يعالج هذا الكتاب ظاهرة الدين من وجهة نظر العقل الديني، الذي ينكر أي بعد اجتماعي في الديانة، وكذلك من وجهة نظر العقل الوضعي، الذي ينظر إلى الدين كظاهرة اجتماعية مصنوعة داخل العلَم.
يرادف العقل الديني بين معنى المطلق ومصطلح الله. إن تصورات العقل الديني المتعدّدة حول المطلق هي ما تعنيه هذه الدراسة بمصطلح اللاهوت.
كيف يمكن فرز ما هو اجتماعي عن ما هو إلهي؟ وكيف يمكن تعيين المطلق في ذاته؟ وكيف يكون هذا التعيين ممكنًا داخل العالَم؟
هذه الأسئلة ليست مجرد صياغات جديدة للسؤال التقليدي عن وجود الله والبرهنة عليه؛ بل هي منهجية مختلفة في مقاربة المسألة الدينية؛ منهجية تجمع في صعيد واحد بين التجريبية الاجتماعية والفلسفة الكلامية، كي تتجاوزهما معًا.
يناقش الكتاب اللاهوت الإسلامي على مستويين:
1- بما هو شق من نسق تدين عام هو النسق التوحيدي. 2- في ذاته. حيث ينصب النقاش على مادته الموضوعية وعلاقتها بمناخه الاجتماعي لخاص: كيف صدرت عن هذا المناخ في حقبة التأسيس؟ أو كيف تكونت، بتأثير المناخ، على هيئتها الممايزة لمفردات النسق العام. وكيف انتسبت أصلًا إلى هذا النسق رغم تمايز المناخ؟ ثم كيف صارت في حقبة التدوين الكلامية؟ ما الفرق بين لاهوت المؤسس ولاهوت الفرق المتعددة؟ وأين تطور اللاهوت الإسلامي عند لحظة التدوين؟ وكيف تأثر التطور بالمثيرات السياسية والثقافية الجديدة؟ وأخيرًا هل تطور اللاهوت على المستوى الدراسي أو الشعبي بعد مرحلة التدوين؟ هل أبدى أي نوع من الاستجابة للمثير الحداثي كما فعلت المسيحية الغربية؟
مفكر متميز استطاع كسر أغلال السلفية التي كبلته لعقود من الزمن. قاضٍ مصري سابق من مواليد 1954، تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1976، وتدرج في سلك النيابة العامة والقضاء منذ تخرجه. له مؤلفات في الفكر السياسي والفقه الدستوري، آخرها: تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر.
الكتاب يتكلم عن التصور البشري التاريخي لفكرة وتصور الاله سواء في الشرق الاوسط او الشرق الاقصى منذ بدايات التاريخ وحتى العهد القديم.
ثم يحصر تتبع التصور في الديانات الابراهيمية التوحيدية فيبدأ من العهد القديم الى العهد الجديد ثم من العهد الجديد حتى الاسلام ثم من العهد النبوي وحتى اليوم.
الكتاب تحليل تاريخي يظهر وجهة نظر او اهتمامات الكاتب، وهو مجهود جبار يستحق الاشادة ولا يعني هذا ان احاطته بالموضوع لا تحتاج لنقد، ولكنه احدث نوع من التوتر الفكري المطلوب لزعزعة مركزية التأويل الديني القادم من مؤسسات الدولة الرسمية.
الكتاب مسطور بلغة معقدة استطاع فيها الكاتب خلق مفردات جديدة ستضاف حتما الى المعجم العربي كما فعلها في كتابه السابق الدين والتدين، لانها مفردات تشير الى تطور نوعي في الفكر العربي والاسلامي الحديث.
