتشظّى، والصداقة تجربة مستمرة على تحمّل عبء الغفران، والعربي ذاكرة هشّة في مواجهة واقع مُدوّي، والوطن مجاز لا أقرب ولا أبعد، والسياسة نرد مع تجّار أسلحة، والمقاهي زمن إضافي بنكهة ملح العالم، والزمن دائماً عند نقطة الصفر، بينما الشوارع كلّها هرولة. هنا يحيى امقاسم.. ونتذكر أنّ بورخيس في الخمسين من عمره سيُقلّد كاتباً شاباً يُدعى كبلنغ، وقبله سيُقلد بودلير ديوان "جاسبار الليل" لـ"ألوزيوس بيرتيران". في هذا العمل يحيى امقاسم؛ كأنّه يسأل لِمَ لا أُقلّد ابن عطاء؛ العَالِم العربي، في تجنّبه لكلّ كلمة تحتوي حرف الراء، لأنّه ألثغ. ولأنّ لسانه لا يحوّل حرف الراء إلى حرف الغين سيبحث عن الّلثغ فيما وراء الفردي، في الجماعي، وسيجد أنّ لثغنا هو السلف من الزمن وهو جُمل الوصل في كلامنا. عندئذ سيُفكّر في محو الماضي لكثرة تحكمه في حاضرنا، وطمس الصلات لوطأتها في تعبيرنا. في هذا العمل يُريد لنا أن نعيش (الآن) والمستقبل معاً، عبر (مدينة العالم) كما يُسمّيها. يأخذنا إلى ميلاد اللحظة ونتوقف معه هناك. يشتغل على المشاهدات غير الصائبة، فلربما يصمت التاريخ عن جنايته ولو لمرة. لا نتحرك، فهو يبحث لنا عن مكان مُغاير بلغة تستجدي الوقت القائم وما يأتي.
يحيى قاسم سبعي، (باللهجة التهامية: يحيى امقاسم) روائي وكاتب وباحث سعودي، ولد في قرية الحسيني التابعة لمحافظة صبيا، بمنطقة جازان في السعودية،، وحصل على درجة البكالوريوس عام 1997م في الحقوق من كلية القانون بجامعة الملك سعود، ويعمل مستشارًا قانونيًا من عام 1999م.
التهامي الذي كنا ننتظر منه الدفء باغتنا بالشتاء، واللعب بالمفارقات، بعد أن كنا نمسح عرق الوقت ننتظر سِفر ما بعد "الهربة". دهشتنا الكبرى في "ساق الغراب" حيث القضية الكبرى، جعلتنا نتجاوز مسألة اللغة والحاشية المفسرة في ثنايا المتن للنجرف مع الحدث العظيم، فـ "نتحفش" لشق السرد المهول عن "وادي الحسيني" يتركنا في خضم الزحف والتيه، ليخبرنا عن شتاء الغربة في باريس، في نص حافل بلغة الكر والفر، وبشكل لم يأت بجديد في تيار السرد المتدفق، والذي يبحث عن "دفء البوح"! مع حاشية تتماهى مع النص وتفسره أحيانا في ريبة من وعي المتلقي وفطنته، فكان لا بد من عبارات محبرة لينعم القارئ من معين الحكمة! .. ورغم الحرص الشديد على عدم الخروج عن إطار العمل إلا أن "الساق" يشق الحدود، ويربك عملية التواصل مع عوالم باريس الشتاء، في بحث محموم عن صيف "الحوسيني" يشبه في ذلك الشتاء الذي دفع "فارح" لتخطي الحدود للينعم بدفء "أرض الحليب". قرصة الهوس بالمفردة الأعجمية والماركات المتبجحة، جعلنا نتلمس الشوق للهجة "صادقية"، وحنين "بشيبش"وجهل القوم لنقوش بنادقهم العتيدة. حتى في النص تدرك مأزق "الساق" ولعنته كونه تحدث عن أهل الذلول فسجلت إساءة للجهة التي يمثلها. وفي محاولة لترتق الفتق، يحضر مدح الرموز لتكفير الهجاء في السفر الأول. .. رواية يعاني بطلها من مأزق الدوبلوماسي الذي لا بد عليه أن يقسم بالولاء المطلق، فتخنقه الحقيقية كونه مؤهلا للخيانات، لعدد الدوائر التي ينتمي إليها "ربما أحياناً نضطر لخيانتنا وفاء لمبدأ ما، لعائلة أو قبيلة ما، وربما كثيراً نخوننا وفاء لأصنام تسكننا.." رواية تتأزم فيها الهوية لتنجلي على عدم الجدوى، والأرض مهما تشبث بها أهلها فهي ليست لهم. لغة السرد هو حبل النجاة من التردي في سفوح اللغة، والكلمة الصادقة لها صليل وبريق، لا تحجبها ثقافة مزخرفة، ولا غواية لغة، لكن التجارب سننها التفاوت، والتمكين، حتى وإن تقاطعت دوما مع الخذلان، سيشفع لها عملٌ واحد.
رواية كتبت ببطىء شديد ونفس ماراثوني طويل. . خرجت أحداثها من "مرارة الهامش في باريس." مليئة بالأرواح العطشى لتائهين في المنفى عاشوا أيام كثيرة وصغيرة كانوا يرددون فيها : " يا الله.. ما العدل في الهامش.. لماذا علينا أن نقول إن في عذابنا حكمتك؟! ".
أعتقد ما كنت لأكمل هذا العمل لو لم يكن ليحيى امقاسم, وأعرف مسبقاً أنني أحتاج لذخيرة من الصبر قبل أن أحكم عليه بالعشوائية. الحدث الأهم في الكتاب أنه لا أحداث هامة سوى اللغة, سلاح الوحيد في مواجهة أيام كثيرة وصغيرة, أيام تراصّت فوق بعضها على مهل, فصار لزاماً على الكاتب أن يُسجل بهذه المهارة العالية كل التفاصيل المتاحة, بل صار لزاماً أن يذهب إلى ماوراء التفاصيل التي في النهاية ستكشف للقارئ كيف - بصغرها ورهافتها- استطاعت أن تُحدث فارقاً عميقاً.
انتهيت من قراءة رواية رجل الشتاء، بدأت بسردٍ ممل، خالية من التشويق، إلا أن الربع الأخير كان مفعماً بالجمال و الشاعرية و الحزن. الأماكن المذكورة في الرواية أكثر بكثير من تطور الأحداث و عدد الشخصيات،. للكاتب القدرة في تضمين الدهشة في عبارات تكاد تختفي في تفاصيل السرد،. شعرت أن كثرة التفاصيل المذكورة في الهامش لتفسير أو توضيح بعض نصوص الرواية تنم عن عدم ثقة الكاتب بوعي و فطنة القارئ،. أخذت منها مخزون كافي من الاقتباسات الجميلة، لا أكثر و لا أقل. ليست من الروايات التي تود أن تقرأها مرة أخرى،.
للأسف الرواية لم تصل لتوقعاتي أصابني الكثير من الملل لكن لا بأس أخذت منها بعض الإقتباسات وأيضاً اللغة جميلة الرواية تُقرأ لمرة واحدة فقط ولا نعود إليها
ما أروع ان تقرأ ليحيى! احتجت الكثير من الصبر والتأني قبل أن احكم على الرواية، في الحقيقة لا يجذبني هذا النوع من الروايات، ولكنه يحيى! يكتب بأسلوب متفرّد لا يشابه احد.