كانت لي قراءة ماضية مع محاولات فهم اللغة اليومية كتعبير عن الحاجة والطلب وفق احداثيات زمانية وجغرافية، وبحثا في إمداداتها وخاصة الرئيسية منها مثل الدين، وكان للبعد الصوفي الحجم الاكبر في تجذره في اللهجة العامية التونسية والذي وإن بدى أحيانا معلنا تعرفه بتكرار المصطلحات الصوفية أو أسماء المشهورين من أصحابها بأسماء المدن أو تسمعه ملحنا و او مقرونا بدعاء يكون فيه هو الواسطة بين الله وعبده، فإنه في أحيانا أخرى أو غالبا لا تدرك ثقل العبارات بالمعاني الصوفية إلا بتتبع مصادرها الأولى، وأذكر دراسة للد. محمد الرزقي يذكر فيها أمثلة لذلك ومنها الدعاء كالقول: "ربي يستر حالك"، ينفي الفهم الشائع ويؤكد على المعنى الأصلي المتمثل في ستر الحال المعنوي، "الحال" الذي عرف عند أهل التصوف بما يرد على القلب من معان دون تكلف أو اجتلاب، أي هو سؤال للداعي له بأن تبقى الحقائق ملكا له، فيحتفظ بها في باطنه ويعيشها ويتحقق بها، ساترا الله حاله دون كشف. وفي نفس السياق عبارة: "برا ربي يفتح عليك" والمعنى الأصلي الدعاء بأن يفتح الله عين بصيرتك على الحقيقة الكلية وهي معرفته سبحانه وتعالى.. وإلى ذلك مما استشهد به. إننا نعيش في مجتمع زاخر بتراث صوفي يمتد عميقا في الزمن. ولست تفهم كيف تم ذلك إلا بقراءة في تاريخ تطور الصوفية، كيف نشأت وإلى ما آلت. كانت خطوتي هذه متأخرة حقيقة مقارنة بما أملكه من معلومات قليلة لا يجمعها تمثل تاريخي واضح، لكن نقص كهذا ما ظننت اني اتجاوزه (ولو قليلا) من قراءة أولى، وذلك لأن كتاب "الصوفية، نشأتها وتاريخها" لنايل جرين اختص بسرد تاريخي متميز يتتبع الصوفية أول ظهورها كممارسة عند اشخاص معينين إلى ممارسة جماعية منظمة [تتحول فيها الفكرة إلى تقليد مؤسس على مصادر السلطة الشرعية المعترف بها(قران+سنة).] انخرطت فيها جميع فئات المجتمع لتتخذ الشكل المؤسساتي الذي يكسب قيمة بالغة الأهمية من خلال التأكيد على "ولاية" مؤسسي الطرق الصوفية وعلى نسبهم الشريف، ما يخلق ضرورة توظيف التاريخ لبناء تقليد مرموق وشرعي يظهر من خلال كتب "الطبقات" التي تقدم حجة على أن التصوف يتوارثة الأجيال منذ وقت الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقع الكتاب في حوالي 342صفحة، موزعة على أربعة فصول ترصد التطور التاريخي للصوفية، وذلك على النحو الآتي:
*الفصل الأول المتعلق بفترة أوائل العصور الوسطى وعنوانه "الأصول والأسس والمنافسون"، يدرس هذا الفصل مشكلة أصول الصوفية، ويعرض آراء بعض المؤرخين خاصة فيما يتعلق بقولهم ان الصوفية متأثرة بالمسيحية وهو ما تنفيه نايل، فحسب ما تعتقده صحيح أن هناك مشترك في الزهد بين المسلمين والمسيحيين لكن لا يعني ذلك وجود أصل مسيحي للصوفيين، وتقول في تعليقها على حركة الزهد الأولى التي ظهرت بين المسلمين في القرن الأول للهجرة: 《الزاهد لا يتطور وينضج ليصبح "صوفيا" بل لقد أخرست أصوات "الزهاد" من خلال تهميش الصوفيين الأكثر نجاحا لهم.》 وفي القرن التاسع عشر مع ما عرفته المنطقة من جدالات مختلفة كمحاولات لفهم المصادر التي تركها الرسول، ظهر الإسلام السني معطيا مكانة خاصة لعلماء الدين لتحديد ماهية الرسالة الفعلية للقرآن والحديث، علا صوت الصوفيين القائل بان للنصوص ظاهرا وباطنا وإذا كان الفقهاء وعلماء الشريعة لا يستطيعون إلا أن يفهموا ظاهر النصوص فإن الصوفية وحدهم هم الذين يفهمون باطنها من خلال ما تحققه التجربة من تواصل مباشر مع العوالم الإلهية وهو ما عرف ب"التحقيق"، لكن هذا في الحاصل لا يجعلهم مختلفين بالكامل عن طبقة علماء الدين الناشئة، وإنما هم مجموعة فرعية خاصة تشترك في الكثير معهم. ولعل ذكر نايل للمفكرين الأوائل والوقوف على ما قدموه كان سعيا منها لتقديم أسس ومصادر التصوف التي سيبني عليها الجيل الثالث والرابع أفكارهم، ولأن الزهاد الخراسانيون لعبوا دورا رئيسيا في نمو الحركة فقد خصت ذكرهم مع تلك الطبقة .
