هذه أقدم يوميات خاصَّة مُكتشفة في التاريخ الإنساني قاطبة، دوَّنها مؤرخ بغداد أبي عَليِّ بن البَنَّاء الحَنْبَلي بخطِّ يده نحو مُنتصف القرن الخامس الهجري. وقد اكتشفها المستشرق الكبير والمؤرخ الفحل جورج مقدسي، مخطوطةً بالمكتبة الظاهرية في دمشق، فحقَّقها وقدَّم لها وترجم نصَّها إلى الإنجليزية، ونشرها على حلقاتٍ خمس في مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن (BSOAS) بين عامي 1956- 1957.
ظلَّت يوميَّات ابن البنَّاء طيلة هذه المدة عملًا مجهولًا للقارئ العربي رغم وجودها في إحدى أشهر دور حفظ المخطوطات في العالم العربي، ولم يشفع ليوميات ابن البنَّاء أن من قام بتحقيقها ونشرها واحدٌ من أكثر المستشرقين شهرةً. وقد أعاد المؤرخ والمترجم المصري الدكتور أحمد العدوي مُقابلة نصِّ اليوميات على أصلها المخطوط، وصوَّب أخطاءً عِدة وقعت من مقدسي في ثنايا تحقيقه لنص اليوميات، كما قدَّم لها، واستهلَّها بترجمة مقدمة مقدسي ليوميات ابن البنَّاء، وألحق بها مقالًا كتبه مقدسي بعد رُبع قرنٍ من نشرته لليوميات: «ملحوظات على "اليوميات" في الكتابة التاريخية الإسلامية»، وذلك إتمامًا للفائدة.
إن هذا العمل لا ينفصل عن اهتمامات مقدسي بتأريخ المذاهب والمدارس الإسلامية، والتي أثمرت كُتبه الثَّــرَّة في هذه المجالات: ابن عقيل، ونشأة الكليَّات، ونشأة العلوم الإنسانية. كما أنه يُلبي حاجات القُراء المهمتين بالتاريخ والأدب على حدٍّ سواء؛ إذ إنه يقدم صورةً غنيةً بالتفاصيل للحياة السياسية والفكرية والاجتماعية والدِّينية في بغداد في القرن الخامس الهجري؛ لأن اليوميَّات -في حدِّ ذاتها- صِنفٌ فريد من الكِتابة يتوسَّطُ بين الأدب والتأريخ. كما أنه يقرِّبنا، كما لم نقترب من قبل، من رُوح إنسانٍ عاش قبل نحو ألف عام، وذلك بسبب طبيعة اليوميات الخاصة التي يكتبها المرءُ لنفسه لا للآخرين، واختلافها عن أنواع الكتابة التاريخية الأخرى كافةً.
منذ صدر هذا الكتاب عن دار مدارات وأنا عازمة على قراءته، ورغم أنه مر ثلاث سنوات على صدوره فإنني لم أنس عزمي الأول أبدا حتى أهدتني إياه أختي الحبيبة أقر الله عينها بما تحب
كالعادة مقدمة ثرية وممتعة للدكتور أحمد العدوي الذي نقل الكتاب إلى العربية(آثرت استعمال نفس التعبير المكتوب على الغلاف) ولا أظن أنني أبالغ إذا قلت أن هذه المقدمة هي أفضل ما في الكتاب على الإطلاق، في هذه المقدمة تناول المترجم تاريخ اكتشاف چورچ مقدسي ليوميات ابن البناء ثم يأخذنا في جولة للتعرف على معنى اليوميات بشكل عام وتاريخها ودوافع تدوينها وارتباطها بالعصر الذي تدون فيه وسماته النفسية والاجتماعية، ثم جولة أخرى للتعرف على اليوميات في التراث العربي وقد كانت جولة مدهشة حقا اطلعت فيها على معارف لم تخطر لي على بال ولم أتوقع أن ألقاها هنا. ثم يحدثنا بالتفصيل عن الشيخ الحسن بن البناء الحنبلي البغدادي صاحب اليوميات ويعرض لنا سيرة حياته وطلبه للعلم ومناصبه العلمية