غَلَبَ على «العقاد» أسلوب «المراجعة» في معظم أبحاثه ومقالاته؛ وأسلوب المراجعة يعتمد على الرجوع لظروف وأجواء نشأة الفكرة عند الكاتب فيقوِّمها ويُقيمها، ويعضدها بأدلتها الحديثة، فتصبح النظرة شاملة جامعة لكل تفاصيل الفكرة؛ فيُزيل ما اعتراها من غموضٍ أو لَبس. وهنا وبين دفتي هذا الكتاب « مراجعات في الآداب والفنون» مجموعة من المقالات التي نُشِرَ معظمها بجريدة «البلاغ»، وقَفَها الكاتب على الفنون والآداب دون غيرها، مراعيًا فيها منهجه البحثي المعتمد على تأصيل الفكرة ومراجعتها، هادمًا لأقاويل منتقديه بأنه يجافي الواقع ويبتعد عنه؛ إذ يؤكد على أن هذا المنهج يجعل الواقع يمتد لآفاق أبعد من بعض القِيَم التي تتعمد حصر الواقع في أشخاص وأقدار زمنية محدودة المقاصد والغايات.مراجعات في الآداب والفنون
ولد العقاد في أسوان في 29 شوال 1306 هـ - 28 يونيو 1889 وتخرج من المدرسة الإبتدائية سنة 1903. أسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري "مدرسة الديوان"، وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق. عمل العقاد بمصنع للحرير في مدينة دمياط، وعمل بالسكك الحديدية لأنه لم ينل من التعليم حظا وافرا حيث حصل على الشهادة الإبتدائية فقط، لكنه في الوقت نفسه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات، وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب.
التحق بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نقل إلى محافظة الشرقية مل العقاد العمل الروتيني، فعمل بمصلحة البرق، ولكنه لم يعمر فيها كسابقتها، فاتجه إلى العمل بالصحافة مستعينا بثقافته وسعة إطلاعه، فاشترك مع محمد فريد وجدي في إصدار صحيفة الدستور، وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه. وتوقفت الصحيفة بعد فترة، وهو ماجعل العقاد يبحث عن عمل يقتات منه، فاضطرإلى إعطاء بعض الدروس ليحصل على قوت يومه.
لم يتوقف إنتاجه الأدبي أبدا، رغم ما مر به من ظروف قاسية؛ حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات. منحه الرئيس المصري جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب غير أنه رفض تسلمها، كما رفض الدكتوراة الفخرية من جامعة القاهرة. اشتهر بمعاركه الفكرية مع الدكتور زكي مبارك والأديب الفذ مصطفى صادق الرافعي والدكتور العراقي مصطفى جواد والدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ.
العقاد شديد العظمة في أفكاره، في كل كلمة يكتبها، في كل نفحة من نفحات عقله العظيم . هو هبة من هبات الله لهذا البلد وهذه اللغة ، هو هدية من السماء ومفخرة لأي أمة ينتمي إليها. الكتاب يحمل الاسم الأكثر مناسبة له، مراجعات في الاداب الفنون. مقالات متنوعة عن موضوعات بين السياسة والأدب والدين والفلسفة. مقالات في معني الفن ومعني الجمال، وأراء الفلاسفة مثل شوبنهور في الموضوع. مقالات في علم الأخلاق. مقالات عن شخصيات وادبهم وانتاجهم العقلي والمعرفي. من أهم المقالاتت التي كتبها: مقاله عن المنفلوطي، فله فيه رأي شديد الجرأة، وكلامه عن سيد درويش عبقري الموسيقي كان فاتحة للتعرف علي هذا العبقري، مقالات عديدة من مفكر كبير تعتبر غذاء حقيقي لكل عقل جائع ومتذوق للفكر والادب.
