يضم الكتاب ديوان العباس بن الأحنف، ويعكس ما في شعره من ذوب الغنائية ورحيق الوجدانية، إلى جانبن بذة عن سيرته في حبه وأخباره في بيئته وعصره وآراء الأدباء في شاعريته حيث مثل النموذج الأمثل الجامع بين المذهبين الواقعي والرومانسي في الغزل العربي.
العبّاس بن الأحنف بن الأسود، الحنفي (نسبة إلى بني حنيفة)، اليمامي، أبو الفضل. شاعر غَزِل رقيق، قال فيه البحتري: أغزل الناس، أصله من اليمامة بنجد، وكان أهله في البصرة وبها مات أبوه ونشأ ببغداد وتوفي بها، وقيل بالبصرة. خالف الشعراء في طريقتهم فلم يتكسب بالشعر، وكان أكثر شعره بالغزل (شعر) والنسيب والوصف، ولم يتجاوزه إلى المديح والهجاء، وأشاد به المبرد في كتاب الروضة وفضله على نظرائه حين قال: وكان العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزلا ولم يكن فاسقا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب، شديد الترف، وذلك بين في شعره، وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلو مقبولا غزلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده ولم يكن هجاءاً ولا مداحا....
الذي ذهب إليه المبرد أيده اخرون منهم أبو الفرج القائل:كان العباس شاعرا غزلا شريفا مطبوعا من شعراء الدولة العباسية، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق ولمعانيه عذوبة ولطف". وفي ذلك يقول الجاحظ:
«لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا، ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح لا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا فأحسن فيه وأكثر»...
أخبر محمد بن يحيى عن ابن ذكوان، أنه قال :" سمعت إبراهيم بن العباس يصف -ابن الأحنف- فيقول: كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعه أن يسكت، وكان فصيحا جميلا ظريف اللسان، لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت".
من شعره الغنائي قوله:
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ولا خير فيمن لا يحب ويعشق .
رغم انني لست من المعجبين بالشعر الغزلي لكن غزلية بن الاحنف مختلفه فقلت هنيالك يا فوز اكل هذا كتب لك؟! :) شاعرية تلامس الشعور بشفافية ورقة وتحرك ما هو كامن بسكون فينا حتى وان كان غامضا مبهما مغلقاً مجهولاً لا بد ان تتزحلق ابتسامات ضاحكة تارة وساخرة تارة اخرى مما يختلجنا حتى وان لم نعرف مصدر هذا الشعور وكنهه!!!
شـآمْ .. أما آنَ لهذه الأرواح أنْ ترجعَ إليكِ راضيَّة مرضيَّة و أما آنَ لهذا الليلِ الطويلِ أنْ ينجلي ، الديوان بالمجمل جميل كان لي عدَّة وقفات معه ، لكنْ هذه الأبيات بالتحديد تعودُ بي ذكرياتها إلى هُناك ، هُناكَ حيثُ الحبُّ كلُّه ..
كَتَبَ المُحِبُّ إِلى الحَبيبِ رِسالَةً و َالعَينُ مِنهُ ما تَجِفُّ مِنَ البُكا
وَ الجِسمُ مِنهُ قَد أَضَرَّ بِهِ البِلىْ و القَلبُ مِنهُ ما يُطاوِعُ مَن نَهى
العباس بن الأحنف رائع رغم أني ما أنهيت الديوان لسبب أجهله ربما يكون النسخة الإلكترونية أحدها، رديئة جدًا. الأكيد أني سأعود لقصائد العباس بن الأحنف دائمًا لأن لمثل هذا الشعر نعود. ممتنة للصديقة التي رشحت لي القراءة له ومثل نصيحتها أقول:ـ
إن لم تُفكّر بقراءة الديوان لا تبخل على ذائقتك بالتعرف على الشاعر مرة أخرى، رائع.ـ
ولمّا حرصت عليها تعجّبت وحق على المعشوق أن يتعجّبا!