وعلاقاته بالعلماء والوجهاء وأولي الأمر وأهل الحكم في ذاك الوقت وكذلك تفاصيل حياته الشخصية، بل ومن خلال يومياته يستنتج المترجم الكثير من الأمور ومنها الصفات النفسية والعلمية التي ميزت صاحب اليوميات والتي ربما كانت عاملا مهما لفهم كثير من أحداث اليوميات كذلك، وفي النهاية وصف لمخطوطة اليوميات الأصلية ومنهج الدكتور في إخراج الكتاب طوال قراءتي لهذه المقدمة الممتعة كنت أستدعي كل ما استقر في ذاكرتي البعيدة عن كتابة اليوميات، لقد أغرمت ذات يوم بتدوين اليوميات تأثرا بما قرأت من سير ذاتية وبدأت بالفعل في طفولتي تدوين بعض المذكرات المعتمدة على تحديد اليوم والساعة، كانت يوميات ساذجة للغاية لا أستطيع حتى الإفصاح عنها دون أن أضحك من نفسي وأسخر منها :)) لكن العجيب أن قراءتي للكتاب استدعت هذا الغرام القديم المضحك بشكل مغاير تماما كله حنين وتأمل وندم أنني لم أستمر في تدوين يومياتي ونوايا غير أكيدة على البدء ثانية في هذا التدوين :)) هذه المقدمة أيضا دفعتني للتأمل في مغزى اهتمامنا بكتابة المنشورات على فيسبوك وتسجيل ما يمر بنا من مواقف يومية عادية أو مشاعر لحظية عابرة أو لقاءات بالأصدقاء أو أحداث مؤثرة سعيدة أو حزينة، هل يمكن اعتبار حساباتنا على فيسبوك بمثابة دفاتر يوميات الكترونية تتفق وروح العصر الذي نعيش فيه؟ هل يمكن الربط بين حرصنا على الكتابة والتدوين فيها رغم اختلاف قدراتنا التعبيرية واهتماماتنا وأساليبنا على أن الأمر ليس متعلقا بالكتابة الأدبية وغاياتها البيانية بقدر ما هو متعلق بالكتابة بوصفها وسيلة للتوثيق والاحتفاظ بالمواقف والذكريات؟! وما علاقة ذلك كله بالفردية التي تتنامى في العصر الحديث؟!
بعد ذلك هناك مقدمة أخرى لمحقق اليوميات وهو چورچ مقدسي، وعليك أن تتماسك عزيزي القاريء حتى تصل إلى نص اليوميات نفسه لأن المقدمة مهمة أيضا فلا تمل
ثم نص يوميات الفقيه الحنبلي ابن البناء، وعليّ أن أعترف أولا أنني أوشكت على الملل عند بعض المقاطع والشذرات وأنني تهت أحيانا في ما يحكيه ابن البناء من تفاصيل لا تعنيني كثيرا ولا تجذب انتباهي، كما أنني وجدت صعوبة في فهم بعض الألفاظ والأسماء وما المراد بها وكنت أتمنى لو روعي ذلك في هوامش الكتاب لكن بالرغم من ذلك فالنص كان ثريا ومدهشا وغير متوقع، لقد أعطاني صورة لم أتخيلها من قبل عن هذا العصر وهذه الظروف، فبغداد في القرن الخامس الهجري وأحوال الناس والعلماء والفقهاء وأصحاب السلطة فيها تبدو لك هنا على هيئة واضحة ومستغربة في نفس الوقت، وأظن أن قيمة هذه اليوميات تكمن أساسا في تلك الصورة التي استطاعت رسمها للناس في ذلك الزمان البعيد، إننا بحاجة إلى مقارنة الصورة التي ترسمها هذه النصوص التاريخية النابعة من حياة الناس ويومياتهم العادية وبين الصورة التي نتخيلها نحن عن ذلك الزمن دون استناد إلى أي منطق أو علم أو تاريخ مؤكد، مهم جدا أن نفهم تاريخنا كما كان بالفعل لا كما نتخيل أنه كان عليه
