إطلالة على كتاب: *العلَّامة الشيخ محمَّد بن علي المقابي، قراءات في التاريخ والمنهج* تأليف: *الدكتور عيسى بن السيد جواد الوداعي* عدد الصفحات: 312 الطبعة الأولى، 2018 للميلاد الناشر: دار زين العابدين (عليه السلام) ................................................. قد لا يكون للشيخ محمَّد بن علي المقابي (طاب رمسه) شهرة غيره من علماء البحرين، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني ابتداءً أكثر من غياب أعيان نتاجه العلمي والمعرفي، وإلَّا فقد يكون له من الآثار الكيفية والمعنوية حقيقةً وواقعًا بما ليس لبعض من وصلتنا كتبهم ومصنفاتهم.
عندما يقف القارئ على العقلية العلمية للشيخ المقابي، فإنَّه سرعان ما يُدرك وجوده حيًّا في شريان الطبيعة العلمية للبحراني الأصيل، وهذا ما أبينه قريبًا إن شاء الله تعالى.
أظهر بحثُ الدكتور الوداعي بعدين رئيسيين:
الأوَّل: الجو العلمي في البحرين آنذاك. الثاني: الشخصية العلمية للشيخ المقابي.
أمَّا الجو العلمي فأراه ممَّا اقتضى حضور الشيخ المقابي في بحوثه القرآنية والفقهية؛ فالحال على مستوى التواصل الاجتماعي في تلك الأزمنة ليس كما هو عليه في زماننا المعاصر، من حيث سهولة وسرعة وصول المعلومة والنتاج العلمي، وبالتالي فإنَّ من يكتب بالعمق الذي اتسمت به كتابات الشيخ المقابي لا بدَّ وأن يكون في مجتمع علمي يفهم لغته ودقائق ما يتناوله في بحوثه، كما وأنَّ وصوله إلى هذا المستوى العلمي كاشف عن وجود ما خلقه وكوَّنه، وهو إمَّا أن يكون درس متين كان قد وفِّقَ لحضوره، أو جهد ذاتي استند فيه إلى مادَّة علمية موجودة بالفعل، وفي كلا الحالتين كان ذلك ممَّا يكشف عن أجواء علمية قوية بمستوى ما قدَّمه المقابي وغيره من أعلام البحرين.
ولا يخفى أنَّ ذلك لا يتجاوز كونه مُؤَيِّدًا لواقع متواتر للحاضرة العلمية البحرانية الشامخة.
وأمَّا الشخصية العلمية للشيخ المقابي (علا برهانه) فقد أبرزها الباحثُ في ثلاثة فصول استوعبها الباب الثاني (مؤلفات المقابي: دراسة في المنهج)، وكانت:
الفصل الأوَّل: صفوة الصافي والبرهان: دراسة وتحليل. الفصل الثاني: المنهج العام في مجمع الأحكام. الفصل الثالث: نخبة الأصول: قراءة تحليلية.
في هذه الفصول الثلاثة تحدَّدت العقلية العلمية للشيخ في بحوثه القرآنية والفقهية والأصولية، كما وظهرت قوَّته في تتبعه للآراء وقدرته الكبيرة على استخراج الموضوعات وفرزها مقدِّمةً للمقارنات بينها على مستوى التطبيق والالتزام بالمنهج، وبين غيرها من الآراء استطرادًا.
في خصوص ما ظهر منه تردُّدٌ من الشيخ أو عدم التزام بالمنهج الذي ألزم نفسه به، فإنَّ لي وجهة نظر أبينها في ذيل هذه الإطلالة المختصرة إن شاء الله تعالى.
ثُمَّ عمد الدكتور الوداعي ليقوِّم بنيان الفصول الثلاثة بفصل رابع وقف فيه وقفةً نقديةً لتفسير القرآن للشيخ المقابي الموسوم بـ(صفوة الصافي والبرهان، ونخبة البيضاوي ومجمع البيان).
• أهم سِمَةٍ في الشخصية العلمية للشيخ المقابي (نوَّر الله مرقده):
بيَّن الدكتور الوداعي (حفظه الله) الرسوخ العلمي للشيخ المقابي بأكثر من وجه، منها إظهار ما كان عليه من قوَّة في علوم اللغة، خصوصًا علم النحو، فهو ممَّا يتوقف عليه فهم النصوص، وخصوصًا القرآنية منها، وإلى جانب ذلك مدى تضلعه في الحديث رواية ودراية، فقد كان منهجه تحكيم النص المروي على قول اللغوي الأعم من النحوي وغيره.
وأمَّا في ميدان الفقه فيكفي تصديه إلى أحاديث وسائل الشيعة دراسةً ومناقشةً لينتهي إلى طرح رأيه الفقهي الخاص، وقد ظهرت لي القوَّة والهيمنة والثقة العلمية للشيخ المقابي في إعراضه عن تناول كلِّ ما ورد من أحاديث كما أشار إلى ذلك الباحث الدكتور الوداعي بقوله: "كما وجدنا بعض أبواب الوسائل محذوفة بما فيها من عشرات الأحاديث"، وكذا: "كما عمد المقابيُّ إلى اطِّراح (أبواب أحكام الملابس ولو في غير الصلاة)"؛ فما أفهمه أنَّ الشيخ (طاب رمسه) لا يلزم نفسه بما لا يجده لازمًا، ولا يحيد عن ذلك لمصلحة سيرةٍ علمائية أو ما شابه. إنَّني -في الواقع- أرى ذلك قوَّة، لا ضعفًا ولا تهاونًا. *وهذا ممَّا أراه من سمات العقلية العلمية الفذَّة لعلماء البحرين*.