"وكاتب هذه السطور يقول ولا يجمجم في مقاله: إنني لو علمت أن قصارى ما أسمو إليه بالأدب أن أروّح بأوراقي على وجه القارئ كما يروّح الخادم بالمروحة على وجه سيده المنصرف عنه بنعاسه وشجونه لما كتبت حرفاً ولا فتحت كتاباً ولاخترت-إن خيّرت بين الاثنين-أن يروّح الناس على وجهي بدرهم أبذله على أن أروّح على وجوه الناس بما أبذل فيه كنانة نفسي وذخيرة عقلي وخلاصة ما أنفقت من أنفاس حياتي، ولكني أكتب وأعلم أن ليست كل الواجبات علي وحدي وأن ليست كل الحقوق للقارئ وحده، وأعلم أنني أكتب فأتحدث بخير ما أتحدث به لسامعيَّ فمن حقي عليهم أن يتيقظوا لما أحدثهم به وألا يكلفوني المضي في الكلام وهم بين الإصغاء والتهويم!"
ما أحسن وأروع العقاد، ما أحسن ما يكتب عنه من موضوعات، وما أحسن ما يكتبه أياً يكن الموضوع، بل لم لا أقول ما أحسن العقاد كله، شخصية وقلماً، وإنساناً وكاتباً! حين يشاء الخبثاء أن يغمزوا العقاد ولا يجدوا فيه مغمزاً ينتهون إلى ذم جدّه المفرط وافتقاره لحسّ الفكاهة، كأنما الأديب مهرّج لا تتم حليته بغير الأصباغ الفاقعة والملابس المتنافرة بقصد الإضحاك. العقاد رجل عاش من ثقب القلم زمن المجاعة، وذلك في سبيل غاية نبيلة آمن بإمكان بلوغها، واعتقد فيها عقيدة يدعو إليها قرّاءه ويذود عنها أعداءه، تلك الغاية هي الترقي بالآداب العربية بعد إحياء ميتها وتقويم معوجّها وإغنائها من فقرها، وبثّ الحياة حارّة متجددة في عروقها الباردة الراكدة كي تصير تلك الآداب جزءاً من الحياة ووحياً منها، لا مجرد تهاويم أفراد عاشوا في الحياة ثم غادروها فلم يتركوا فيها من الآثار الحية شيئاً يستحق الخلود ولا يلحقه الموت ويحتويه قبر النسيان المظلم.
سبع وعشرون مقالة قصيرة كُتبت في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، أحسن ما توصف به أنها تعبير العقاد عن الحياة، أو قضايا الحياة في وجدان العقاد، فالعقاد وإن لم يفارق مكتبته فإنه كذلك لم يعتزل الحياة. وهنا نقول بعد مئة عام على كتابة هذه المقالات أننا وجدناها ملائمة لسياق حياتنا، ما زالت موضوعاتها داخلة في حاجاتنا ومباحثنا وأفكارنا، ولا أدري هل آسى على مئة عام لم يتغير فيها العرب، أم أفرح لمئة عام لم تصب العقاد بالبلى والرثاثة بل كسته عتاقة السابقين وسبقهم؟
يسترعي النظر في هذا المجموع محاولتان في القصة القصيرة للعقاد «بائع القلوب» و«مذكرات إبليس»، لعلهما لا ينالان من استحسان ناقد القصة القصيرة شيئاً ولكنهما على ذلك شيء طريف المنزع من الكاتب الكبير، فإنه مقلّ جداً في هذا الجانب.
عبقرية العقاد تتجلى في كل حرف وفي كل كلمة وفي كل معنى وفي كل مراجعة. جمال في الاسلوب وفي الفكر. احاسيس مرهفة عميقة في كل سطر . فيلسوف يكتب بقلبه. عباراته وتحليلاته تترك معاني في القلوب والعقول. سلمت يداه ورحمه الله هو ومن ساعده على جمع هذه النخبة من المقالات العظيمة. اقرأها واجد ان العقاد كتب قبل خمسين عاما فكرا يسبق المستقبل مئة عام