سأكتفي الآن بتعليقات سريعة عن أكثر ما لفت انتباهي في يوميات ابن البناء: أولا: اهتمامه الفائق بتدوين مناماته وتأويل أحلامه، لقد تكرر ذلك كثيرا في اليوميات مما ينبيء عن اهتمام متعاظم بالأحلام في حياة الناس حينذاك، أظن أنني سمعت في أحد دروس الشيخ بدر الثوعي أن الناس في عصور الضعف والخوف يهتمون أكثر بما يرونه أثناء نومهم من أحلام ورؤى، وأظن أنه تكلم أيضا في شرحه لحديث نبوي شريف عن العلاقة بين رؤيا المؤمن ونهاية الزمان وأنها لا تكاد تكذب بل تتحقق كما هي، كان تلك المقاطع مثيرة للاهتمام ومستدعية للتأمل والتحليل وتكشف عن كثير من دواخل نفس الفقيه الحنبلي وأعماق مشاعره وأفكاره
ثانيا: اهتمام ابن البناء بتسجيل الظواهر الكونية من زلازل وفيضانات وأثرها على الناس في مختلف البلاد وما خلفته من دمار ووفيات، لقد هالني هذا التكرر لوقوع الزلازل وآثارها التدميرية وأعداد الوفيات الناتجة عنها، لاسيما الزلزال الذي وقع في فلسطين والذي وقع في الحجاز، لاحظت أيضا أن الأخبار حينذاك كان تأخذ وقتا طويلا حتى تنتقل من بلد إلى بلد ومع ذلك فلم يدفع هذا الناس إلى اللامبالاة، بل بالعكس كانوا مهتمين بتبادل الأخبار رغم مرور أوقات طويلة على وقوع الحوادث نفسها
ثالثا: الصراعات العلمية والسياسية في ذلك الوقت أخذت حيزا واسعا من يوميات ابن البناء وبدا أنه غارق تماما في الاهتمام بتلك الصراعات لدرجة أنها اقتحمت عليه أحلامه، طبيعة هذه الصراعات بين أصحاب المذاهب وبين العلماء في المذهب الواحد وأثرها على العامة ومدى تدخل أولي الأمر فيها كان يكشف عن أمور لم تتبين لي من قبل، ولا أعرف إن كان يمكن مقارنة كل ذلك بما يحدث في عصرنا الحالي أم لا؟! ثمة أمور مشتركة بين عصور الضعف السياسي لكن ثمة اختلافات كبيرة جوهرية كذلك بل تناقضات لا يمكن تجاوزها
رابعا: اهتمام ابن البناء بتدوين الوفيات لاسيما من الجيران والأصدقاء كان لافتا للانتباه خاصة أنه كان يرفق ذلك بنبذة بسيطة عن المتوفي أو تفاصيل مرضه وموته وجنازته، كما أنه كان لديه وفاء كبيرا لمعلميه وشيوخه وأصحاب الفضل عليه وقد استغربت بعض الأمور التي لم أتوقع أن تصدر من حنابلة :)) مثل زيارتهم للقبور والاستغاثة بأصحابها (ص180) ولعلني لم أفهم جيدا ما حدث لكن لفت نظري ذلك واستغربته فأردت تسجيله
خامسا: لم يكن ابن البناء متملقا للسلطة رغم لين خطابه وحرصه على علاقات جيدة مع الوجهاء والحكام، لاحظت أن لديه قوة في قول الحق وتقريره وحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو كان ذلك بوسائل متلطفة ورفيقة
هذه تعليقات سريعة غير كاملة على نص اليوميات نفسه، ثم ينتهي الكتاب بملحوظات على اليوميات في الكتابة التاريخية الإسلامية وعلاقتها برواية الحديث النبوي وأنماط كتابة التاريخ الإسلامي وتطورها
وبعد، فهذا كتاب مدهش ممتع يستدعي أفكارا وذكريات وتأملات، ويدفع القاريء إلى مزيد من التفكير والتحليل والبحث وهو أعظم ما يمكن أن يستفاد من كتاب بشكل عام.