يهدف مشروع المستشار عبد الجواد ياسين في العموم إلى تسكين كل ما هو اجتماعي داخل الاجتماع ومحاولة التفرقة بين ما هو مطلق [إلهي] وما هو اجتماعي -أي بشري- ، وهنا كانت سلسلة كتبه في الخمس والعشرين سنة الماضية على خطة ثابتة؛ من تسكين للأحاديث والسنة -كنص تأسيسي لاحق- في الاجتماع ثم تسكين السياسة بكل ما يتعلق بها داخل الاجتماع (السلطة في الإسلام ١ و السلطة في الإسلام ٢)، ثم لحق ذلك بمرحلة لاحقة متطورة في التعامل مع النص التأسيسي الأول (القرآن) وبمشرط جراح تم انتزاع كل ما هو اجتماعي من داخله وبذلك قام بتسكين الشريعة كاملة داخل الاجتماع بما هي متغيرة ومتعددة ويحكمها التدين الذي هو فعل بشري داخل الاجتماع (الدين والتدين) ثم كان الجزء الثاني والأخطر من هذه السلسلة وهي تسكين اللاهوت داخل الاجتماع أي تسكين الله كتصور داخل الاجتماع (اللاهوت)، وبه ينتهي المستشار إلى ما بدأ به وهو أن المطلق هو "الله والأخلاق الكلية" ولا شيء آخر.
- منقول من صديقي العزيز يحيى فكري-
ناقش عبد الجواد ياسين في هذا الكتاب الجزء الثاني من نظريته حول الدين والتدين. الدين بما هو مطلق صادر عن خارج الاجتماع ينحصر في الإيمان بالله والأخلاق الكلية التي اتفقت عليها الأديان والفِطَر الإنسانية؛ أما التدين فهو الشق الاجتماعي المتغير بتغير الزمان والثقافة والبيئة وهو ممارسة الدين (الفكرة المطلقة) داخل الاجتماع بما يشتمل عليه من شرائع وقوانين وطقوس و"عقيدة" (أي التفصيلات الكلامية واللاهوتية حول طبيعة الله).
ناقش المستشار اللاهوت في ثلاث مستويات: مستوى اللاهوت العام، واللاهوت الإبراهيمي، واللاهوت الإسلامي الخاص. وسبق ذلك كله بمزيد تفصيل حول نظريته ونظرته إلى العقل الديني والعقل الوضعي الذي يصر كلاهما على نظرة أحادية لقضية الدين والإيمان. لا يرى عبد الجواد ياسين تعارضًا في كون التدين صادرًا عن مصدر إلهي (الدين) وكونه يخضع لقوانين وعوامل الاجتماع، فالفكرة المطلقة -كأي فكرة- تعمل داخل العالم بقوانينه. المشكل في العقل الوضعي "العلمي" حين ينكر البعد الإيماني في الدين لعدم قدرته على تحليله بشكل تجريبي محسوس لأن الإيمان بطبيعته غير قابل للتجربة.
على مستوى اللاهوت العام، يبرز فارق كبير بين أديان الشرق الأوسط (القديمة والإبراهيمية) وديانات الشرق الأقصى (كالهندوسية والبوذية والطاوية). ففي حين أنه -أونطولوجيا- تتبنى أديان الشرق الأدني نظرة ثنائية للوجود (ذات - موضوع) فإن ديانات الشرق الأقصى تتبنى نسقًا كليًا لا وجود فيه لتباين بين الذات والموضوع، فالكل جزء من حقيقة واحدة كلية (كالديانة الهندوسية وفكرة براهمان). هذه النظرة الأونطولوجية هي التي تسمح ابتداءً للبشر بإسقاط تصورات على فكرة الله (وهو ما يعبر عنه ياسين بعبارة "الله كتصور"). فكرة الله تكون موضوعًا للمعرفة ويمكن معرفتها وبالتالي يكون لها صفات و"روح" مباينة للذات. في حين أن الديانات الآسيوية لا ترى معنىً لإلقاء أي صفات على براهمان مثلًا، وآلهة الهندوسية المتعددة (شيفا وبراهما وفشنو وغيرها) ما هي إلا تمثلات للفكرة المطلقة (براهمان) كي يتمكن البشر من تناولها.
