نهضت أم حمزون، ومن جدار البيت خلعت قالباً من الطوب، دخلت حجرتها وأغلقت الباب، قرأت عليه سورة"يس" مرات ومرات، ثم تمتمت شفتاها اللتان شققهما الفقد بالدعاء حتى الغسق. وفي قماش أبيض كفّنت القالب، ربطته جيداً وتلحّفت بمئزرها وخرجت. لم ترد على قادرة، بل أشارت لها بالسكوت، وهي تدس شكوة ماء و"خُرْج" الحناء تحت جلبابها. وطوال الطريق إلى المقابر لم يتوقف لسانها عن الدعاء، باكية الابن بحذر و مناجية الله بخفر. دخلت إلى مقام الشيخ الخطاف، خضبت مقدمة مقامه بالحناء، ثم استكانت أمامه تدعو بنشيج خافت: الجلد جلدك والجسم جسمك وكل ما فَنى لك أنت تصرف فيه ما حدّ عارف إلا أنت وأمام ساحة المقام دفنت الحجر المكفّن كأنه بدن فارق الحياة، صبّت عليه الماء وغادرت إلى بيتها، في انتظار العدل بعد الأربعين.
Mostafa Moussa روائي مصري، مواليد 1967، حصل على ليسانس الحقوق، ثم ماجستير في إدارة الأعمال ، تفرغ للكتابة بجانب الدراسة نُشرت مقالاته و قصصه القصيرة فى مجلة أوكسجين الإلكترونية. ثم صدرت أول رواية له بعنوان "بديعة بدون رخصة" عام 2011، ووصلت قصته القصيرة "مقطع رأسي من أتوبيس النقل العام" إلى التصفيات قبل النهائية لمسابقة متحف الكلمة بأسبانيا عام 2012، وفي نفس العام فاز بجائزة مركز مساواة لحقوق الإنسان بجمهورية مصر العربية في القصة القصيرة عن قصته "قانون على كرسي متحرك". وصلت روايته "السنغالي" الى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية في دورتها ال12 عام 2016
قبل كل شيء اختيار الاسماء في الرواية مدهش، حمزون، قنجة، حمران ( كلب اهل الكهف)، العرّاص، ست النفر حتى أسماء الأماكن. بالنسبة للرواية، الكاتب في كل رواياته مغرم بالرحلات الطويلة، في فدان الجنة الرحلة بتبدأ من قرية في صعيد مصر مروراً ب"برزخ" السويس ،والرحلة الأحلى والأجمل هروب البطل للسودان في عهد الثورة المهدية، والعودة إلى مصر بعد مغامرة لإكتشاف ذاته ونفسه و مفهوم العدل ، الرؤية اكتملت للبطل حمزون في لقائه بالغجر- أهل الخيام- والسؤال المحير ان الكاتب لم يستخدم لفظ الغجر بالرغم إن كل المشتهد بتأكد إنهم الغجر؟ رحلة كاشفة في علاقات الحب والقتل والبحث والموت، لم يخب ظني.
