في كتاب " أنطولوجيا الشعر الفارسي الحديث (مجموعة من الشعراء) ترجمة مريم العطار والصادر عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون. تقول مترجمة المختارات ، إنه منذ بدايات الشعر الفارسي الحديث ظهر شكلان أساسيان مهمان هما : الشعر النيميائي (المنسوب إلى نيما يوشيج ) الشاعر، الذي يقال عنه انه منيفيست الشعر الحديث ، بينما يدعى الشكل الثاني (السبيد) أو الشعر الحر، وهو شكل خالٍ من الوزن والقافية لكن الإيقاع الداخلي له أثر واضح عليه. تضمن الكتاب مناقشة وطرح ما يقارب 36 شاعرا وشاعرة إيرانية، حيث أخذت مقاطع معينة من نصوصهم الشعرية وطرحت للدراسة في هذا الكتاب من حيث الاسلوب والتقنية الشعرية، وبعض من سيرهم الذاتيه أيضاً .
مريم العطّار شاعرة و مترجمة عراقية الأعمال الشعرية : 1- وأد ( مجموعة شعرية أولى صادرة عن دار العربية للعلوم ناشرون 2013) 2- شتائم مجانية ( مجموعة شعرية ثانية صادرة عن دار فراشة للنشر والتوزيع في الكويت 2016)
الأعمال المترجمة: 1- أنطولوجيا الشعر الفارسي الحديث - صادر عن دار المدى 2016 2-الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد - صادر عن دار المدى 2017 3-مرة أخرى المدينة التي أحب- نادر ابراهيمي - صادر عن دار الهجان 2020 4-أنطولوجيا الشعر الأفغاني الحديث- صادر عن دار المدى 2021
من عيوب المرآة المقعرة أنها تعكس الصورة بغير ماهيتها ؛ الشعرُ الجيد مرآة مقعرة ! يعكسُ ظلمة الأشياء لضوء الكلمة المعبرة ويشتت الألم بجمال الوصف لـ ابتسامة .
أما ترجمة الشعر فهي أشبه بوضع مرآة وهذه المرة يُشترط أن تكون مستوية حتى يُرى ظلال الضوء كما هو . وهذه الأنطولوجيا الفارسية الفاخرة كانت كما يجب للشعر أن يكون ؛ مرآة مقعرة في صورتها الأولى ومستوية في ترجمتها. و أبلغ ما جاء فيها: "- الحروب لا تنتهي أبداً إنها تبدأ فقط "
وأحلاها : "- ماأردت شيئاً من الله غيرك ونافذةً وانتظاراً ولقاءً وكلُّ هذا يعني الربيع "
لا بل هذه أحلى " - الصنوبرُ يُثمرُ التفاحَ، لو كان عاشقا ويُثْمرُ العِنَبَ لو كان في حالةِ سُكْرٍ، يُثمرُ الفراولةَ، لَوْ كان سعيداً، ويبقى صنوبراً لَوْ كَانَ وحيدا " أحببتها ، وليس أحدُ كما المرأة يُحب المرآة / الشعر.
الذي يمارس دور الزوج فوق جميع سطوح بيوت العالم كل ليلة يضاجع السماء التي تطلّ من تلك النافذة و في الصباح رائحة البصل المطبوخ و عطر "اسكادا" ينتشر في وهم الغرفة زوجي يعرف من الإسلام: أربع زوجات بعقد المتعة و من اليهود: الجانب الأيسر للرجل و من المسيح: بكارةَ عذراءٍ هو يعير أهمية لكل نسوة الجيران و لكل صديقاتي في أيام الطفولة هو يفرش بساط المائدة لكل أولئك النسوة و يتحدث عن جمالهن و يصف صدورهن و في كل مرة يكبّ فوق رأسي فضلات بساط المائدة و يقول: يجب أن ننجب طفلاً آخر هذا العام. - شيدا محمدي ***
نشأت في إيران مذاهب فكرية و أدبية جديدة نشطت في تحديث الشعر شكلاً و روحاً، مكرّسة بذلك مسيرة تحوّل في اللغة الشعرية الفارسية.
