منذ ثلاثة أيام, كان نعش يمشي على أربعة أكتاف، وراءهم رجل يرفع سبابته للسماء، خمسة رجال ونعش، يشبهون التشبيه في سورة الكهف، دون التوالي العددي، ودون رجم الغيب بالطبع. يعبر النعش شارع السوق العمومي بخفة ودون جلبة، حتى إن الرجل الماشي وراءه يناجي ربه.
وبنفس اللحظة كان رجل شديد الغيرة على زوجته يحدج حامد بنظرات مربكة، بينما يفرد حامد قطعة نوم قصيرة للزوجة الشهية، كثيرة التسبيل والكلام، وبنتان فاتنتان دخلتا الدكان، والسوق يشغي كأنما على أوله بوابة مغلقة بالحديد كانت تحتجز المدينة، وفتحت في هذا الوقت لأول مرة، يمينك يا أستاذ.. بصي قدامك يا أبلة، مولد لم يره السوق من فترة بدت كدهر لتجاره، يطير النعش بين رؤوس رواده بنعومة.
يطير في الزحام, كأي حمل تدفعه أعناق رجال، لدرجة أنه لم يستوقف نظر حامد في حينه. وفى حين كونها لمحة بسيطة، إلا أنها انطبعت بعين حامد كصورة ثابتة، عرضت نفسها على عقله مرات عديدة، بيد أن انشغال عقله حال دون تأملها، ووقت هدأ استدعاها وفصص تفاصيلها، فلما وجد بها نعشًا سأل: نعش من هذا يا أهل الخير؟
شاعر ينسج العالم في رواية هادئة فيتسلل إلى قلبك كقصيدة صادقة، مرثية واعية لكل معنى انهزم في معركة التجارة الفاسدة. المكانُ بطلٌ ظاهر والهزيمة بطلٌ خفي، هزيمة لا تشبه الهزائم العسكرية، الزمن عدو قادر ولكن الأزمة ليست في العداوة ولا في العدو ذاته بل في كينونتنا التي ندخل بها الحرب غير مهيئين لمتطلباتها، يضع وائل ياسين لروايته زمنًا يمتد بين زمنين أحدهما يعرفُ نفسَه ويعرف ناسَه ويكتسبُ ملامحَه منهم والآخَر زمنٌ هجينٌ كلُّ شيءٍ فيه مقلوبٌ ومباع لا يعرفُ كبيرًا ولا يستقر على حال. في مدينةٍ صغيرةٍ تتركزُ في شارع السوق العمومي الذي يبسط سلطانه على جيلين، آباء أسسوا المحلات والبيوت والقوانين وأبناءٌ فقدوا أنفسَهم فغادرَتْهم البيوتُ وباعتهم المحلاتُ وسكنَهم الضياعُ الذي لا خلاص منه.
لغةٌ شاعرية في أوجِ تكثيفِها وسردٌ متماسكٌ وطازج ورؤية إبداعيةٌ شفافة ترى من نافذةِ الحزن مستقبلًا ميتًا أولُه عندنا وآخره عند جيلٍ آخَر قد يكون ضحيتَنا الثانية بعد أن قتلْنا أنفسَنا باستسلامنا العاجز. http://www.alketaba.com/index.php/201...
لو تخيلنا أن راويًا شعبيًا قد ترك ربابته ومجلسه في المقهى القديم، وقرر أن يكتب سيرة متجرّدة من اليقين الشفاهي أو الحكمة المنغّمة، بعكس ما اعتاد أن يمرر إلى آذان السامعين؛ ما هو الشيء الذي ربما سيحرص على الاحتفاظ به خلال هذا التحوّل؟ .. لن يتخلى الراوي عن الإيقاع .. لماذا؟ .. لأن الإيقاع هو الحيلة اللغوية التي سيُكسب بها ما يسرده شكل المعرفة، وذلك حتى يثبّت إدراكًا هزليًا بعمق الحكي الذي يقاوم تكوينها .. لهذا لن يتخذ الإيقاع نفس الطبيعة الغنائية المهيمنة في الرواية الشعبية بل سيستعير ظاهرها .. إيحاءاتها .. ظلالها المتأرجحة .. في روايته "لا شيء يحدث هنا" الصادرة عن دار العين بتقديم مميز للكاتب أيمن باتع فهمي؛ فعل وائل ياسين شيئًا مماثلًا لهذا .. قام بتحويل الإيقاع ـ الذي ربما يذكرنا أحيانًا بفن المقامات ـ من برهان للثقة في الراوي إلى دليل ثابت للشك فيما يحكيه .. هناك سارد، لكنه لا يحكي بقدر ما يحاول أن يتذكر .. بقدر ما يحاول أن يعثر على ما يتذكره في صورة أخرى .. بقدر ما يحاول ألا يتذكر .. كأن ثمة مجهولًا يختبئ فيما يحكيه لا يتوقف عن مطاردته .. لهذا يظل السرد ـ كخالق تخييلي لما يُعتقد أنه الواقع ـ عالقًا بين الغموض السابق لحدوثه، والعماء الذي يحجب ما يحاصرهhttp://mamdouhrizk0.blogspot.com/2019... ممدوح رزق\أخبار الأدب