في هذا الكتاب يذكر لنا جورج مقدسي بأنَّ أقدم يومياتٍ تم اكتشافها في التاريخ هي يومياتٌ تعود لكاتبٍ فرنسي في القرن الرابع عشر، بل أنَّ ظاهرة كتابة اليوميات بدأت في الغرب تحديدًا بعد عصر النهضة. لكن لم يلبث جورج طويلًا حتى وقع صدفةً على بعض المخطوطاتِ الورقية في مكتبةٍ دمشقيَّة وقد كُتب في أعلى هذه المخطوطات: "يوميَّات ابن البنَّاء"، ثم اكتشف أنَّ هذه اليوميات قد كُتبت في القرن الرابع الهجري! لتصبح فيما بعد أقدم يومياتٍ كُتبت في التاريخ، فيأتي جورج مقدسي ليثبت لنا أن ظاهرة كتابة اليوميات عادةٌ إسلاميةٌ قديمة، وذكر نماذج عدَّة على بعض اليوميات التي دُوِّنت في العصور الأولى من الإسلام. وقد قام بتحقيق هذه المخطوطات وعددها ١٦ مخطوطة باللغة الإنجليزية، ونقلها لنا باللغة العربية فيما بعد أحمد عدوي. ——
أما ما يخُص يوميات ابن البنَّاء، فهي يوميات بسيطة لرجلٍ عاش طيلة عمره في بغداد. فيأخذك الكتاب برحلةٍ عبر الزمن، ليقرِّبك من حياة شخصٍ قبل آلاف السنين، فيُطلعك على الحالة الدينية والاجتماعية والسياسية آنذاك. ويومياته كانت قصيرة جدًا فبعضها لا يتجاوز السطر وأطولها نصف صفحة، وقبل كل تدوينةٍ يضع في أعلاها تاريخ اليوم والشهر. فيذكر بعض الأحداث التي حدثت في يومه ويعلِّق عليها، فيذكر مثلًا زلزالًا حدث في فلسطين وزلزالًا آخرًا حدث في المدينة المنورة، وأيضًا يُعلِّق على بعض أخبار من مات من معارفه، وبعض المشاكل السياسية التي حدثت آنذاك، وأبرز ماقد ذكر في يومياته هو الخلاف الذي حدث بين ابن عقيل والحنابلة. -—-
الكتاب ممتع لمن يهتم بالتاريخ ويريد معرفة الأجواء السائدة آنذاك. لكن مما يعيب الكتاب هو طول المقدمتين، ٧٠ صفحة لمقدمة المترجم، ثم ٥٠ صفحة لمقدمة المحقِّق، وبعض ماذكره المترجم قد ذُكر مرة أخرى عند المحقق مثل ذكر نسب ابن البنَّاء وفكرة كتابة اليوميات وغيره، فيوجد حشو كلام وتكرار لا طائل منه.
هذه اليوميّات أو "مُياومَات" كما كنت توصف في القرون العتيقة، هي لابن البنّاء الحنبلي المتوفّى سنة ٤٧١ هـ، وهو فقيه حنبلي معروف قد ترجم له ابن رجب في طبقات الحنابلة والذهبي في تاريخ الإسلام. وهي ليست يوميّات كاملة بل جزء يسير أو شذرة من شذرات يوميّاته وهذا يُفهم من طبيعة ما كُتب فيها، ففيها يتحدّث عن أحداث عام هجري واحد -فقط- ويبدو أنه كتبها لنفسه لا لينشرها فهي أشبه بقناة تيلجرام في واقعنا المرير. وقع على هذه اليوميّات -بالصدفة- جورج مقدسي المستشرق اللبناني المعروف صاحب: "نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلم��ن وفي الغرب". وقع على هذه المخطوطة في طريق بحثه عن ابن عقيل الحنبلي لأن ابن البنّاء قد ذكره في اليوميّات في أكثر من موضع، بالإضافة إلى اهتمامه بشكل عام في الصراع الواقع بين الشافعيّة والحنابلة في تلك الحقبة التاريخية.
على الرغم من نشر مقدسي لهذه اليوميّات في السبعينات الميلادية، إلا أنها لم تعرف في سياقنا الثقافي وهذا لأسباب كثيرة سأكتفي بذكر اثنين منها: ١- أن مقدسي نشرها في مجلة غربية ليست مختصة بهذا الفن فلم يعبأ بها أحد ٢- أن تحقيقه للمخطوطة كان في غاية القبح، حتى اندفع د.أحمد العدوي في إعادة تحقيق المخطوطة من "مسافة صفر"، ولكنّه خجل أن يذكر ذلك بكل صراحة حافظًا على مجهود الرجل، فقال أنه عدّل عليها، ولكن أشعلها -بحسن نيّة- عندما وضع مقارنات بين تحقيقه وتحقيق مقدسي في عدّة جمل وعبارات، وهو من قبيل كشف سوأة الكاتب أمام الجمهور.
هذه اليوميّات هي أقدم يوميّات عرفها التاريخ الإنساني قاطبة حتى الآن، يأتي بعدها "يوميّات برجوازي من باريس" في القرن الخامس عشر الميلادي. وقد استنتج مقدسي أن اليوميّات ليست كما كان يُعتقد أنها من نتائج الحداثة وشعور الإنسان العالي بالفردانية والوعي الذاتي، بل هو فنٌ إنساني قديم للغاية.