نأتي للحياة ونظن أن المقام سيستقر كما نشأنا، وستظل وتيرتها كما خططنا ورسمنا، ولكن ياللعجب، وكما يقال تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وتأخذنا دروبها لمسارات ومناطق واختبارات لا نفقه عنها شيئأ، فتبدا الرحلة الحقيقية، وقد يغيب العدل فهل ننجح في كل مرة؟
فدان الجنة للكاتب مصطفى موسى، رواية ملأى بالتساؤلات، عن الذات والمعرفة والحرية والعدل، عن الفقد والإغتراب والهوية. من خلال حمزون الشاب الصعيدي القروي، الذي يعيش مع أمه، ويتزوج من قادرة الفتاة اليتيمة، فيهنأ بحياته، إلى أن يناط به مهمة اصطحاب السيدة الأجنبية وينفريد في مقامها بالقرية، فتبدأ أولى معرفته بالآخر، ثم في بلوت تويست عجيب تنقلب أقداره عندما يأخذوه للسخرة، ثم يأخذ الفيضان أهله، ليضل طريقهم ويأخذوه لمحاربة المهدي، لينضم إليهم، ثم يهرب ويذهب ليعيش مع الغجر فهل سيلتقي بأهله، وهل سيجدهم أمواتاً، وكيف سيقرر مصيره؟
الرواية كاشفة بديعة، تتسائل طول الوقت عن معنى الوجود والحياة، وتقرير المصائر، وغياب العدل، والظلم الذي يحرك بركان الغضب
شخصيات الرواية: أعجبني بصفة خاصة أسماء الشخصيات: *فحمزون : قبض الفؤاد من الهم والغم، وهو ما أصاب بالفعل شخصية حمزون من ابتلاءات ومصائب أدَّت بعضها لبعض. *العراص: وهو السيف اللدن، فتناسبت مع شخصيته، والتي كانت في ظاهرها قوية غامضة لا تهاب، وهو في حقيقته لين لا ناقة له ولا جمل. *حمران الكلب والذي جاء على أسم أهل الكهف، حتى الجملة الأولية له كانت والكلب حمران قابع أمام باب البيت كمثل " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد". *قادرة: الشخصية القوية التي واجهت الصعاب الجمة ولكنها صمدت وقامت من جديد لتكمل مسيرة حياتها بكل صبر وقدرة وصمود. *وينفريد وتعني صديقة السلام وهو ما يتوائم بشكل تام مع الشخصية.
مواضيع الرواية: تحدثت الرواية عن: *السخرة في بناء قناة السويس *افتتاح القناة *الفيضانات التي كانت تصيب المناطق الزراعية فتهلك الحرث والزرع والمباني *الثورة المهدية والتصدي لها *الغجر وعاداتهم وإسلوبهم في الحياة *حياة المستضعفبن الذين تسخرهم وتستعبدهم السلطة الغاشمة. *سبي الإناث وقتل الرجال بإسم الدين *ثورة عرابي ووأدها. *انقلاب حياة الإنسان رأساً على عقب، كأصعب وسيلة تعلمه بها الحياة. *انعدام العدل مع غياب معنى الحرية.
مما أعجبني بالرواية: *الإسلوب اللغوي الرائع وقوة السرد والحكي. *هناك لمحة من أسطورة أيزيس رأيتها بالرواية، وإن لم تجد قادرة أوزر الخاص بها في الرواية فنراها تقول لحورس الخاص بها " حمزون الصغير" "لم أقل إنه مات يا ولدي، بحثت عنه ولن أكف، سأنقب الأرض وأدور على البلاد، وأطرق أبواب الديار باباً باباً، إنه حي وسيظل إلى أن يجمعنا الله" *رمزية رحلة الإنسان الخاصة في البحث عن المعاني، برحلة حمزون التي عاشها طوال حياته، من السيدة وينفريد، للسخرة، للحبس، لمحاربة المهدي بالسودان، للإنضمام له ثم معايشة الغجر، والإستقرار معهم في النهاية واختياره الحر بأن يكون منهم. *أيضاً تسمية كلب عائلة حمزون بحمران على إسم كلب أهل الكهف، كإشارة آخرى لإخلاصه الشديد لهم، فلم يتركهم في أشد المحن، وقبوعه في حراسة الدار حتى في غيابهم. *كم المعاني الوجودية والإنسانية التي اكتشفها البطل طوال حياته، عن تقبل الآخر ومعنى العدل والحرية والدين وتقرير المصير.
الرواية رائعة بحق، ما أن تبدأ بقرائتها لاتريد أن تفلتها.
أهم الإقتباسات: *الحكايات لا تداوي الأجساد المتعبة *لا يرحم العبد بعد الرب سوى ماله، سيمر الزمن كله هنا، تمسك بما ترى وإن كان سراباً، فالسراب هو من أبقى هاجر وإسماعيل على قيد الحياة في صحراء جاحدة مثل تلك الصحراء. *لم يخلق الله الغناء للفرح فقط، بل لفجيعة النفس أيضاً. *للمال سلطة يركع لها الضعفاء، الخلاص من الدائن خلاص من الدين. *العشق أعمى مجذوب، صاحبه لايرى ولا يسمع. *لم يسكن الأرض من عرف شهوة الترحال.