عندما رحل علي مزروعي تحدّثت بعض الصحف و وسائل الإعلام العالمية عن “رحيل المثقّف العملاق” و “وفاة صرح فكري”، وغير ذلك من الصفات التي تذكّرت مزروعي كأحد أبرز المفكّرين والأكاديميين في عالمنا المعاصر. كان مزروعي من الشخصيات الثقافيّة العامة، فقد أدخله برنامجه الشهير “الأفارقة” إلى المشهد الإعلامي والجماهيري، بكل ما صاحب البرنامج من ضجّة حينها.
ولد في مومباسا، كينيا، عام 1933، وحصل على شهادة الدكتوراة من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1966. رأس خلال حياته الأكاديمية الحافلة عدداً من أقسام العلوم السياسية في أكثر من جامعة أميركية، إلى أن توفي سنة 2014 في الولايات المتحدة ودُفن في مومباسا بموطنه الكيني. تعدّدت كتابات مزروعي في الدراسات السياسية والاجتماعية الخاصة بإفريقيا، والإسلام، وحقبة ما بعد الاستعمار. كما أفادت ثقافته الواسعة بتنوّعها الإسلامي والإفريقي والغربي في جعله مثقّفاً واصلاً للثقافات، ومخاطباً مؤثراً، ومعرّفاً بقضايا المجتمعات الشرقية، والإفريقية منها على وجه الخصوص.
في هذا الكتاب يناقش مزروعي العلاقة بين الثقافة والقوّة، وتقاطعات السياسة مع الثقافة في أوجهها الأيديولوجية. كما يقدّم هنا أحد أهم النقاشات العميقة لرواية سلمان رشدي ( آيات شيطانيّة)، حيث نحا في نقده للرواية منحىً جديداً لم يسبق إليه: الخيانة الثقافية. وكانت له آراء متّسمة بالجِدّة والأهميّة عن قضايا المرأة في العالم. وإذا كانت بعض الأحداث التي ناقشها مزروعي في كتابه هذا القوى الثقافية في السِّياسة العالميَّة قد مرّ عليها أكثر من عقدين، إلا أنّ جوانبها الفكرية والثقافية لا تزال حاضرة اليوم ربما بأكثر مما مضى وأشدّ أثراً.
Ali Al'amin Mazrui is an academic and political writer on African and Islamic studies and North-South relations. He is an Albert Schweitzer Professor in the Humanities and the Director of the Institute of Global Cultural Studies at the State University of New York at Binghamton.
Mazrui obtained his B.A. with Distinction from Manchester University in Great Britain in 1960, his M.A. from Columbia University in New York in 1961, and his doctorate (DPhil) from Oxford University (Nuffield College) in 1966.
Upon completing his education at Oxford University, Mazrui joined the faculty of Makerere University (Kampala, Uganda), where he served as head of the Department of Political Science and Dean of the Faculty of Social Sciences. He served at Makerere University until 1973, when he was forced into exile by Idi Amin. In 1974, he joined the faculty of the University of Michigan as professor and later was appointed the Director of the Center for Afroamerican and African Studies (1978-1981). In 1989, he was appointed to the faculty of Binghamton University, State University of New York as the Albert Schweitzer Professor in the Humanities and the Director of the Institute of Global Cultural Studies (IGCS).
Mazrui's research interests include African politics, international political culture, political Islam and North-South relations. He is author or co-author of more than twenty books. Mazrui has also published hundreds of articles in major scholastic journals and for public media. He has also served on the editorial boards of more than twenty international scholarly journals. He first rose to prominence as a critic of some of the accepted orthodoxies of African intellectuals in the 1960s and 1970s. He was critical of to African socialism and all strains of Marxism. He argued that communism was a Western import just as unsuited for the African condition as the earlier colonial attempts to install European type governments. He argued that a revised liberalism could help the continent and described himself as a proponent of a unique ideology of African liberalism. At the same time he was a prominent critic of the current world order. He believed the current capitalist system was deeply exploitative of Africa, and that the West rarely if ever lived up to their liberal ideals. He has opposed Western interventions in the developing world, such as the Iraq War. He has also long been a critic of Israel's policies, being one of the first to try and link the treatment of Palestinians with South Africa's apartheid. Especially in recent years, Mazrui has also become a well known commentator on Islam and Islamism. While utterly rejecting violence and terrorism Mazrui has praised some of the anti-imperialist sentiment that plays an important role in modern Islamic fundamentalism. He has also argued that sharia law is not incompatible with democracy. In addition to his written work, Dr. Mazrui was also the creator of the television series The Africans: A Triple Heritage, which was jointly produced by the BBC and the Public Broadcasting Service (WETA, Washington) in association with the Nigerian Television Authority. A book by the same title was jointly published by BBC Publications and Little, Brown and Company.
