ظهر الفيلم الوثائقي مع أواخر القرن التاسع عشر مع أول ظهور للسينما في التاريخ، و بوجوهٍ عدة. الفيلم الوثائقي هو نوع من الأفلام يبرم عقداً مع المشاهد بأن مايراه ويسمعه يدور حول أمرٍ حقيقي وصادق- ومن المهم أن نفهمه . إلا أن على المخرج أن يلجأ إلى طيف كبيرٍ من الحيل بغية إثبات هذا الزعم. و يعرّف النوع الوثائقي، بأنه ذلك التوتر القائم بين ادعاء المصداقية وضرورة اختيار وتمثيل الواقع الذي يرغب المرء بمشاركته مع العالم. فالأعمال الوثائقية هي طقمٌ من الخيارات حول : مادة العمل الأساسية، أشكال التعبير، وجهة النظر، خط القصة، الجمهور المستهدف . وستبقى مشكلة تمثيل الواقع جديرة بالتعارك معها، لأن الفيلم الوثائقي يقول، " لقد حدث هذا فعلاً، وكان على درجة من الأهمية لأعرضه عليكم، فشاهدوه." وقد يستمد الفيلم الوثائقي أهميته من الشؤون العامة أو الترفيه الذي يعتمد على المشاهير. و يرى نيكولز أن الأفلام الوثائقية التي تتلاعب بتوقعات المشاهد لتحقيق الشفافية و الصدق تعكس على نحو أكثر إبداعاً المنظورات المتعددة لحياة ما بعد الحداثة.
في هذه المقدمة القصيرة جداً تتحدث باتريشيا اوفدرهايد وبشكل موجز عن تاريخ الفيلم الوثائقي وتطوره ، وتطور معاييره عبر الزمن(تطور الشكل الوثائقي مع تطور الإمكانات التكنولوجية. ). وأثره في الحياة السياسية والاجتماعية. كما قدمت نقداً لأشكاله المختلفة.
مؤسسو هذه السينما-فلاهرتي وغريرسون وفيرتوف-أعطى كل منهم زخماً للتاريخ بشكل مختلف.
هنا بعض المقتطفات حول بعض الأنواع أو الأوجه المختلفة لشكل الفيلم الوثائقي.
-سينما فيريتيه( سينما الحقيقة): تعرضت الممارسات التي وضعها الثلاثي الأسطوري المؤسس للسينما الوثائقية إلى هزات عنيفة إبان ثورة السيتينيات التي سُميت، من بين أسماء أخرى، سينما فيريتيه ( سينما الحقيقة) أو سينما الرصد أو السينما المباشرة. وسميت في كندا باسم المسلسل التلفزيوني " العين الصريحة" أحدث هذا الأسلوب قطيعة مع الممارسات التقليدية آنذاك من ناحية التخطيط المسبق، وكتابة النص ، والأداء، والإضاءة، وإعادة تجسيد الأحداث، وإجراء المقابلات. بدأت هذه الثورة في الأسلوب في وقت ازداد فيه انعدام الثقة وسط المستهلكين في سلطة وسائل الإعلام التراتبية من الأعلى إلى الأسفل، وربما فاقم من هذا الأمر تجربة العامة مع دعاية الحرب العالمية الثانية، أما الدور الأكبر فكان لبروز الإعلان بوصفه لغة عالمية للإقناع إلى جانب قوة سائل الإعلام الجماهيرية. هزت سينما فيريتيه صناع الأفلام لما تنطوي عليه من إمكانات. ومن روادها الأخوان ديفيد وآلبرت، نك برومفيلد، وآخرون.
-السينما الإ نثوغرافية.
" السينما هي الوسيلة الوحيدة أمامي التي يمكنني من خلالها أن أظهر للآخرين كيف أراهم." — جان روش.