اللاهوت، بما هو جزء من التدين، أي فعل اجتماعي، لا يصدر من العدم (كما التشريع)، بل يصدر عن الثقافة والبيئة التي نشأ فيها. لذلك لم تظهر المسيحية كانشقاق عن الهندوسية ولم تظهر البوذية في الشرق الأوسط مثلًا.
في ديانات الشرق الأوسط القديم (سومر وبابل وآشور وكنعان ومصر القديمة)، كانت فكرة التواصل مع الآلهة موجودة عن طريق الكهان والرائين، لكنها كانت في الغالب متعلقة بالحكم والسياسة والحروب عوضًا عن تكاليف وتشريعات دينية على النمط اليهودي والإسلامي. لم يكن هناك "كتاب مقدس" على غرار التوراة والانجيل والقرآن، كان هناك نصوص مقدسة لكنها كثيرًا ما كانت عبارة عن رُقىً وأدعية كما في كتاب الموتى في مصر القديمة.
بالانتقال إلى نمط التدين العبري، تطورت فكرة "الإله الرئيس" فب الديانات السابقة إلى فكرة "الإله الواحد". لم تنكر اليهودية في البداية الآلهة الأخرى وإنما نهت العبريين عن اتخاذ تلك الآلهة بجانب يهوه (كان لكل شعب إلهه الخاص). اللاهوت العبري في نصوص العهد القديم يكشف عن طبيعة اجتماعية واضحة للاهوت، فالله هو إله بني إسرائيل، ويبدو منشغلًا بمعارك تلك الجماعة وسط بيئة ثقافية وسياسية مرتبكة. مع الوقت وتحت الضغوط والتطورات الاجتماعية والسياسية المختلفة، أخذت فكرة "الإله الوحيد" في الظهور، وتم إبطال باقي الآلهة بعدما كان هناك إقرار بوجودها. الآن بدأت فكرة التوحيد الحصري الذي ينفى أي مشروعية لآلهة أخرى.
ظاهرة النبوة التوراتية أيضًا شهدت تطورًا عن النشاطات الدينية السابقة: في الأسفار المبكرة من العهد القديم هناك تساوٍ بين الرائي أو العراف وبين النبي، الذي يقدم نبوءات وبشارات وتحذيرات أيضًا. عرف الأنبياء التوراتيون أيضًا حالات وأعراض نفسية وذهنية متشابهة ومتكررة تشبه الوجد الصوفي. فكرة الوحي التوراتية (الإله يتنزل أو يلقي كلمته إلى شخص معين في زمن معين دون فاعلية من الموحى إليه) كانت آخر حلقة من تطور فكرة التواصل مع الآلهة. وهي -بطبيعة الحال- ظاهرة خاصة بالديانات الإبراهيمية، فلا معنىً لتواصل بين الله والبشر في ثقافة دينية لا ترى فاصلا بينهما، بل ترى أن المعرفة الدينية بالإله تنبع من الذات. كانت ظاهرة النبوة في التدين العبري شديدة التلاصق بفكرة الدولة أو الشعب، ولذلك توقف ظهور الأنبياء العبريين بعد دمار الهيكل وبداية المنفى اليهودي بعدما كان قد استمر لحوالي ألفي عام. النبي في السياق العبري كان منشغلًا بمشاكل شعبه وبيئته وكان منهم الملوك ومعارضو الملوك.