لو قلتُ إن هذا الكتاب أهمُّ قراءات العام – لي على الأكثر –، لن أكون بهذا مغالية. في الوقتِ نفسه، أقِفُ متعجِّبَةً، هذا أدَقُّ ما يصفني؛ لم اسم علي الأمين مزروعي مغيَّبٌ في الساحة الفِكرية؟ أعني لم لا يُحتفَى به ويُفاخَر لهذهِ الجِدَّةِ والأصالة في طرحِ القضايا وتناولها بوَعي وَبصيرة نافذة وقلم ناقدٍ لا يُحابي متقنٍ لمَّاحٍ فَطِن. ولست أغالي حتى الآن. تقليديًّا نقول إنه يضع النُّقاط على الحروف. ولكنه ببساطة يُظهِرُ الأشياء كما هي عليه. هذا الكتاب الثاني الذي أقرؤه لعلي الأمين مزروعي والشُّكر في ذلك متبوع للأستاذ القدير أحمد المعيني الذي ترجمَ كتابَيه وعلَّقَ عليهما. زادَ اهتمامي بالكاتب الألمعي هذا الذي لا يُنظَر إليه كثيرًا وهو جديرٌ بالالتفات في منتصف القراءتين، أو بطريقةٍ أخرى، بعد قراءة الكتاب الأول «براهمة العالم ومنبوذوه» الذي صَدَرَ عن مجلة نزوى في عددها الخامس والعشرين وكان بذلك احتفاءً ربعيًّا مميَّزًا حقَّت له صفت وقبل قراءةِ هذا الكِتاب، حين تَرْجمتُ «الكُتَّاب في السياسة» لنغوغي وا-ثيونغو؛ إذ وَرَدَ اسمه إشارةً مَرجعيَّةً إلى كتابه «القيم السياسية والطبقة المتعلمة في إفريقيا»، الصادر عن دار هايِنمَن في لندن عام ۱٩٧٨م، في أولَى مقالات الكتاب المُعنوَنة بـ«سياسات الشَّريعة» ضمن قسم «الأدب والمجتمع»، فكان يقول قاصدًا إفريقيا: «لم تكن هنالك إلا الظلمة، والظلمة ليست شأن التاريخ». وَتصدَّى مزروعي لهذه الظلمة بكتاباته الشافية والكاشفَة عن المموَّهَات من الحقائق والمُشَوَّهِ من المفاهيم في الإطارين المحلي والعالمي.
صوت مَزروعي هو صوتُ ذلك المُسن الذي يخاطِبُ أحفاده ناصحًا إياهم ومُحذِّرًا ومنبهًا، ولكن القليل منهم يأبَه. أشَار في كلمة شكره أول الكتاب إلى أن فرِد برايجر وجيمس كاري هما من شَجَّعَاه على جمع أفكاره حول دور الثقافة في السياسة العالميَّة في كتابٍ هو هذا. يُظهر الكاتب الذَّهِن امتنانه لهما إلى جانبِ أسماء أخرى ساعدت بطريقتها في ظهور عملٍ ثقيلٍ حمَّالٍ بأفكار تدور حول العالم من أقصاه لأقصاه، لنَقل سياسته على وجهِ الدِّقَةِ. يُقسَّمُ الكتاب إلى ثلاثة أقسام وأربع عشرة مقالة موزَّعة بينها. يتقصَّى مزروعي بسلاسة اجتياح الثقافة للتاريخ بمعاينة حدودها العالميَّة وبيان أوجه الهيمنة، بدءًا من الساميِّين وحتى الأنگلوسكسونيِّين، ولا يغفل في هذا عن ملامح الإيديولوجيا والقوة في قوى السوق، بالمقارنة بين محمَّد عليه الصلوات والسلام وماركس في المفهومين معًا.
لا يَرعوي في هذا عن تناول الخيانة الثقافية وسياسات الرَّقابة في الأدَبِ بين عالمين اثنين ودينين، هما ثقافتين مختلفتين. يسأل في مقاله ويسائِلُ استنكارًا قضية الصمم الأميركي؛ «هل ستستمع لنا أميركا يومًا؟» ولنا هنا إشارة للعالم الثالث الذي يتلقَّى من الشمال ولا يُتلقَّى منه شيءٌ قيد أنملة. يَمضي إلى عرض التصورات التي تشيع ويُروَّجُ لها في محاولة إثبات تفوق عِرق على آخر في الأداء العقلي الذي لم يكن إلا محاولة لإثبات كيانٍ تلمودي، لإثبات وجودٍ واصطفاءٍ دون البشر أجمع؛ صراع بقاء الشعب المختار وحق امتلاك الأرض والميزات! تُرهات بلا شك وخيبات.