هذه الأنطولوجيا تقدم لنا نافذة بانورامية نطلّ منها برحابة على المشهد الشعري الايراني الحديث، كما و تتيح لنا الوقوف عند أبرز أصوات جيل من الشعراء قدم خطاباً شعرياً جديدا لغة و مضموناً. بموازاة الثورة التي أحدثت تغيرات كبرى في الواقع الايراني، اجترح بعض الشعراء أشكالاً و معايير جمالية و منهجيات أسلوبية و صياغية جديدة لتخطّي الخطاب الشعري السائد آنذاك. اذ بزغت تيارات أدبية جديدة استكملت مسيرة التحديث، ليس في حدود الأفق الشعري فحسب، حاملة اتجاهات تجريبية رافضة للتنميط و متمرّدة على الوعي الإبداعي السائد الذي وصل جمالياً الى مأزقه الخاص. فقد كانت مسيرة البحث عن المختلف في الشعر و الفن معادلا موضوعياً للتحوّلات الاجتماعية، و مدفوعة بمعاداة دفينة للكليات و الثوابت في النظام السياسي. بحيث ، في رأي (عبدو وازن)، "راح الشعر بعد الثورة يواصل بحثه عن فضاءات مجهولة و أشكال غير مألوفة و جماليات جديدة. و في مرحلة التسعينيات و ما بعدها برز جيل من الشعراء الشباب همه تدمير اللغة و تحطيم الأشكال و اعلان التمرد على "الآباء"."
*** (عمق العادات) العيش في عمق العادات لا يختلف كثيراً عن الموت أنت ميتٌ لكنك لم تعِ معنى الموت بعد! - رسول يونان
***
من جهتها لحظت هذه الأنطولوجيا ل(مريم العطار) الاختلافات الأسلوبية عبر تنوع الشعراء اللذين شملتهم، لتكرّس بذلك تحولات الوعي والأمزجة التي هجرت قوالب التعبير الشعري الكلاسيكية و التي تفلتت من القيود و من المعايير الجمالية التقليدية في اللغة الشعرية. القصائد المشمولة هنا متنوعة من حيث الاتجاهات و التأثيرات و الموضوع اذ تتنوع بين الغنائية و الوجودية و الوطنية و الرومنسية و السريالية..
ان المختارات المنشورة من القصائد الفارسية المترجمة للعربية ليست وفيرة. في هذا الإطار، أشار الشاعر و الناقد (عبدو وازن) في كتابه "شعراء من العالم" الى أنه رغم أهمية الترجمة التي قام بها (شتّا) في هذا الحقل عبر الأنطولوجيا التي ترجمها و هي الأكثر انتشاراً، و رغم اضطلاع المترجم باللغة الفارسية، فان "الصيغة العربية للقصائد كانت على قدر من النثرية الجامدة و الركاكة في أحيان حتى أنها تثير في القارىء الكثير من الفتور و السأم. و كان ينقص تلك الترجمات قلم شاعر يعيد صوغها و سبكها بالعربية." قبل هذه الأنطولوجيا ل(مريم العطار) قرأت سابقاً "مختارات من الشعر الفارسي الحديث" ترجمها (محمد نور الدين عبد المنعم)، لكن مساحة هذه الأنطولوجيا أضيق لكونها تتضمن قصائد سابقة للثورة الإسلامية. كذلك قرأت "مختارات من الشعر الإيراني الحديث" من ترجمة (موسى بيدج) [مراجعتي المقتضبة لها في هذا الرابط https://www.goodreads.com/review/show... ]
الترجمة فن كتابة صعب جداً، إنه نقل نص بكامل روحه من ثقافة ومنظومة لغوية إلى أخرى. لا أجيد اللغة الفارسية لذا حكمي الشخصي محض افتراضي قائم على الثقة بأن (العطّار)، بلسان و قلم و روح شاعرة و مترجمة في آن، جهدت عبر الترجمة هذه الى مماثلة النص الأصل عبر لغة شعرية متينة و غير مصطنعة، و من غير ان تقع في التفسير او الشرح و هذا يسجّل لها. في الحقيقة، قيمة الانطولوجيا هذه تكمن في ذاتها لجمعها قصائد متنوعة من المشهد الشعري الفارسي المعاصر في بناء كتابي واحد. برأيي الشخصي لا يضيرها فعلاً أن بعض القصائد ليست بمستوى أخريات، حيث تضطلع هذه المجموعة من المختارات لعدد كبير من الشعراء بمهمة تقديم نظرة شاملة غير انتقائية أو تفضيلية للقارىء غير الناطق بلغتها.