محض اليوميّات يقع في ٩٧ صفحة تقريبًا وهو ما يشكّل ثلث الكتاب فقط، أما بقيّة الصفحات ففيها مقدمة المحقق ومقدمة أحمد العدوي والقصّة الدرامية التي جعلت العدوي يهتّم باليوميّات، وتحليله الخاص لليوميّات وعلاقته -الشخصيّة- بها وكيف تعرف عليها أوّل مرة، والنظرة الأولى وغير ذلك، وأيضًا الأسباب التاريخية الوجودية منذ الإنفجار العظيم التي دفعت مقدسي للوقوع على هذه المخطوطة الفريدة، ومنهجيته التي يدين الله بها في تحقيق الكتاب، وأن خط ابن البنّاء كان رديئًا للغاية، بالإضافة إلى اسهاب مقدسي في تحليل شخصيّة ابن البنّاء وطبيعة الصراع بين الفقهاء في تلك الحقبة حتى شعرتُ لوهلة أنه يلخّص اليوميات ويحرقها حرقًا، بل قلت في نفسي باللهجة المصرية:"ما تاخد تكتب يوميّاتك انت بقه!"، وغير ذلك من المواضيع التي هي من قبيل الاهتمام بالوسائل أكثر من الغايات، والقشور أكثر من اللب وربما يستفيد بها المحقق أو من كان له اشتغال في هذا المجال…
بالمجمل جيّدة، وأنصح بها ولكن كلّما ارتفع سلّم التوقّعات كان السقوط بخيبة الأمل أشد إيلامًا ..
محتوي الكتاب من كلام ابن البناء في مذكراته قليلاً جداً فأول الكتاب مقدمة طويلة و آخره تعليقات طويلة أيضاً محتوي الكتاب عادي بسيط نوعاً ما. المعلومة الأهم التي خرجت بها منه هي أن الخلاف بين الحنابلة و الأشاعرة كان له مقدمات و ملامح قد بدت ظاهرة قبل فتنة ابن القشيري 469 هـ بكثير و أن الفتنة إنما كانت القشة التي قسمت ظهر البعير فآل منده كانوا على عدم وفق مع ابن البناء لظنهم فيه بإنه متمشعر و طبعاً خلاف الأشاعرة معه بسبب حنبليته وكان يصفونهم بالمجسمة و المشبهة..إلخ. أشار لوجود جماعة وظيفتها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كانت تسمي جماعة عبد الصمد الواعظ يبدوا أنها كانت متنفذة نوعاً ما في بغداد فقد وقع بزمان ابن البناء أن نقيبها في ذلك الوقت وهو الشريف ابن سُكرة الهاشمي الذي قد دخل في مرة على بعض العرب المقيمين في حريم دار الخلافة العباسية بليلة سمر فقم هو جماعته بكسر الآت المعازف و أهرقوا الخمر و على ما يبدوا أن هذا الأمر كان فيها شئ ما جعل الأمر يصل للخليفة و وقف الطرفان يختصمان أمامه( القائم بأمر الله) و الذي قضى بتغريم ابن سُكرة و تعويض هؤلاء العرب في المقابل على كل ما لحق بهم من ضرر و يبدوا أن الحكم تحول لرأي عام وقتها و هذه المسألة هجت لها بغداد و تدخل فيها الشريف أبو جعفر الحنبلي أمام الحنابلة في زمانه وكد على أثرها أن ينفى للجانب الغربي من المدينة! عاش ابن البناء فترة مهمة جداً و متقلبه كثيراً على المستوي السياسي و الإجتماعي و الديني فقد عاصر زوال سلطة بني بويه و دخول السلاجقة بغداد, إجتماعي الضغط الذي نشأ بين إحتكاك الحنابلة عبر جماعات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ونشأة المدارس لأول مرة على يد الوزير نظام الملك,ديني فتنة ابن القشيري و ما ترتب عليها من أحداث.
