المشهد الشعري العربي الراهن في حال اصطراع خفي، نشط للغاية ولكنه بالغ الهدوء والعمق. ذلك يجعل شروط بقائه ــ مثل ديناميات تنامي تياراته المختلفة، وتكاملها ــ على درجة رفيعة من الاغتناء التعبيري والجدل التعايشي؛ دونما وئام كاذب، وبالكثير من التلاقح الموضوعي للأساليب والأشكال تارة، والتأقلم الذاتي النابع من حاجات الحياة الجمالية طورًا. والقراءات التي يضمها هذا الكتاب تسعى إلى مقاربة المشهد من زاوية مركزية، يشير إليها العنوان مباشرة: أنّ ما ينتظم العلاقةَ بين شاعر القصيدة العربية المعاصرة وقارئها، هو طراز من التعاقد العسير الذي يتغذى على قطبين أقصَيَن: ألق التجريب، الذي يشدّ الشاعر إلى طبائعه التعبيرية وخياراته الشكلية وانحيازاته الجمالية؛ وأرق القراءة، الذي يستحوذ على القارئ ضمن أعراف موازية تخصّ طبائع الاستقبال في المقام الأبرز، وكذلك اغتراب الذائقة الجَمْعية إزاء الأشكال الجديدة والتجارب الحداثية. وإذْ تتأزم أبجديات هذه المعادلة، فذلك ليس بسبب عجز الشاعر العربي عن كتابة قصيدة جديرة بالحياة والخلود، بل بسبب انهيار التعاقد بين الشاعر والقارئ حول أسئلة من النوع التالي مثلًا: ما الذي تعنيه مفردة "القصيدة"، في نهاية المطاف؟ وكيف نقنع القارئ بأنّ ما يقرأه هو "الشعر" وحده، لا لشيء سوى أنّ الشاعر يقول عن كتابته إنها الشعر وحده؟ وكيف ينبغي أن يقرأ القارئ كما يريد له الشاعر أن يقرأ؟ أي: كيف، وهل، تزوّد القصيدة قارئها بعُدّة جمالية كافية لكي تُردم الهوّة بين عادات القارئ في القراءة، وعادات الشاعر في الكتابة؟ وبعض أدهى تجليات العسر تتمثل في أننا بتنا نبحث عن مستهلك الشعر، وليس عن صانع الشعر؛ وكان حريًا بالأمر أن يكون معكوسًا، فيبحث القارئ عن الشاعر، ولا يضطر الشاعر إلى استدراج القارئ، أو مصالحته، أو استفزازه، أو الإعراض عنه. صبحي حديدي
كاتب سوري. تخرّج من جامعة دمشق – قسم اللغة الإنكليزية وآدابها، وتابع دراساته في فرنسا وبريطانيا. نشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة (الخطاب ما بعد الإستعماري، إعادة قراءة فرانتز فانون، القارىء والقراءة والإستجابة، الموضوعة الغنائية، الحديث وما بعد الحداثة، النقد التاريخاني الجديد، وسواها). نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية، بينها مونتغمري واط: "الفكر السياسي الإسلامي"، 1979 ؛ كين كيسي: "طيران فوق عشّ الوقواق"، رواية، 1981؛ ميشيل زيرافا: "الأسطورة والرواية"، 1983؛ ياسوناري كاواباتا: "ضجيج الجبل"، رواية، 1983، و"أستاذ الـ غو"، رواية، 2007؛ صمويل هنري هوك: "منعطف المخيّلة البشرية"، 1984؛ كلود ليفي – ستروس: "الأسطورة والمعنى"، 1985؛ مجموعة مؤلفين: "عاصفة الصحراء، عاصفة الحداثة"، 1991؛ إدوارد سعيد: "تعقيبات على الإستشراق"، 1996. يقيم في باريس، ويكتب بصفة دورية في صحيفة "القدس العربي"،لندن؛ والشهرية الفرنسية Afrique Asie، باريس