(الدّيوان والكتَاب الأفضل لهذا العَام)
لطَالما كان العَباس بن الأحنف شاعري المُفضل ، اقرأ أبياته وأشعر أني أغني ألحاناً عذبة ، لا مجرد كلمات ! العباس بن الأحنف هو أبو الفضل عباس بن الأحنف شاعر عباسي ، تغني في قصائدي بمحبوبة قلبه (فوز)الذي هو اسم مستعار ، لأنها كانت كثيرة الفوز بالمسابقات والمنافسات كي لا يصرح باسمها . قال عنه البحتري :"أنه أغزل النّاس ، خالف الشعراء ، فلم يكتسب بالشّعر ، وكان أكثر شعره الغزل ولم يتجاوزه إلى المديح والهجاء وأشيد به كثيراً فقيل عنه أيضاً :" كان من الظرفاء ولم يكن من الخلعاء وكان غزلاً ولم يكن فاسقاً وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد الترف ، وكان غزير الفكر واسع الكلام ، كثير التصرف في الغزل " القصائد الجميلة والرقيقة كثيرة ، بل أن يدِي تعبت من كثرة تدوين الأبيات التي آسرت لبّ الفؤاد.
أيا من زرعت له في الفؤاد حباً حديثاً وحباً قديما هجرتك لما رأيت الجفا وإن كان هجرك عندي عظيما صبّرت نفسي فلما رأيت أن التصبر لن يستقيما وضعتُ لك الخد فوق التراب إني أرى ذاك غنماً جسيما وكم قد ذكرتك في ليلةٍ فبت لذكراك أرعى النّجوم إذ ما تذكرت فيك الوشاة فاضت لذاك دموعي سجوما ***** إن الهوى لو كان ينفذ حكمي أو قضائي لطلبته وجمعته من كل أرض أو سماء فنعيش ما عشنا على محض المودّة والصفا حتى إذا متنا جميعاً والأمور إلى فناء مات الهوى من بعدنا أو عاش في أهل الوفاء
***** ما ضر من شغل الفؤاد بحبه لو كان عللني بوعدٍ كاذب صبراً عليه فما أرى لي حيلةً إلا التمسّك بالرجء الخائب سأموت من مطل وتبقى حاجتي فيما لديك وما لها من طالب! *** ابكى الذين أذاقوني مودتهم حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا إستتنهضوني فلما قمتُ منتصباً من ثقل ما حملوا من ودهم قاعدوا جاروا عليا ولم يوفوا بوعدهم قد كنت أحسبهم يوفون إذا عهدوا ألفيت بيني وبين الهم معرفة لا تنقضي أبداً او ينقضي الأبد لأخرجن من الدنيا وحبكم بين الجوانح لم يشعر به أحد
من أرقّ الشعراء وأحبّهم إلى قلبي.. من أولئك الذين يدخل الشعر القلب فيحرك فيه سكون العاطفة ويلطفه بعد أن قست عليه ميكانيكية الحياة يميّز الشاعر أنه تخصّص بلون واحد من الشعر
أحسد فوز على هالديوان 😍❤️✨ “لماذا تكرّهت رد السلام .. أيُفسدُ ذاك عليك الصيامَ ؟ والله مايسعُ المسلمين في الدين ان لا يردّوا السلامَ.. فمن كان أفتاك حتى رأيتَ قتلي حلالًا و وصْلي حرَامَ ؟”
أغزل الشعراء، أو أغزل الناس هذا رأي الشاعر البحتري في العباس شكرا لفوز التي ألهمت الشاعر كل هذه المشاعر ففزنا بإبداع في رقة النسيم وخفة الطل القصة داخل القصيدة جمال ووحدة وتماسك ودراما وتشويق
وَإِن تَكُ فَوزٌ باعَدَتنا وَأَعرَضَت وَأَصبَحَ باقي حَبلِها ��َتَقَضَّبُ
طرقَ اسم صاحب هذا الديوان بَصري للمرة الأولى أثناء قراءتي لمقالٍ من كتابة "طه حسين" كان قد أُدرِج كمقدمة لديوان "عمر بن أبي ربيعة"؛ ورغم أن الأول جاءَ في مقاله مُقلِّلاً من شأن ومكانة شِعر صاحب ديواننا الحالي بصيغةٍ أخرى يمكننا القول أنه كان يَراه "شِعرَ هُواة"! إلا أنّ مجرد معرفة أنه جاء في ديوانه هذا ناظماً في فنٍّ واحد من الشِّعر ألا وهو الفن المحبَّب لي من بين جميع صنوف الشِّعر؛ "الشِّعر الغزلي"... كان هذا كافياً لأقوم بتحميله من فوري...
