لاقترابه من لغة الصمت، ولخلقه لغة أخرى، تنطوي على التلميح والإشارة والدلالة المكثّفة، صار شعر الهايكو الياباني الأقرب إلى نبض الإنسانيّة، وإلى روح العصر... هذا العصر السريع بكل ضجيجه الذي بات يغطي مساحات الخيال والرؤيا، ويعصف بالتأمل والهدأة والإطلالة الرومانتيكيّة، ويفتك بالوقت لدى البشريّة، مما جعلها هي نفسها أداة جامدة ذهنيّة، تتلقى طوفان الاستهلاك الذي لا يجارى، طوفان ضيّع وقت الإنسان وجماليّاته وبصيرته في طاحون لا يفتأ يقدّم المزيد من التقنيّات والمبتكرات، وما على الإنسان الحديث سوى الذهول والتلقّي لهذا الصنيع. من هنا يشكّل شعر الهايكو الياباني، وهو يستعاد أو يكتب في اليابان، ويقدّم في أوروبا وفي العالم العربي، على هيئة ومضات وإلماحات اختزالية وشذرات بارقة، رؤيوية، تشكّل مع الهايكو القديم والمستعاد معادلا نفسيّا لعصرنا، هذا العصر الذي بدا عالي النبرة بطلاقته الآليّة وقوّة فصاحته التكنولوجيّة. من هنا أمست قصائد الهايكو الياباني نصوصا شعريّة قائمة بذاتها، تختزن صوراً ناطقة، صوراً تحتكم إلى منطق الحكمة والأفكار والتصوّرات القديمة حول علاقة العين التاريخية الراصدة للإنسان بتحوّلات النبات والحيوان والأزمنة.
شعر الهايكو الياباني هو نمط شعري يتألف من بيت واحد فقط مكون من سبعة عشر مقطعاً صوتياً، يُعبر فيه الشاعر بأسلوب بسيط عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة. أول تجربة لي مع الشعر الياباني عامة ومع شعر الهايكو خاصة، كانت تجربة خفيفة وجد ممتعة، استمتعت جداً بالصور الشعرية التي حاولت هذه الأبيات تصويرها.
الترجمة سيئة للغاية. تذكرت طرح أستاذ عبد الفتاح كيليطو للترجمة أثناء قراءة الكتاب :
كثيرًا ما تُقدَّم الترجمة باعتبارها فعل حب، وعلامة انفتاح، وتسامح، وتُستحضر برقة وحنين التي ازدهرت فيها. غير أن الواقع أقل مثالية. فالترجمة غالبًا ما تعمل في سياق من التباري والمنافسة. كثير من الشعوب لا تقبل بأن تُترجم نصوصها المُقدسة، معتبرة العبور من لغة إلى أخرى اعتداء. يجازف النص المقدس بالخروج من ذلك مهزولًا، متحولًا إلى جثة، وهيكل عظمي؛ لذا يجب ألّا يغادر لغته، وبيته. والحال أن بيدبا لا يخشى أن تكون ترجمة كتابه رديئة أو غير أمينة؛ لا يفكر في الشكوك والمصادفات المصاحبة عادةً لانتقال نص. ما يخشاه هو أن يتملكه الفُرس، ويتمثلوا مضمونه ويستمدوا منه القوة والمجد، يوجد في مبدأ الترجمة ميل سجالي (من المساجلة في الحرب) بل مطمع إمبريالي. «الترجمة غزو»، كما قال نيتشه. الترجمة هي غزو أرض أجنبية، وطرد ساكنيها أو إخضاعهم، وامتلاك خيراتهم وكنوزهم. وحين لا يمكن القضاء على مقاومتهم، يُكتفى باحتياجات سريعة أو ببعث جاسوس متنكر في هيئة عالم يعود بنسخ من إنتاجهم الفكري، كما حصل لكلية ودمنة.
• من شرفة ابن رشد | كيليطو. فأشعر أنّي لو قرأت نفس القصائد باليابانية سأجد اختلافًا كثيرًا.
كتاب خفيف، بمقطتفات من شعر الهايكو لأشهر الشعراء اليابانيين مع جزئية كاملة مخصصة لرائد الهايكو "باشو". ميزة شعر الهايكو هي أنه يختزل المشهد في بضع كلمات، الترجمة العربية وإن استطاعت نقل المشهد فإنها لا تفلح دومًا في وضع العبارات في إطار شعريّ برأيي الشخصي، لكن لعل هذا الكتاب من أفضل كتب الهايكو المترجمة للعربية التي قرأتها حتى الآن.
الترجمة ليست أفضل ما يكون، وربما كذلك اختيار بعض النصوص. لكن في المجمل فاللهايكو سحره الذي لا يقاوم، كما أن هناك بعض النصوص في هذا الكتاب غاية في الجمال. وربما كانت تكون أجمل لو كانت الترجمة أجمل، بل وربما ظهر جمال بعض النصوص الأخرى، والتي لم أجدها شديدة الجمال، لو كانت الترجمة أجمل. حقيقي صدق من قال بأن الترجمة نص موازي.
رغم أن الترجمة تختلس من الإيقاع و المعنى الكثير لكنك تستطيع أن ترى بعض الصور الجمالية و إذا كنت من محبي الهايكو سترى الصورة كاملة خلف كل قصيدة لأنك ستعطيها ما تستحق من تمعن و تأني.