*أما الفصل الثاني المتعلق بفترة العصور الوسطى والمعنون "بإسلام الأولياء والطرق" فقد تضمن التطورات التي عرفتها الصوفية حتى جعلتها ذا طابع مؤسسي، وترجع نايل جرين ذلك إلى ثلاثة آليات: -الأولى تتمثل في التأسيس المفاهيمي والتنظيمي للطرق، فقد قدم الصوفيون منهجهم على أنه طريقة محددة بقواعد، لا يسلكها إلا من "بايع" أو "عاهد" الشيخ، ومن حلقات ومجموعات إلى تنظيم جديد مع تأسيس "الخانقاوات" التي مارسوا فيها تجربتهم، ما سيؤدي لاحقا إلى تكوين "طرق" أو "طوائف" تسمى بأسماء مؤسسيها؛ فتكتسب رسمية من خلال وجود المكان والميثاق (بين الشيخ والمريد) والقواعد لنتحدث حينها عن "كيانات" و "مناصرين". -أما العامل الثاني فهو ظهور عقيدة "تقديس الأولياء". إن نظرية "الولاية" موجودة مسبقا لكن الجديد هو تقديس هؤلاء الأولياء، فتبنى الأضرحة لهم ويقصدون للتبرك بهم وتحفظ قصص المعجزات في "السير" ويحفظ نسبهم في "الطبقات"، و《ما كان فكرة بين أوساط المثقفين تحول إلى أماكن وقصص وأفعال بين أوساط العوام》.. ونتيجة لذلك كون المعتقد إيديولوجية قوية تقوم على الهرمبة البشرية المحددة إلهيا، ما سيقود حتى الحكام لنيل رضا هؤلاء لكن بمعنى اجتماعي، أي من اكتسب الصوفيين إلى جانبه فقد صار العوام المؤيدون مناصرين له، وتمكنت الصوفية بذلك من تخليد نفسها عبر الزمن. -وبالنسبة للعملية الثالثة فتتمثل في تزايد إضفاء الطابع المحلي على الأفكار الصوفية من خلال إستخدام اللغات المحلية في كتاباتهم(عربية، فارسية، هندية، تركية) وقد أشارت جرين إلى الذين عرفوا الإسلام من خلال كلمات الصوفيين، إضافة الى اعتماد الشعر والغناء الشفهي ما زاد عدد الأتباع . هكذا 《بعد أن كان الصوفيون جماعة من جماعات مسلمة كثيرة تزعم القيادة الدينية قبل القرن الحادي عشر، أصبحوا فيما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر المتحدثين باسم الله على الأرض، وفي الوقت نفسه بطانة الملوك》. وهذا الأمر الأخير المشار اليه ب"بطانة الملوك" يرسم تطور العلاقة بين الصوفية والدولة، وهو ما تم دراسته في : *الفصل الثالث من الكتاب ، والذي اختارت له صاحبته عنوانا مثيرا: "الإمبراطوريات والحدود والمجددون" وهو غاية في الأهمية وذلك لدراسته فترة أوائل العصر الحديث التي لها تأثير مباشر على عصرنا الحالي. وهي الفترة التي نتحدث فيها عن "الإسلام الصوفي" أي الصوفية بكونها جزءا لا يتجزأ من الإسلام نفسه، لهيمنتها وسيطرتها. أول توجه لنايل جرين في هذا الفصل هو الإشارة للنظام القبلي الذي كان من السهل السيطرة عليه حيث لا دولة منافسة تحبط الجهود، اي في ظل -ما عبرت عنه نايل- اللاسلطوية الدينية تصير لكل قبيلة ولي هو القائد ومصدر