(العطاّر) تشيد بالقصيدة الايرانية الحديثة و تعتبر أن الشعراء عملوا عبر التحديث على كسر القواعد العروضية و تخطي الموضوعات الثابتة و الجماليات اللغوية و الشكلية التي رسخت مع الشعراء الكلاسيكيين. فتقول في مقدمتها:
"لقد اتجه الشاعر الايراني المعاصر في قصيدته مفارقاً لتقنيات القصيدة الكلاسيكية و منها التشفير، مقترباً بذلك نحو الواقعية، مبتعداً عن المجاز و تمثيلاته، بحيث صار أكثر إحساساً بما يدور حوله مما جعله أكثر إبداعاً و حرية في التعبير عن تجربته الإنسانية، و طموحاته التي تتجاوز الممنوعات التي تصنعها الأنظمة القمعية المتخلفة القادمة من ظلام القرون الوسطى. من جانب آخر فالشاعر الكلاسيكي الايراني مستمر في شكله الشعري لا تفارقه الأساليب البلاغية ذاتها من الاستعارات و التشبيهات و نزولها في المحتوى نفسه و هو التعبير عن العشق و الفراق و الحب الحقيقي و المحازي و الرثاء و التصوف."
على الهامش، لحظت أن المترجمة الكريمة قد أوردت في العنونة مصطلح "الحديث" كما و استخدمت مصطلح "المعاصر" في بداية مقدمتها. عن هذا التخالط بلا تمايز بين المصطلحين الذي أقع فيه غالباً، أرى أن هذا الاقتباس الموجز ل(رشيد طلبي) يعين على التمييز و التفرقة بين مضمونهما: "المعاصرة ترتبط بعلاقة وطيدة بالعوامل الزمانية و المكانية، و في مجال الشعر، يمكن لشاعر أن يطعم بقضايا و إيقاعات عصره قوالب شعرية تقليدية ترجع للزمن الماضي. أما الحداثة فهي مرادفة للتطور و التجديد خارج حدود الزمان و المكان، نظرا لأن طبيعة الانسان بكل مكوناته اللغوية و الفكرية تتوق الى التجاوز و الابتكار".
قصائدي المفضلة من الكتاب:
*** (المطار) فتشوا محفظتي، ما الجدوى؟ أسفل جيوبها هناك آهٌ مخبّأةٌ تتكرّر باستمرار دعوني و شأني ربما أنام مع نبتة التوت، و لا أبالي، لماذا دائماً تقتنصون امرأة تستعير قلباً من الجدار و تعلّق قلباً آخر فوق فستانها في محفظتي لا يوجد شيء غير جدائل مبتورة لم ترتكب الذنب دعوني و شأني هنا الطيران معطّل دائماً و إطلاق النار في الشوارع أو على الفستان المعلق فوق الحبالِ في أيّة حال، شاخت مشاعر دودة القزّ على الأقل، امنحوني دمية طفولتي غريبة أنا، أكثر غربة من طائرة ورقية مخبّأة في صندوق قديم يضمر نهايتي قلبي يشتاق الى البيت الهوائيّ يقتنص السماء لكن فستاني الملوّن فوق الحبال، يعانق الله. -كراناز موسوي ***
..قل للطيور أن لا تنسى أغصانك الخريفُ ليس آخر حرف للأشجار. قلت لو أنني قُتلت قرب جسدي ليدفنوا علماً حتى لا أنسى لأيّ بلاد حاربت -بابك زمني ***
(٥) خبأت يديّ في جيب معطفي الصحف مليئة بإعلانات التعازي تحت هذه المظلّة السوداء ببطء، أذوب و لا أحد من العابرين يسألني كم الساعة؟ -حامد رحمتي ***
(٥)
أنا سمكة مرهقة من الماء أعطي جسدي لك أنتَ تولَّ عرساً حزيناً أعطي ذاتي الى علامة استفهام كبيرة عالقٌ فمي بها. -كروس عبد الملكيان ***
قامت المترجمة مريم العطار في هذا الكتاب بترجمة قصائد لعدة شعراء إيرانيين، لتفتح عبر هذا الكتاب نافذةً للقارئ العربي يتمكن من خلالها على التعرف على الشعر الإيراني الحديث. استمتعت بقراءة كل قصيدة، شاعرية القصائد المنتقاة، والترجمة الجيدة أسرتا قلبي.