كتاب مثير للاهتمام لانه اول يوميات معروفة وموجودة في التاريخ ولانها كانت في وقت اضطرابات في بغداد يجب الثناء على المستشرق مقدسي الذي عثر على هذا المخطوط النادر وتمكن من قراءته على الرغم من طريقة الكتابة الغريبة ولكونه مخطوط وحيد لايوجد مقابل له للاستعانه به في النسخ وكذلك الدراسة القوية التي قام بها حول المؤلف والمخطوط
رغم صعوبة الكتاب لغير المتخصص بسبب التعمق في تفاصيل تقنية للباحثين في مجال الكتابات التاريخية و كتابة اليوميات الشخصية و دراستها أكاديميا، إلا ان هذا العمل عظيم، و ليس إكتشاف اليوميات وحده، حيث انها تعد حتي الان اقدم كتابة لليوميات الشخصية تصلنا الي يومنا هذا ولكن تعليقات جورج مقدسي و كذلك د.أحمد العدوي اوضحت كثير مما غاب عني عن نفسية الانسان المسلم و كيف يتناقل العلم بين المسلمين و لما
في الكتاب ذكر مقدسي ان اقدم مذكرات عثر عليها في الغرب كانت في عصر الانوار و كانت لفرنسي مجهول الشخصية و ارتبط دائما في علم الاجتماع ان ظهور كتابة التدوين اليومي الشخصي مرتبطة بظهور الفردانية، كان ذلك منطقيا لظهورها في عصر الانوار و اكتشاف الانسان لذاته في الجانب الغربي
بكتشاف يوميات ابن البناء انقلبت هذه النظرية، بل علي العكس اشارت لي علي ان اليوميات كانت عمل انساني فريد من نوعه لا يعتني فيه المسلم بترك اثر او بمحاولة لفهم ذاته، و لكنها بالأساس كانت لاسباب اخري، اسباب تعني بها العقيدة لفت انتباهي ان اكثر الاحداث التي كان يحرص عليها ابن البناء في يومياته هي ذكر الوفيات، و كذلك اشار مقدسي، و كان هذا لسبب واحد رئيسي في تناقل العلم بين المسلمين و هي قضية العدالة لناقلي العلم و كان ذلك يعرف من تواريخ وفياتهم مما يشير لمعاصرتهم لمن يرون عنهم او يأخذوا العلم عنهم ام لا، و كم اذهلتني هذه الملاحظة، و كما يشير مقدسي و ان لم يجزم ان اليوميات في العصر الاسلامي كانت تدون منذ القرن الثاني الهجري علي الأغلب، فإن ذلك يشير علي أهميه تناقل العلم بين المسلمين، و بالاخص في دائرة طلاب العلم
و ان امعنا النظر في ذلك لوجدنا ان هذه الخطوة لم يقدم عليها فقهاء المسلمين إلا لعلمهم بخطورة و حساسية تناقل العلم و تناقل الاسانيد بالاخص عن أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم و لم يكن الدافع في ذلك الا لسببان، اولا حفظ العلم علي الاجيال القادمة و وصول الشرع كما كان منذ العقد الاول و لانه ركن شديد في الدين الاسلامي فيجب حفظه و صيانته من الكذب و التحريف، ثانيا الامانة العلمية في التدقيق خلف كل راوي و كل ناقل علم عن من اخذه و هل صدق ام كذب في روايته و عن من روى
هذا التدقيق الذي نراه في رواية المحدثين عن بعضهم البعض و التدقيق في توقيت وفياتهم و تدوين طلاب العلم للاحداث شديدة الصلة بأمانة النقل، ان دل فإنما يدل علي شدة إستيعاب المسلمين لأهمية التوثيق و ترابطه بأمانة نقل العلم، و ذلك يسد ابواب كثيرة في الشكوك في تناقل السنة النبوية علي وجه التحديد
كذلك يلفت هذا نظري لشئ أكثر دقه، و هو إن تعاليم الاسلام ليست علي نفس الدرجة في كل ناحية من الحياة بمعني، إن كان الاسلام دائما يحثنا علي حسن الظن و عدم التفتيش عن الذي يخطأ، و لكن ذلك في دواير الحياة اليومية العادية، و لكن عندما كان الوضع في تناقل العلم كان التدقيق واجب و التشكك في المحدث او الراوي قائماً و التفتيش و السؤال عن الرجال و ذكر الكذب عنهم من اساسيات استدامة تناقل العلم بالدرجة التي تأمن عليه من التحريف، و منه نري علم الرجال و علم الجرح و التعديل
من هذا الكتاب وجدت ان عظمة علوم المسلمين و تطورها و كذلك انشاء علوم جديدة في عصرهم كان دائما دافعه الحفاظ علي الدين نفسه من التحريف و الضياع، و كان هذا هو المحور الاعظم في إجتهاد المسلمين في العلوم مما أدي الي الكثير من الارتقاء الانساني و العلمي علي حد سواء، علي عكس الوضع الحالي في زماننا هذا، فإن محور الاجتهاد العلمي الاساسي هو الانسان و كيف يزيد من رفاهيته او من استحكامه علي الأمور مما يؤدي غالبا لانفلات الامور و عواقب وخيمة علي البشرية جمعاء
اجتهاد ومثابرة واضحة من الدكتور احمد العدوي عرفنا فيها أهمية كتابة اليوميات وتاريخ الفترة التي عاشها ابن البناء الفقيه الحنبلي وأثر التحزب على فكر الإنسان ورؤيته للحياة .