وقد كنتُ بدأت قراءة ديوان "ابن ربيعة" في فترة الامتحانات ورغم استمتاعي به إلا أنني وجدتُ أنه غيرُ مناسب لي في هذه الفترة -رغم أنني ظننتُ العكس في البداية-، حيث أنني كنتُ أريدُ شِعراً بسيطاً ملامساً للقلب دون عناء ولم أكن محبذةً آنذاك الاستمرار في قراءة النبرة الأرستقراطية التي امتاز بها شعر "عُمر"... فبرزَ أمامي حينها اسم "العباس"، لأعتذر من "عُمر" وأتجِّه صوبَ ديوان الأول!
بدأتُ ديوان العباس بن الأحنف وأنا أتجهز لامتحان مادة علم وظائف الأعضاء "رسالة من المستقبل: لقد كان امتحاناً أبعد ما يكون عن العدل؛ ولكنني مع ذلك سأقول للمادة مثلما قال البهاء زهير في ديوانه: سأهواكَ في الحالينِ سُخطكَ والرضا وأرضاكَ في الحُكمَينِ جورِكَ والعدلِ"
وكانت من المُقاربات اللطيفة أنني كنت أدرس تحديداً الجهاز القلبي الوعائي، فبينما أدرس ما يتعلق بالمدعو "قلب" طبيّاً، أُحاولُ أن أدرس قلبَ العباس نفسياً وروحياً؛ ذلك القلب الذي وصفه بقوله:
فؤادي بين أضلاعي غريبُ ينادي من يحب فلا يجيبُ أحاط به البلاء فكُلَّ يومٍ تعاوده الصَّبابة والكُروب لقد جلب البلاءَ عليَّ قلبي وقلبي ما علمتُ له جلوبُ فإن تكنِ القلوبُ مثالَ قلبي فلا كانت إذاً تلك القلوبُ!
_____________________________________________
دعونا الآن نتعرض لقصة هذا المرض الذي اُبتُليَ به العباس بشيءٍ من التفصيل من خلال قراءتنا للمخطط القلبي لهذا الديوان...
ولو أنّ لي تسعينَ قلباً تشاغلتْ جميعاً فلم يَفرُغ إلى غيرها قلبُ
فَوْز؛ ذلك كان الاسم الذي اختاره العباس ليُواري به الاسم الحقيقي لمحبوبتِه، ويُقال أنه اختاره لها لكثرة فَوْزها... وقد برع العباس في تَورية هوية محبوبته أيما بَراعة رُغم كل المحاولات التي بُذِلَت لمعرفتها إلا أنه كان يرى في مذهب السِّتر على المحبوبة دلالةً على صدق المحبة والإخلاص فيه وصونٌ لمَن سكنت القلب.
وإذا سُئلتُ عن التي شغفتْ قلبي وكلتُهُم إلى أخرى مازلتُ أكذبُهم وأكتمُهم حتى شُهِرتُ بغيرِ مَن أهوى
كانت قصة الحُبِّ هذه أشبه باستنزاف قلبي لا ينتهي، فالعباس كما صوّر لنا نفسه بأنه محَط أنظار وطلب النساء من حوله إلا أنه لم يكن يَرى غيرَ "فَوْز" في قلبه فكان إذ ذاك ملزماً نفسه بالإخلاص والوفاء لها طيلة الدهر...