السلطة، وسيسفر ذلك مع عامل الطموح نحو الحكم عن كل من الإمبراطورية العثمانية والامبراطورية الصفوية، إلى جانب سيطرة سياسية واجتماعية مهيمنة في الامبراطورية المغولية، وفي شمال افريقيا مع المملكة المرينية والسعدية ، وفي افريقيا جنوب الصحراء الكبرى مع امبراطوريتي سونجاي والفونج... وغير ذلك مما تأتي عليه الكاتبة ببعض تفصيل. ثم هي تدرج مراحل الضعف والانحسار الذي شهده التصوف في بعض من تلك المناطق خاصة مع انتشار "حملة التصحيح" التي تطالب بالتجديد الديني، والحملة في أولها لم تتضمن هجوما كاملا بل كانت تدور حول تحديد سمات التقليد الصوفي المفيدة وتلك الهادمة للحياة الإسلامية الصحيحة، أي أن النقد كان لحد كبير موجه لجوانب معينة متعلقة بالجماهير بصفة خاصة من تبجيل الأضرحة وتقديس الأشخاص وليس إلى البناء الماورائي والأخلاقي، وذلك إلى اواخر القرن التاسع عشر، ثم تظهر حركة الإصلاح الإسلامي الكبيرة التي تعتبر الصوفية بكل صورها عاجزة عن ربط المسلمين بالنبي وترفض البدع التي أتت بها، وهو ما نشهده بصورة اوضح في فترات الإستعمار وما بعدها حيث صارت تعد الممارسة الصوفية العقبة الأساسية في سبيل تجديد الإيمان وليس الوسيلة له. وهو ما ستركز عليه في : *الفصل الرابع والأخير المتعلق بفترة العصر الحديث وعنوانه"من الإستعمار إلى العولمة"، وفيه نظر للتأريخ السياسي وما الت اليه الصوفية بعد نجاتها من الإستعمار وكيف كانت مواقفها أمواجهة وتحد وجهاد أم تحالف و وفاق وتعايش؟ وكيف سيصير الأمر بعد أن أعلنت (مع ما عرف عن "صدمة الحداثة" حين مواجهة الغرب) أنها تمثل الفساد والخرافة والتخلف؟ هذا ما تجيب عنه نايل جرين. وختاما، يمكن القول إنه وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب وسهولة أسلوبه، الا أن المؤلفة قد تمكنت ببراعة من الإحاطة بمختلف فترات تكون الصوفية من القرن التاسع إلى عصرنا الحديث. ويحسب لها عرض وجهة نظرها عن ما كتبته في آخر المؤلف وهو الأمر الذي ضاعف من قيمته.
قرأت كتب عن الصوفية بعضها للصوفيين أنفسهم والمشاهير جدا منهم. من هذه الكتب: الرسالة القشيرية، والرعاية لحقوق الله، وإحياء علوم الدين، وغيرها من الكتب الهامة جدا ، كما قرأت كثير من كتب الإمام الأكبر الراحل، عبد الحليم محمود عن أهم أقطاب الصوفية الكبار، وهذه الكتب في الحقيقة تغطي مساحات واسعة من الفكر الصوفي وتاريخ التصوف وهذا يجعل أي كتاب بعدهم قليل الأهمية إن لم يكن متفردا بشيء يقدمه لم يقدمه ما قبله، وأعتقد أن كاتب أجنبي _ رغم قوة الباحثين الأجانب _ بعيد تماما عن الإلمام الجيد بالتصوف الإسلامي خصوصا أنه بعيد عن روحه وأهدافه. الكتاب مجمل في تاريخ التصوف وأعتقد ان هناك أفضل منه.