مع ترسخ فكرة الإله الواحد الذي لا يشبه أحد من الآلهة، تراجعت فكرة الصور والرسوم لتحل مكانها كلمة الله، ومن هنا بدأ مصطلح الكتاب في الظهور على نمط مغاير للديانات القديمة -باستثناء الزرادشتية-. ظل العهد القديم مفتوحًا على مدار الحقبة من موسى إلى دمار الهيكل (١٥ قرنا تقريبا اذا ما اعتبرنا الرواية التوراتية)، ولم يغلق ؤوى بعد انتهاء ظاهرة النبوة التوراتية. نشأ حينها الوعي ب"الكتاب" كنص مغلق مطلق منفصل عن بيئته وزمانه، وظهر مفهوم 'النصية": فكل نص في الكتاب مطلق، وصار الكتاب موضوعا للمعرفة بدوره.
هذه أبرز السمات التي طورها التدبن العبري (النبوة، الكتاب، التوحيد)، والتي نشأت منها المسيحية والإسلام في سياقين مختلفين: المسيحية لاهوت عبري في سياق روماني يوناني، والإسلام لاهوت عبري في سياق عربي.
بالانتقال إلى الإسلام، فهناك ثلاث مثيرات اجتماعية ساهمت في تشكيله: الوثنية القرشية والتدين القرشي الذي انتسب هو أيضا إلى إبراهيم، اليهودية و المسيحية التان كانتا قد دخلتا جزيرة العرب، والحنيفية والتي ظهرت قبيل ظهور الإسلام، وكانت على احتكاك أكبر بأهل الكتاب واعتبرت نفسها دين إبراهيم. في هذه السياقات ظهر الإسلام، متبنيًا الرواية التوراتية مع تخليصها من ثقلها الإثني العبري ومتبنيًا الحنيفية كدين إبراهيم الأصلي ومتبنيًا في الوقت ذاته طقوسًا عربية عدة. في المرحلة المكية انصب اهتمام الخطاب القرآني على تثبيت فكرة التوحيد (لا إله إلا الله) مقابل الشرك -في بيئة كانت تقر بوجود الله وتعترف بعلوه ولكنها تتقرب إليه بالأوثان- ومن ثم على تثبيت النبوة (محمد رسول الله ) ودفع شبهة الجنون والكهانة التي كانت تعرفهما العرب عن محمد. بالانتقال إلى المدينة، بدأ التشريع يصدر توازيا مع تحول المسلمين إلى جماعة تشبه الدولة، كما ظهر اليهود كمثير اجتماعي سياسي رفض الاعتراف بنبوة محمد وسلطته الدينية، فدخل القرآن معهم في سجالات لاهوتية وتاريخية أكبر من تلك المكية (حيث غاب المؤثر اليهودي تقريبا عن مكة). تحول محمد من نبي رسول في مكة إلى نبي قائد ومشرع في المدينة، وظهرت فكرة الله المشرع والتكليفات الإلهية في المدينة. لم يشر القرآن إلا عرضا إلى فكرة الإلحاد مثلا، فالذين خاطبهم القرآن كانوا في الغالب مؤمنين بالله وإن كانوا مشاركين به. لم يكن هناك مثير ولا قابلية ثقافية لدى المجتمع الجاهلي تدفع القرآن لمناقشة إثبات وجود الله على الطريقة الكلامية المنطقية.
كان التوحيد بوفاة الرسول يعني إفراد الله وحده بالعبادة ونبذ الشرك بكل أشكاله (الوثنية والتثليث). لم بكن هناك وعي بعد بإشكاليات الذات والصفات وطبيعة الألوهية وطبيعة التوحيد وغيرها من المسائل الكلامية، فقد كان المخاطبون يتعاملون مع تلك المفاهيم بطبيعتهم العفوية في بيئة بسيطة فلسفيا. في حين أن مفهوم التوحيد كما تطور في المذاهب الإسلامية المختلف تضمن الإيمان بالله والاقتناع بتفاصيل متعلقة بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات والقدر والكبائر وغيرها من التفاصيل التي يأثم من يخالفها (في تطور واضح لبنية اللاهوت). على مستوى النص، نشأت بنى نصية جديدة وسعت معنى الوحي من القرآن حصرًا لتضم إليه أحاديث النبي أو أقوال الأئمة.