فأُقسمُ ما خانتكِ عيني بنظرةٍ إليها، ولا كفّي، ولا خانكِ القلبُ
وإني لأَقلي بذلَ غيركِ فاعلمي وبخلكِ في نظري ألذ وأطيبُ
ولكن في المقابل "فوْز" كانت مُبتلاةً ببلاءٍ شديد "أحسب أنني مبتليةٌ بشيءٍ منه" ألا وهو المَلل! "وإن المَلَّةَ الداءُ العَياء"... فتراها بالأمس واصلةً للعباس مقرِّبةً له، وتراها اليوم مجافيةً له مباعدةً متخذةً من أي علة كانت ولو بالأخذ بقول الوشاة والتشكيك في صِدق ووفاء ابن الأحنف لها ذريعةً للصدِّ عنه وما ذلك إلا تغطيةً لمَللها في الحقيقة...
مَلَّ فما تعطِفُهُ رحمةٌ واتخذ العِلاتِ أعوانا
ويظل الحال بينهما ما بين اتصالٍ وهجران حسب ما يأمر به سلطان الملل عند فوز التي أطلق عليها العباس اسماً آخر يصفُها خير ما وصف؛ ألا وهو "ظلوم"! فقد كانت بحق ظالمة... وربما أيضاً مظلومة فهل يُحاسب المرء على داءٍ يفتكُ به وإن كان الملل؟!
وما كانت حيلة العباس إذ ذاك إلا أن يُعرِض عن فوز "إن الملولَ دواؤهُ الهجرُ"؛ وقد قال ابن حزم في ذلك: "وأمّا مَن تَزيّا باسم الحب وهو مَلول فليس منهم". ويوافقه العباس بقوله: سبحانَ من خلقَ الملولَ ملولاً لا يستطيعُ إلى الودادِ سبيلا
ويقول ابن حزم لمن أُبتلي بحب ملول أن يوافق مزاج مَلَلِه فيبتعد ويقترب بناءً عليه؛ وهذا ما كان في استطاعة العباس.
رغم أن فوز كما أشار العباس في ديوانه كانت تتقرب منه في البداية لتحظى بإعجابه إلا أنها ما أن أدركت تمكنها من قلبه حتى جانبَته، إنه يشير هنا لتلك الصفة التي تعتري كثيراً منا، نريد الشيء ونفعل كل شيء لامتلاكه وما أن نحصل عليه حتى لا يعود بذي قيمة معتبرة لدينا!
وقد وثِقتْ بالصدقِ منكَ فأصبحتْ تزيدُكَ بُعداً كلما زدتَها قُربا
ما أَراني إلا سأهجرُ من ليس يَراني أقوى على الهِجران مَلَّني واثقاً بحسنِ وفائي ما أضرَّ الوفاءَ بالإنسان!
رأيتكِ مرةً تهوين وصلي وأنتِ اليوم تهوين اجتنابي وغيركِ الزمان وكل شيءٍ يصير إلى التغير والذهابِ فإن يكنِ الصوابُ لديكِ قتلي فعمّاكِ الإله عن الصوابِ
فلئن رددتِ رسالتي وشتمتني فلطالما ناديتِني يا سيدي!
أبكي الذين أذاقوني مودتهُم حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلمّا قمتُ منتصباً بثِقل ما حمّلوا من ودِّهم قعَدوا
لَم يكفِ حكم الملل في العلاقة ما بين ظلوم وابن الأحنف بل زادها ارتحال فوز للحجاز فيما بقي العباس في العراق يبكي فوزاً وحظ قلبه.
لم يُفقَدِ الوُّدُّ من قلبي لمَفقدِها لكن قلبي غداة البيْن قد فُقدا!
إنه قصة قلبين؛ قلب معذب ذليل لا يملك من أمره شيئاً "كَلَّ عن وصفِ ما لقيتُ لساني!" وقلب عزيز لا مبالٍ بما يجرّه من ويلات على القلب الأول.