لو كان بيننا باب كنت قد طرقته لو كان بيننا جدار كنت سأتسلقه كنت سأدمره..! لو كان بيننا جبال، بحار.. كنت قد اعتليت بقدمي خارطة العالم، ورسمت أخرى لكن بيننا لا شيء واللاشيء لا أستطيع أن أفعل لأجله شيئًا. - شهاب مقربين. قصيدتي المفضلة من هذا الكتاب..
هذا المجموع مهم كونه لا يدع مجالاً للشكّ بانحدار المستوى الشعريّ كلّما ابتعدنا عن البنية الشعريّة الكلاسيكيّة. الأشعار الأقدم فيه أعذب وأعمق وأجمل وأرقّ.. في النصف الأول من الكتاب كانت الأشعار عالية، وبعدها ظهر الانحدار في البنية الشعريّة والأفكار. وشعر المرأة فيه، وإن كان أصدق، أقلّ شعريّة من أشعار الرجل ولهذا سبب يطول شرحه، اختصاره أنّ الشاعرات حصرن أنفسهنّ -أو حُصِرن- في زاويتي الأمومة والحرب (الصورة النمطيّة للإيرانيّات)
أنت كنتُ في كل مكان ما بين الزهور الارجوانية في المطبخ في أسواق الغجر يوم الجمعة في برادات المشافي ما بين الثياب البيضاء الداخلية التي تخبأ العيون والصدور المنطفئة اليوم، الطبيب حرك رأسه يمكننا أن نتفائل رُبما يستغني عن الرحيل، لا أعلم ربما سيجيء ويوقظ الورود الذابلة من النوم الشتوي الشوقُ يُبدلُ الماء الى الصخور آه ، براداتُ الموتى باردةٌ جدًا ما زلتُ أنتظر أحدٌ ما يقرعُ الباب وصوتكُ الحنين يستيقظ من بين الممرات الرطبة أنت كُنت في كلِ مكان وكم كنتَ غائباً وما زلت أقاسمُ حسنك مع جميع نساء العالم ومغيبُ الشمسِ يتجمدُ في كوب الشاي أستطيع كتلك الأيام أن أثقُ بيديك حين كُنت بساطورٍ تقطعُ جسد تلك السمكة البيضاء الوحدة الوحدة كُل يومٍ أُحيك الفلسفة وكراتِ الصوف تنحف!
كتاب رائع بمجمله من اختيارات وتعريف بالشعراء وترجمة تقترب كثيرا من روح النص الأصلي. هناك الكثير الكثير مما يمكن اقتباسه والرجوع إليه. كتاب قيم جدا يكشف جانبًا من قارة شعرية هائلة لا نعرفها جيدًا رغم قربها منا جغرافيا وثقافيا.
لا أميل للشعر الحديث على الإطلاق، كان اختيار الكتاب هذا خروج عن المسار، ممتع للقراءة بين الكتب المطولات والكتب العلمية الجادة، ووفقت المترجمة في اقتناص شطر الكلمة. لا بأس به.