كانت لي قراءات سابقة في الصوفية نشأةً وتطوراً لكن هذا الكتاب أحسنها تقسيماً وأكثرها سلاسة. وهو غزير المعلومات وواسع التغطية. يمكنني القول إن الكتاب بَحَثَ الصوفية وتتبّعها عبر القرون وعلى امتداد القارات في ثلاث نقاط مفصلية دار حولها وكانت هي المحور، وهذه النقاط هي:
أولاً/ دراسة ولادة الصوفية وتتبع تعريفاتها وتطوراتها الداخلية-الفلسفية عبر الأزمان ابتداءً من بروزها كمجرد تجربة شخصية روحانية فريدة عاشها علماءٌ من العراق كالخراز والتستري والجنيد ووصولاً إلى تحولها إلى حركة منظمة لها آداب وقواعد وسلوكيات محددة.
ثانياً/ دراسة طبيعة علاقة الصوفيين بالطبقة الحاكمة-أصحاب النفوذ والأموال وعرض كيف تغ��ّر نوع العلاقة ولونها بتغيّر الزمان والمكان والشروط الثقافية والاجتماعية لكل جيل من أجيال الصوفية. وهذه العلاقة لطالما تذبذبت وتأرجحت بين تيارين متعاكسين أحدهما التمرد ومقاومة السلطة الحاكمة والآخر هو عقد سلام ووفاق مع طبقة النفوذ وحيازة مكانة "اليد اليمنى" للطبقة الحاكمة والتجار.
ثالثاً/ تبدل واختلاف التقنيات التي استخدمها الصوفيون في كتابة سِيرهم ونشر أعمالهم وتوسيع قاعدتهم الجماهيرية، فمثلاً اعتمدت البدايات على نقل الحكايا والأخبار شفهياً بين أتباع الشيخ وفي مدينته، ثم تطور الأمر للتدوين وظهرت "الملفوظات" وهي كتب تحفظ التعاليم الشفهية للشيخ الصوفي وتورثها للمريدين من بعده، ثم ما لبث أن دخل الشعر والأدب كحاضنَين للتجارب الصوفية واكتسحا الميدان برواجهما الواسع على شكل قصائد وأناشيد رددها الصغار قبل الكبار وحُفرت في الذاكرة الشعبية فيما كان يُسمى "حلقات ذكر" وهي طقوس الإنشاد الصوفي وأجواؤه.
* لم يسلم الكتاب -كون مؤلفه مستشرق- من سلبيتين لا يخلو منهما أي إنتاج استشراقي قرأته للآن على الأقل. السلبية الأولى هي إصرار المستشرقين وبحثهم الدؤوب عن ثغرات ومخارج تمكنهم من تغريب بعض التقاليد-الأفكار-السلوكيات الإسلامية وردّ أصولها إلى عناصر غريبة عن المجتمع الإسلامي كالعنصر المسيحي أو اليوناني، أي نكران أن تكون ظاهرةً أو فهماً معيناً هو إبداع إسلامي أصيل بل لابد أن يكون المسلمون قد تأثروا وأخذوه عن غيرهم. وهذا ما لمح إليه جرين في مقدمته عن نشأة الصوفية لكنه- على ما فهمت- تراجع في النهاية وأقر بأصالة الصوفية.
أما السلبية الثانية فهي النظر بنظرة مادية بحتة في تفسير وتحليل أحداث التاريخ، فالكاتب مثلا وعلى امتداد الكتاب ما زال يكرر أن بسط النفوذ والسيطرة على الحكم وطرق التجارة هو الدافع الأول وراء أغلب تحركات الصوفيين الاجتماعية والشعبية، وأن هذا الهاجس كان هو المتحكم في قراراتهم وأساليبهم، ولا أظن هذا التحليل تحليلاً دقيقاً أو منصفاً.