نسيت هل رُشح الكتاب لي فاشتريته أم رأيت عنوانه في معرض الكتاب الدولي فراق لي لأنني أدعي أني حنبلي فاشتريته. على كل حال فإن ظني لم يخب والكتاب قطعة نفيسة وجميلة، إلا أن الصدمة الأكبر كانت حين علمت أن هذه اليوميات هي أقدم يوميات خاصة مكتشفة في التاريخ الإنساني. وهذه قيمة أخرى يكتسبها الكتاب. من أكثر الأمور التي وقفت عليها طويلاً وأنا أتامل فيما يمكن أن يخطه فقيه حنبلي في القرن الخامس الهجري: كثرة عنايتهم بالرؤى والمنامات واعتمادهم عليها في الاستئناس فيما يقع لهم من أحداث وحت�� في ما يقع بينهم من عدوات بل وفي تبين الصالح من الطالح من الناس. مقدمات المحققين أحمد العدوي وجورج مقدسي، هي مقدمات نفيسة وجميلة سهلت قراءة اليوميات وشرحت الأوضاع والبيئة التي انبثقت فيها هذه اليوميات. وكذلك المقال الذي وضع في الختام لجورج مقدسي، حيث أبان فيه بأن فن كتابة اليوميات هو فن قديم لدى طلاب العلم المسلمين وخصوصا طلاب الفقه والحديث، وكشف فيه عن الترابط بين علم الحديث ومصطلحه وبين كتابة اليوميات، وكيف أن المادة الخام لكتب التراجم هي اليوميات الرائجة في ذلك الزمن. يبقى ما ورد في المقال من استنتاجات بحاجة لمزيد بحث واطلاع، إلا أنها استنتاجات جميلة تقدر وتحترم.
يكفيني من التعريف بهذا الكتاب الجميل تعريف الناشر به، الموضح في هذا الموقع كوصف للكتاب، ولعلي أضيف أن هذه اليوميات عن أحداث حوالي عام واحد من عمر كاتبها الذي عاش في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر ميلادي)، وأن كاتبها/ الحسن بن أحمد ابن البنّاء البغدادي، كان أحد أعلام المذهب الحنبلي في عصره؛ هذا ومن المفيد التذكير بالعنوان الكامل للكتاب:-
"يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري: تعليقات ابن البنّاء الحنبلي لحوادث عصره، علقها لنفسه أبو علي الحسن بن أحمد بن عبدالله البغدادي الحنبلي (1006-1078)، قابله على أصله وعلق عليه جورج مقدسي، ونقله إلى العربية وأعاد مقابلة النص واعتنى به، د. أحمد عدوي".
كتاب ماتع فريد في بابه .. بذل فيه مقدسي والمترجم الدكتور أحمد العدوي صاحب القلم الرشيق الجهد الجهيد .. فكأنني ركبت قطار الزمن ونزلت في بغداد اتأمل حالها وحال ساكنيها رحلة كان رفيقي فيها الشيخ أبو علي البناء الحنبلي .. رحم الله الأسلاف وغفر لنا ولهم
Arabic diaries were first being written from before the 10th century, though the medieval diary which most resembles the modern diary was that of Ibn Banna in the 11th century. His diary was the earliest to be arranged in order of date (ta'rikh in Arabic), very much like modern diaries.
توثيق احداث عصر كامل بدقة من وفيات وتغيرات في الحكم وتحركات سياسية وشخصيات ذلك الزمن من علماء ورجال دين وحتى ذكر القصاب ، هناك المساجد التي كانت يخطب بها ابن البناء نفسه وضمن ايضاً احلامه و رؤياه وفسرها💗 تحقيق تاريخي مذهل على اختصاره وبساطته الا انه مدعاة للقراءة اكثر عن تلك العوالم💗