شَكونا إلى أحبابِنا طولَ ليلِنا فقالوا لنا: ما أقصرَ الليلَ عندنا!
نقرأ من خلال الديوان ما هو أشبه باليوميات عن حال قلب العباس وحبه لفوز؛ وعن مرضها، وارتحالها، والدور الذي لعبه الوشاة بينهما، ومللها، والمُغريات التي تعترض طريق العباس فيُعرِض عنها، وكثرة التجني والعتاب الذي طوّق هذه العلاقة.
فلا تستنكروا غضبي عليكم فلو هُنتم عليَّ لما غضِبت
علامةُ كلِّ اثنينِ بينهما هوًى عتابُهما في كل حق وباطل
حقاً شعرتُ بالأسى يعتصر قلبي تجاه العباس وبالحنق الشديد أحياناَ تجاه ظلوم-مع الخوف الذي اعتراني إثر تشابه شخصياتِنا أحيانا-!! ولكن أعود وأقول أننا قرأنا عن قصة الحب هذه من طرفٍ واحد، طرف ابن الأحنف، ولَم نقرأ عنها من وجهة نظر فوز... والحُب أحياناً يقبل وجهات النظر. _____________________________________________
دعونا أخيراً نتحدث من الزاوية التي تحدث عنها طه حسين؛ أدبياً.
حسناً؛ كما أسلفت بالذكر فقد جذبني تخصُّص شعر العباس في فن واحد من فنون الشعر ألا وهو الغزل وابتعاده عن المدح ذلك الذي كان الشعراء في عصره، العصر العباسي يتسابقون فيه ليَحظو بالمكافآة المُجزية. ولكن ما قلل من شأن هذا الديوان من وجهة نظري هو أن لا إبداع في الصور الشعرية فيه، فحتى لو كان قد جاء في فن واحد فهذا لا يُبرّر التكرار المغرِق فيه. بالإضافة لذلك، فقد جاء في كثيرٍ منه سطحياً خفيفاً لا أثر لقوة اللغة فيه. صحيح أنك ستخرج منه بعدد كبير من الاقتباسات؛ ولكنك لن تجد إلا القليل مما يجعل قلبك يقف مشدوهاً إليه.
وما تقييمي لهذا الديوان بأربع نجوم إلا لأنني استمتعتُ بقراءته وكان نعم الرفيق في فترة صعبة أمرُّ بها، فيمكنكم القول أنه تقييمٌ بدافع العشرة! _____________________________________________
قبل أن أختم هذه المراجعة؛ لا أود أن أنسى الإشارة لفائدة غاية في الأهمية أدركتُ نموذجاً آخر لها من خلال هذا الديوان؛ ومتمثلة في البيت الشعري التالي:
"طافَ الهَوى بعبادِ اللهِ كلِّهِمُ حتى إذا مَرَّ بي مِنْ بينهم وَقفَا"
هل سبق وتساءلتُم عن مدى خطورة القراءة خارج النَّص/السياق؟!
حسناً؛ أنا اليوم تساءلتُ عن ذلك! _________________________
أحسبُ أن البيت الشِّعري الذي استفتحتُ به قد مرَّ على أبصاركم أو أسماعِكُم يوماً... ومثل الكثير كنتُ كلما صادفني في هذا العالم الافتراضي أستشعرُ جماليّته وفكاهته المتخفيّة، فقد كنتُ أحسب أنهُ يعني أن الهَوى "الحُب" مرَّ بقلوبِ الناس أجمعين وعاشوا هذا المعنى؛ ولكن صاحب هذه الأبيات كان استثناءً من ذلك حيثُ أن الحبَّ وقف عنده ولم يطرق باب قلبه... هذا ما كنتُ أظنُّه كما كان يظنه كثيرون! _________________________
اليوم؛ وبينما كنتُ أقرأ في ديوان العبّاس بن الأحنف "صاحب البيت سابق الذِّكر"؛ إذ بهذا البيت يُصادفني في إحدى القصائد، وكعادتي حينما أصادف قولاً جميلاً لقلبي في مصدره الأصلي شعرتُ بشيءٍ منَ السعادة.