يُعوِّل الكاتب على الشباب وثوراتهم. ويأتي بمثالين حيَّين هما الانتفاضَة الفلسطينية وربيع بكين. وفي خضم هذا كله، يظهَرُ لنا اهتمام الكاتب واعتناؤه بمفهوم النسوية المغلوط، بتوضيحه الدلالة السليمة والأهداف المرجوة التي قد تُنْقَذ بها البشرية بشكلٍ ما، إن لم يتطرَّف البشر إزاء المفاهيم ويتأزم تباعًا فهمها. لم تكن أزمتُنا يومًا إلا المفاهيم!
البحث عن التغيير هو المطلب الذي يتوخَّاهُ مَزروعي. فهل من مَخرجٍ؟
كنتُ أتوقَّفُ عند معظم المقالات. آخذ وقتي؛ آنَسُ وأعزِّي نفسي وأواصلُ. هكذا مررتُ وكم سرَّني المرور! وأثناء ذلك، كنت أدوِّنُ أيضًا في دفتر صغيرٍ بعض النُّقاط التي شُدِهتَ بها أكثر عن غيرها وهي: «الفهم الخاطئ للرأسمالية» و«التبعية الثقافية والاقتصادية» و«وظائف الثقافة» و«تحرير المرأة» و«رأسمالية الإسلام واشتراكيته» و«الإمبريالية الرأسمالية في العالم الثالث» و«نسبة الثورة للغرب».
تجسَّد فهم الشرق الخاطئ للرأسمالية في استعارة مكوناتها الخاطئة. وهذا الذي أفضَى إلى واقعٍ رأسمالي غير رأسمالي. ألم نَستعر الربح ودوافعه دون روح الإمساك بزمام الأمور وريادة الأعمال؟ ألم نركض للكَسب دون التفكير الخلَّاق في نيله؟ ألم نستخدم الأجهزة الغربية ولم نفكر في إنشاء مصانعها؟ ألم نلبس الساعات ولم نلتزم بالمواعيد؟ ألم نستهلك الأشياء ولم نتعلم الإنتاج كفاية؟ هذا لا يعني أن الجميع سار على هذا المنوال المتردد ولكن الغالب غلَبَ في الاستيراد المَضروب. وما زادَ على هذا وجعل الأمر أنكى هو العِلمنة «تراجع الدين دون صعود العلم» والطمع الرأسمالي، بل الجشع.
أما التبعية الثقافية والاقتصادية بين الشمال والجنوب لم تكن على نَسَق واحد أو اتجاهين متبادلين. الجهتان مستفيدتان من بعضهما اقتصاديًّا، رغم أن حاجة الأولى أكثر إلحاحًا؛ فهي تريد الثانية مصدرًا ومادة خام لاقتصادها. ولكن الثقافة هنا أتت أحادية الاتجاه؛ فكدَّست الإمبريالية ما كدَّست في الجنوب. وليس أدلُّ على عمقِ هذا إلا قول كينياتا: «عندما جاء الرجل الأبيض إلى إفريقيا كان يملك الكتاب المقدس ونحن نملك الأرض. والآن؟ لدينا الكتاب المقدس ولديه الأرض». بصيغة أخرى، صدَّر الجنوب المادة وصدَّر الشمال ثقافته ليستوردها الجنوب.
في هذه الموازين، تظهر الثقافة عاملًا مهمًّا في تغليب ناحية على أخرى. فقد صفَّ الكاتب سبع وظائف للثقافة هي تقديم «منظور للتصور والإدراك» و«دوافع للسلوك البشري» و«معايير للتقييم» و«أساس للهُوية» و«صيغة تواصل» و«أساس للترتيب الطبقي» و«نظام الإنتاج والاستهلاك»، ولعل الأخيرة أهمها. لا ينكر أحدٌ أن وجود واحدة مما سبق كفيل بترجيح كفتي القوة بين الشمال والجنوب. في الواقع هي القوة التي من شأنها وَسم سياسةٍ ما بعلامة تفوق أو امتياز. وما يحصل في قوى السياسة العالمية الثقافية هو تناول الوظائف بشكل مختل. وهذا الخلل هو المُفضي إلى تباين القوى وتحديد التبعيات. ولكن ثمة ما هو أهم في ترسيخ معالم قوة الثقافة لتَقوى بذلك سياسةٌ ما وهي الحرية. لن تُخذل الثقافة يومًا بالحرية إن وُجِدت. المعين هي حقًّا حتى يكون فضاء تناول الوظائف الثقافية غير مقيد ولا محدود. الحرية منفذٌ للجميع.