منذ ستينيات القرن العشرين ، خلقت إزالة الوهم عن الإدعاءات بالموضوعية العلمية حالة من البلبلة في ميدان الأنثربولوجيا. في الوقت نفسه، كان المخرجون أصحاب النزعة الإنثوغرافية مسحورين بسينما فيريتيه. وكان الأنثروبولوجي والمخرج جان روش واحداً من ركاب الموجتين ، ومثّل إحدى أكثر القوى إبداعاً في السينما الإنثوغرافية وواحداً من أنشط المتحدين في مجالها. وإلى اليوم يعود الأشخاص المهتمون بمسائل القوة والمعنى في السينما الإنثوغرافية إلى جان روش. قال حول السينما الوثائقية بالنسبة له: " تكاد ألا توجد حدود فاصلة بين الفيلم الوثائقي والأفلام الروائية. فالسينما-فن الازدواج- هي الانتقال من العالم الواقعي إلى العالم الخيالي، والإنثوغرافيا-علم نظم الفكر عند الآخرين- هي نقطة تقاطع دائمة بين كون مفهومي وآخر: ألعاب بهلوانية أقل مخاطرها هو أن يفقد اللاعب موضع قدمه."
-أفلام القضايا : في ستينات القرن العشرين ، كانت حركات الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، والصراعات ضد الكولونيالية، والأسلحة النووية، وسباق. التسلّح خلال الحرب الباردة، كلها علامات على زمن من الاضطراب السياسي. وشكلت الاختراعات التكنولوجية الهامة التي مكنت سينما فيرتييه وبزوغ عصر الفيديو مع ظهور معدات الفيديو المحمولة عام 1967 دافعاً أمام كثيرين لإعادة النظر في الفيلم الوثائقي بوصفه أداة بيد الحركات السياسية .
تطرح الأفلام الوثائقية التي يصنعها المناصرون والناشطون خدمة لقضايا سياسية مسائل مشابهة لأفلام الدعاية الوثائقية، لكنها تعمل عملها في سياق مختلف . و تعد أفلام القضايا أدواتٍ بيد المنظمات لتعبئة الحراك نصرة لقضية أو مسألة معينة. جمعت أفلام القضايا في ستينات القرن العشرين وسبعينياته بين المثالية والبراغماتية، شأنها شأن صنوتها في حقب أخرى. واستخدمت كل المناهج التي طورها المخرجون الوثائقيون الأوائل . تتحول أفلام القضايا عند مشاهدتها في وقت لاحق إلى شهادة للدفاع عن هذه القضية عبر التاريخ، كما حدث مع فيلمي الأرض الإسبانية وساعة الأفران . وبالفعل، حظي فيلم معركة تشيلي بحياة جديدة في تشيلي بعد عودة الديمقراطية، وأصبح يستخدم الآن في تدريس التاريخ لأبناء تشيلي الذين خلت كتبهم في عهد الرئيس بينوشيه من أي ذكر لسنوات حكم أليندي.
-أفلام "السينما الثالثة" وهو مصطلح جاء لوصف السينما الناشطة حول العالم . استمد مصطلح "السينما الثالثة " اسمه من مفهوم "العالم الثالث" الذي يشير إلى الأمم والحركات الثقافية التي طالبت بالاستقلال عن صراع القوى العظمى في الحرب الباردة.
-أفلام الذكريات والتاريخ: شكلت سينما المذكرات أو السينما الشخصية مساهمة مهمة للأفلام الوثائقية التاريخية. يصرح بيل نيكولز بأن الأعمال الوثائقية الشخصية تقدم حالة المخرج الذهنية وتداعي أفكاره ، وتوثّق نوعاً حميمياً من الواقع. ويقول مايكل رينوف أن طابع الأفلام الوثائقية الشخصية الاعترافي غالباً يأخذ المشاهدين بشكل فعال إلى بنية معنى الفيلم، وهو ما يزيد من حدّة التعاطف.
في ختام الكتاب، دليل أو أرشيف لمئة فيلم وثائقي عظيم.( من 1922-2006)