ولكن؛ انتظروا قليلاً... إن معنى البيت ضمن سياق القصيدة لا يدل بتاتاً على المعنى الأول الذي لطالما فهِمناه! _________________________
حينما نقرأ هذا البيت في سياقِه الشِّعري سنجِد أنه جاء في سياق من تعبير الشاعر عن ما يُلاقيه من سَوْرة الحُب وألمه الذي فاق فيه أصحاب الهوى كلهم، هذا الهوى الملازمُ لقلبه والذي يأبى الرحيل.
ومن هُنا، جاءت القراءة الثانية "ضمن السياق" لمعنى بيت العباس الشَّهير؛ إنه يُعبّر من خلاله على مُرور الهوى/الحُب بالناس جميعاً دون أن يستوقفَه أحدٌ منهم فيطرق باب قلبه ليسكُنَ فيه؛ ولكنه حينما مرَّ بابن العبّاس كان هو مُختارَه ليَبتليه بسُكنى قلبِه؛ أي أن الحب اختاره دون الناس جميعاً ليعيشَه ويعيشَ فيه "أو يموت!". ____________________________
هذا المعنى السِّياقي لهذا البيت؛ هو الضِّد من المعنى الأول الذي لطالما تغنّى بهِ كثيرون!
ومن هذا المُنطلَق؛ بإمكاننا أن نُدرك كيف يمكن أن يلعب السِّياق دوراً محوريّاً في فهم أي نَص؛ وهذا لا يتوقف عند حدود الأدب إنما يتعداه للحياة... فقراءة الأحداث ضمن سياقِها من الأهمية والخطورة بمَكان! _____________________________________________
"والحب لا يعلقُ إلا الكِرام!"... وقد كان العباس كريماً لا شك!
ديوان العباس بن الأحنف .. ديوان كله في الغزل عدا قصائد تعد على أصابع اليد الواحدة وقد برع الشاعر في براعة تجعلك لا تمل رغم وحدة موضوع الديوان, ففي كل قصيدة تجد من المعاني الخلابة تجب ما قبلها من الأفكار المكررة, وذلك في لغة عذبة سهلة لا تعقيد فيها
اشتمل الديوان على مجموعة من القصائد الغزلية العذرية الجميلة والعذبة التي يرق لها القلب، والتي قيلت في "فوز" الاسم المستعار الذي اختاره العباس بن الأحنف لحبيبته كي لا يصرح بها مباشرة.
خلو الديوان من التعقيد سهل على القارئ تجرعه كالماء الزلال.
والله لا أعلم، كنتُ في ما خلا من سنين عمري لا أحب ولا أطيق قراءة صفحتين متتاليتين من أشعار العشّاق المخضرمين الذين لا ينظمون شيئاً سوى في محبوباتهم (لا رثاء ولا مدح ولا هجاء، فقط تغزل)مثل العباس ومجنون ليلى. وكنت أنظر لهم بعين المشفق على انشغالهم بهذا السخف عن ما يرفع الشاعر حقاً من فخر وهجاء.
حتّى رمتني صروف الزمان وغيّرني مرُّ الليالي وانصرام الأيام فأصبحت أطرب لهم ويشق شعرهم الابتسامة تلو الابتسامة على وجهي. فسبحان مقلب القلوب والأهواء.
يُحكى أنّه توفّي أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وابراهيم الموصلي في يوم واحد، فأمر الخليفة الرشيد ابنه المأمون بالصلاة عليهم، فجاءهم وقد صُفّوا في موضع الجنائز، فقال: من قدّمتم؟ قال الناس: ابراهيم. فقال: أخّروه وقدموا عبّاساً. فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الظاهرية وقال له: أيها الأمير، بِمَ قدّمت عبّاساً؟ فقال: يا فضولي بقوله:
سَمّاكِ لي قومٌ وقالوا إنّها لهيَ التي تَشقى بِها وتُكابِدُ
فجحدتُهم ليكون غيركِ ظنّهم إنّي ليُعجبني المُحِبُّ الجاحِدُ
تُعمينا الحياة وملذّاتها ،فتُنسينا المعنى،ومن النّاسِ من يرى وما هو بمبصرٍ ،حتّى يصير قلبه مثل صخرة،لا تبرح مكانها .. فإذا جاء ينبوع الشّعر حرّكها، وشقّها لنصفين .. فما أعظم الشّعر .. وما أحلاه ..