كما وأبرز الدكتور الوداعي قوَّة مِراس الشيخ المقابيّ (نوَّر الله مرقده) في مناقشته لآراء الأعاظم من فقهاء الطائفة والإيراد عليهم، ومن ذلك مناقشته لرأي الشيخ الطوسي (طاب رمسه) في مسألة قضاء النوافل، وكذا ناقش ابنَ بابويه (رضوان الله تعالى عليه)، والعلَّامة الحلِّي (رحمه الله)، وغيرهم.
ومن أهمِّ ما يكون عليه الفقيه قدرته على الجمع بين الأخبار والترجيح بينها، وفي هذا المضمار الخطير قال (علا برهانه): "إذا تعارض الحديثان فإمَّا أن يكون كلُّ واحدٍ منهما نصًّا في معناه، أو ظاهِرًا في معناه، أو محتملًا لأكثر من معنى على السواء، أو يكون أحدهما نصًّا، والثاني ظاهرًا مجملًا، أو يكون أحدهما ظاهرًا، والثاني مجملًا، فهذه ستَّة أقسام"، ومن بعد هذا التقسيم أخذ في تبيين ما يذهب إليه في مقام الجمع.
طرح الدكتور الباحث السيد الوداعي (دامت توفيقاته) مناقشات الشيخ المقابي (علا برهانه) في مهمَّات المسائل القرآنية، ومنها حجية الظهور، وإنَّني في هذه الإطلالة أُعرِضُ عن تدوين بعض الإشارات، فما في البال كتابة مقالة مفصلة لمناقشة كنوز المفاتيح التي أظهرها البحثُ.
أمَّا اهتمام الشيخ بعلم الرجال فلغايات، منها عند الأخذ من غير الكتب الأربعة، ولذلك قال: "وعندي أنَّ الترجيح -بهذا التنويع- مخصوصٌ بغير أحاديث الكتب الأربعة؛ لاعتقادنا صحتها بشهادة أربابها"، وغير ذلك -في نظري القاصر- أنَّ للوقوف على أحوال الرجال أثره المحوري في فهم الرواية وتوجيهها بالشكل الأصوب، وقد تطرقتُ إلى هذا الأمر في غير مكان.
أقول:
1- يلتزم الشيخ محمَّد بن علي المقابيّ (علا برهانه) بمنهج ثابت، كما غيره من الأعلام قبل بعض متأخري المتأخرين بالمسار الصناعي للعقلية العلمية، وفي ذلك لا يمكن الالتزام بكليات مدونة تكون حاكمة على كلِّ قراءة الفقيه، أو المفكر بشكل عام، فالعالم يصير إلى القواعد عند تردُّده في رؤيته العلمية القائمة على أصول الثقلين المقدَّسين. ولذلك هو لا يُرى بالعين الأكاديمية ملتزمًا بمنهج البحث الذي ألزم به نفسه، وهذه نكتة -أتصورها- في غاية الأهمية، وهي ما وعدتُ بالإشارة إليه في الخاتمة.
2- أشار الدكتور الباحث (دامت تأييداته) إلى احتمال ذهاب الشيخ المقابي (طاب رمسه) في بعض الاستطرادات التي لا تظهر الحاجة إليها إلى إبراز قدراته العلمية.
أقول: نعم، فإنَّ بعض الظروف الواقعية قد تستدعي هذا النمط من الطرح، ولا أستبعد تعرُّض الشيخ (رحمه الله) إلى ما دفعه إلى مثل تلك الاستطرادات، خصوصًا مع ما ذُكِر في البحث من حدَّة ولده في نقد بعض آرائه!
قال واصفًا بعض ما ذهب إليه: "كلام قشري عري عن التحقيق، والنظر الدقيق"، وقال في مورد آخر بأنَّ في كلام والده من "المجازات والتأويلات البعيدة التي يمجها الطبع السليم، وينفر منها الذوق المستقيم"! وبذلك، لا أستبعد أن يكون الشيخ، بالرغم من هدوئه ووسطيته وتجنبه رد السيئة بالسيئة، قد لجأ إلى طرح ما يُظهِر رسوخه ومتانته وقوته العلمية ولو باستطرادات قد لا يستدعيها البحث.
*كلمة في الختام:*
*الباحث الدكتور السيد عيسى بن السيد جواد الوداعي..*
ليس من الباحثين الذين لا تمل القراءة لهم، بل هو من أولئك الذين تشتاق للقراءة لهم كلَّما قرأت ما يبدعه فكر يراعهم..
هو باحثٌ أكاديميٌ بارع، ولكنَّه ليس ببعيد عن الفقاهة، ولا عن التفسير، ولا عن الأصول، فتناوله لما يبحثه الفقهاء يظهر مدى توسعه وتعمقه وهضمه للمسائل، فهو لا بطارئ ولا بمتجري، فهنيئًا لنا مثل هذه القامات العلمية العالية في بحرين العلم والمعرفة.. بحرين الفكر والعلماء.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي 23 ربيع الأوَّل 1440 للهجرة البحرين المحروسة