ولا يَخفى الجدل الذي تثيره الحركة النسوية أينما حلَّت ولو بالاسم فقط. ولكن ما يغيب دومًا، ما النسوية وما تريده. يكون تحديد المطالب بعض المرات سبيلًا لفهم الشيء. لا تطلب النسوية الاستبدال بل تسعى إلى التوازن، ولا الإبدال [الكامل] بل التكافؤ، وهذا رأي مزروعي. الحقُّ أن النسوية الحقة تعي حاجة النساء للرجال وحاجة الرجال للنساء، فمن غير المنطقي أن تُطالب باحتكار المناصب في الدولة لها أو استبدالها بالنساء. كل ما في الأمر أن «المشاركة المتكافئة» هي ما تحثُّ النسوية إليه الخطى. وهذا كما يشير مزروعي يخالف ما تسعى إليه الجماعات المحرومة الأخرى وأنا على رأيه في هذا. ومجمل القول في هذا «إن الحركة النسوية ظلت تسعى إلى آليات المشاركة بدلًا من سلطة الاحتكار». وحتى اليوم، فإن دور المرأة لا يُقارن بدور الرجل في الدولة. نحن بحاجة حقًّا إلى «زياد[ته] في الكفاح من أجل ترويض الدولة ذات السيادة، وحَضْرَنة الرأسمالية وأَنْسَنَة التواصل بين البشر». نَعم لعالمٍ ثنائي الجنس؛ لا ذكوري ولا نسوي :)
ثريٌّ هو الإسلام بالازدواجيَّات؛ وليس اقتصاده من ذلك استثناءً؛ فهو رأسمالي واشتراكيٌّ في آن. هذا هو الحال في بعض مؤسساتنا العامة منها والخاصة. اثنان يُصارعان ولم يلتقيا على وفاقٍ بعد. ولا أحسبُ أن اللقاء هذا سيصير. يأخذُ الإسلام من الغرب علمه وتقانته وأفكاره الربحية وهو قادر على التوفيق بين هذا وتراثه بمبادئهِ. يتعايشُ هنا الاستهلاك جنبًا إلى جنبِ الإنتاج.
تختصر عبارة «إنَّ العالم يُؤمْرَكُ ثقافيًّا، في حين تأبى أميركا أن تتأنسَن أخلاقيًّا» سطوة الإمبريالية على العالم الثالث. وهنا تتجلَّى أيضًا ثقافة الصمم. أميركا قادرة على التأثير في الآخرين والتواصل معهم ولكنها لا تجيد الاستماع لهذا الآخر أو بالأحرى يعوزها ذلك! وهذه أزمة نشهدها حتى يومنا هذا، بل يسوؤنا نفاد الفرص لحلها، فـ«ـإلى الآن لم يتوصَّل أحدٌ بعد إلى كيفية تشغيل سمّاعة العم سام»! والسؤال الذي يطرحه الكاتب نهاية سطره «إلى أين تذهبين يا أميركا؟ نحن نسمعك، فهل تسمعيننا؟» ستردُّ اليوم Ask China!
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارڤِرد، كارل فرِدرِك: «إن الثورة ابنة الثقافة الغربية»، فهل كان محقًّا؟ يؤيده في ذلك أيضًا الپروفسور جون بلامِنَتز من جامعة أكسفورد، قائلًا إنها برمتها غربية. يُعارض مزروعي الزعمَ هذا ويقول بضده. طبعًا لا. ودليله في ذلك مولد الإسلام في القرن السابع الذي أحَدَثَ ثورةً مهمَّة لحياة العرب في شبه الجزيرة العربية على الأصعدة كافة. ومن ذلك الوقت، توالت الفتوحات والتوسع ولم يعد الأمر كسابق عهده. إذن لا صحةَ لهذه النسبة، فضلًا عن تناقض مبدإها القائم على تحديد الإنسان لمصيره. فمن يستطيع ذلك، ينبغي أن يُترَكَ حرًّا لاختيار ما يريد الإيمان به ويود، لا قَسره على الإيمان بحتميات معينة خدمةً لمآرب غربية. ولكن الأسباب التي أتى بها الأولان ليست واقعة حقًّا.
إجمالًا وأخيرًا، هذا الكتاب النبيل يودُّ أن يقول كاتبه شيئًا، يود إظهار القوةِ بعَدِّها واقعًا ثقافيًّا، من الثقافةِ وإليها، كيفما كانت وتمظهرت؛ هيَ السيِّدُ. يودُّ منَّا أن «نوسِّع نظرتنا إلى العالم بحثًا عن الفرص الإبداعية ومجالات التوافق الثقافي»، ويختم بـ«ـآمين» دعاءً لنبذ التعصُّبِ وأنْسنَةِ ما ليس إنسانًا.