مضى رسول حمزاتوف حياته باحثًا عن حكمة الجبل،فوجدها، كما لو أن مؤمنًا وجد ضالته: "السلاح الذي تحتاجه مرة عليك أن تحمله العمر كله "
وعبّاس بن الأحنف حملَ هذا السّلاح طوال حياته : "الغزل" ..
"كان العبّاس من الظّرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غَزِلًا ولم يكن فاسقًا، وكان ظاهر النّعمة ملوكي المذهب شديد التّرف، وذلك بيّن في شعره، وكان قصده الغزل وشغله النّسيب، وكان حلوًا قبولًا غَزِلًا غزير الفكر واسع الكلام كثير التّصرف في الغزل وحده، ولم يكن هجّاءً ولا مدّاحًا" *
عباس بن الأحنف شاعر من العصر العباسي ، أصله من اليمامة (نجد) لكنه نشأ وعاش في العراق ، كان شاعراََ مغموراََ اذ اشتهرت له أبيات كانت تنسب لغيره بينما هو من كتبها ، تخصص في شعر الغزل اذ لم يكتب غيره وكان غزله عذري عفيف ، عندما تقرأ ديوانه لا تملك إلا أن تقول : الله! ، عذوبة وانسياب في الكلمات والمعاني لا مثيل لها ، وسهولة في فهم المعنى اذ قلما يصعب عليك فهم قصائده ، أخفى هوية محبوبته (فوز) ويقال أن هذا ليس اسمها الحقيقي واختلفت الأقاويل حول هويتها هل هي جارية أم حرّة ، فوز ألهمت قريحته ليترك لنا إرثًا جميلًا من القصائد العذبة…
وإني لأستهدي الرياح سلامكم … إذا أقبلت من نحوكم بهبوب وأسألها حمل السلام إليكم … فإن هي يوماً بلّغت فأجيبي أرى البين يشكوه الاحبة كلهم … فيارب قرّب دار كل حبيب
"قد كنت أَرجو وصلكم فظللت مُنقطع الرجاء أنت التي وكّلت عيني بالسُهاد وبالبكاء إِن الهوى لو كان ينفذ فيه حكمي أو قضائي لَطلبته وجمعته من كل أرضٍ أو سماء فقسمته بيني وبين حبيب نفسي بالسواء فنعيش ما عشنا على محض المودة والصفاء حتى إذا متنا جميعًا والأمور إلى فناء مات الهوى من بعدنا أو عاش في أهل الوفاء"
هنيئاً لفوز وهوى فوز، إذ أخرجت لنا من هذا الرجل الصلب؛ شاعرًا يوزن الكلمة ويحيك الشعر الغزلي بأسلوب عذري لا فاسق.. اقرأه بين الحين والآخر، من شدة روعته وسهولة فهم ابياته. وهذه الأبيات من افضل ما قرأت:
قد خِفتُ ألّا أراكُم آخِر الأبدِ" وأن أموتَ بِهَذا الشوقِ والكَمَدِ تَتَبَّعَ الحُبُّ روحي في مَسالِكِهِ "حَتّى جَرى الحُبُّ مَجرى الروحِ في الجَسَدِ
ليتنا عشنا هذه العصور الزاهيه من اجمل ما قرات واعذبها ابياتا وليت لنا اليوم مثل مالهم من رهف الحس وجمال الوصف التمكن من اللغه . ان اردنا العوده الي ما كنا عليه في يوم من الايام من مكانه بين الامم فليس لنا طريق الا بمثل هذه الدواوين من الادب