هذه البلاد التي مزقتها الشرور يا مهند، وأرهقها الموت في المساحات التي كانت معدة لأحلام عفوية تنبت في سياق الكلمات كورد السفوح. هذه البلاد التي أرهقتنا بمسميات الوقت، وكبلتنا بحب فطري يسرقنا كل صباح من وجعنا ولو لدقائق معدودة. هذه البلاد التي أخذتنا إلى أندلس الروح وواجهتنا بصراعات التائهين في دروب المعازل المسيجة بالقلق. هذه البلاد يا مهند. تصرعنا في كل يوم بصمت، وكأننا نرتاح من عبئنا اليومي بموت عفوي في النص والحكاية، موت فاض عن صراخ الأمكنة اليومي وابتلاع العتمة لما تبقى من ألوان في الصور. مهند، وأنت في الأبدية المطلة على فراغات السوس في عظامنا الهشة وعلى بقايا البكاء في النصوص التي أحرقتها الحروب والنزاعات وقسوة الأمكنة، ستدرك حجم الخسارة التي نقترفها كل يوم في أنفسنا، كما أدركت حجم المسافة الشاسعة بين الوقت والحياة وأنت تنشر قصصك القصيرة تباعا بصلابتك الهشة، تلك الصلابة التي جعلت من رؤيتك نورسا ومن شاطئ البحر في غزة ملاذا ومنفى. كأننا نمزقنا في كل يوم يا مهند بهستيريا غامضة دون الانتباه إلى بقايا الجسد الممزق، كأنه لم يبق في سردنا المتعب سوى الحديث عن ذاكرة بعيدة وبعض أحلام صغيرة لم تكن واردة في سياق أحلامنا العفوية حين كانت أحلامنا الكبرى بوصلة الكتابة والموسيقى. مهند، تحملني تلك القصص التي قرأتها لك إلى عائلة افتراضية، متخيلة، إلى دفء أردت أن يكون عالما موازيا للبرد دون أن تفقد أصابعك في النار أو الثلج، دون أن تسقط من يدك زهرة الحلم، تلك التي نبتت بعفوية على سفح أسميناه وطن، يا مهند. ستحمل هذا الدفء إلى الأبدية، دون حاجة للاعتذار عن رحيل مبكر، فالقصص التي سجلتها في ربيعك الدائم ستحرس حضورك من آفة النسيان، وستظل علامة من علامات هذا الوقت الذي نحياه، يا مهند.
معظم ما قرأت من كتب كان لكتّاب سبقوني بالموت، والذهاب إلى العالم الآخر، لكن لم أشعر أن أحدهم كان عليه البقاء أكثر إلا أنت يا مهنّد. خسرت عدم معرفتك، لقد تأخرت في الوصول إليك يا صديقي، كتبت لك مرة، وسأكتب لك مرّات، ستلازمني في الفترة المقبلة كثيراً، لو تعلم كم من الوقت يشغلني أمرك، "قل لي لماذا اخترتني؟ وأخذتني بيديك من بين الأنام"
فاتني أن أعرفكَ سابقاً يا مهند ! غزة مدينة لا تسعها قلوبنا يا مهند ولا يسعفها عزائنا، هذه المدينة اللتي أنهكها البؤس وأضنتها القسوة أكبر من أن نحتويها. أخذتني نصوصك إلى فضائها المحاصر، شوارعها وبحرها وتفاصيلها اللتي ستظل في عيني أستثنائية إلى الأبد. كنت قد قلت: " أني نادم على تأجيل حب اليوم للغد، وعلى كل تلك اللحظات الجميلة التي تخرج من مخيلتي، وكل تلك الصور التي لم أَجِد أطاراً لها بعد، لأنها لم تلتقط أصلاً، وكل تلك الأمطار التي تبخرت قبل أن تهطل، وعلى حضن دافىء لم أحظ به، وعلى أنعكاس ابتسامتي في عينيها وابتسامتها في عينيّ، على كل تلك الأشياء الجميلة التي لم تحصل أبداً، ولن تحصل" وأنا نادمة مثلك لأني عرفتك متأخراً، تأخرت على كل هذا اللطف والجمال، وآسفة لأن الحقيقة يا مهند أن هذه الانسانية ساقطة كما قال حسين، وزائفة كبالون هيليوم ينتهي أمره بثقب بسيط ! كنت أود لو أن هذا العالم كان أكثر رفقاً بكَ وبأحلامكَ. (مهند شاب غزّي (22 عام) رحل عنّا مبكراً بعد أن وضع حداً لحياته قبل ما يقارب عام)
منذ مدة وأنا أؤجل قراءة هذا الكتاب، وأنا التي لم أصدق أنه وقع بين يديّ بعد الشهرة التي نالها كاتبه بموته المفاجيء الصادم لكل من عرفه ولم يعرفه..الكتاب عبارة عن نصوص وقصص قصيرة، منذ بدأتُ به شدّتني القصة إثر القصة، وأدهشني هذا الإبداع والبراعة اللّذين يتمتع بهما الكاتب رغم صغر سنّه، فكنت أُعيد القصة مرة بعد مرّة أحاول فك رموزها ومدلولاتها رغم قصرها وإيجازها..قصص متنوعة تدور بك في أنحاء الوطن بمدنه وقُراه، وأزقته، ومخيماته، وتكشفُ أُناسه بأنانيتهم وإيثارهم،بإخلاصهم ووفائهم، بتفاؤلهم وقنوطهم، بقبحهم وجمالهم..ثم تتخطى بك الحدود فتخال الكاتب طاف دول العالم واعتنق جميع الديانات، وعاشر معظم النفوس. شواطيء في القدس-انبعاج -عائلة مؤقتة- من أكثر القصص المؤثرة فيها برأيي، بعض القصص إن لم تكن معظمها أظنّها حقيقية، وهذا جعلها أجمل وأصدق، تعيش مع الكاتب..عزلته، صراعاته الداخلية، حبه للبحر والمشي والسجائر! لفت نظري أنّ معظم النهايات التي كان يختارها لأبطاله هي: الانتحار، والأكثر وجعًا أنّه اختار نهاية تشبه نهايات أبطاله، فمضى تاركًا صدمة وألمًا لمن عرفه ومن لم يعرفه، أقيم للقاص حفلًا مؤثرًا وتم تجميع الكثير من نصوصه، ونشرها في كتاب بعنوان: أوراق ،الخريف..شارك في.الحفل الكثير من الشخصيات الأدبية المرموقة، لتصدق مقولة غادة السمّان: نحن شعب يُعجب بعظمائه بعد وفاتهم، يكرمهم بعد لفّهم بالكفن، وكما قال ربعي المدهون: التأبين يا أعزائي ليس أكثر من حفل استغابة مُعلن، ومتفق بشأنه، يستغله المؤبنون لغسل إساءاتهم للميت في حياته! مهند يونس ..كتبت أوجاع الوطن في سطور، ثم أضفت وجعًا إضافيًا للوطن..سامحك الله وغفر لك!