لعلنا منذ القصة الأولى نكتشف أبطالاً يعيشونَ تفاصيل مدينةٍ، تعيشُ هي الأخرى تحوُّلاتٍ تبدو غير مرئية حيناً، وتكشفُ عن أسرارها حيناً آخر. إنها مدينةٌ عرفَت الزّلازل والهزّات الأرضية والتّاريخية والنّفسية، كما لو أنَّها بتلك التصدُّعات تحكي حكاياتها المُغيّبَة أو المنسية أو تلك التي تجرُّ سنواتٍ بعيدة كماضٍ يُلقي بظلاله على حاضرها، لكن لنتساءل أولاً، من يحكي حكاية هذه المدينة؟ ويغوص عبر قصصهِ في تفاصيلها؟ وسبَق أن تشابك معها بقصائد كتابه الشعري الأول "ضجر البواخر"، ومع شوارعها وطرقها ومآسيها الصغيرة كما الكبيرة، ليعود اليوم قاصّاً، ويخبرنا بأمورٍ تحدث في "آلجي" كما يُسمّيها الجزائريون، وقد لا ننتبه إليها؛ يلتقطها باديس ويحوِّلها إلى لوحاتٍ تضمُّ مقتنياتٍ عتيقة كسيارة بيجو 505، وقد نمرُّ في طريقنا إلى البحر، بالشركة الوطنية لانتظار القطارات، في محاولةٍ لتسجيل صوت البحر. علاقاتٌ هشَّة وحبٌّ خفيٌّ، ينام ويصحو خلف العيون والجدران والكلمات. أسماء وطرق وشوارع وأماكن بعينِها، هناك أيضاً مشاكلُ اليوميّ في الوظائف المملّة، والبحث عن إيجار بيتٍ بشرفة، ودوران مُدوّخ كدوران الثياب المتّسخة في غسّالة ضخمة. لكن صلاح باديس، كما أبطالهِ الذين يتبنّون جلّهم ضمير المتكلّم، يخرجُ من تلك الدائرة بتمرير تيارات هواء تُغيّر المُتوقَّع، فيُحيلنا على آراء ثورية وأفكار ومقولات نقدية تجعل لكلّ قصّة ذاكرتها ومآلها الخاص. نلتقي في كتاب "هذه أمورٌ تحدث" بشابٍّ عمره يقارب ربع قرنٍ فقط، وهو عمر الكاتب الذي لم يخف شغفه باختراعاتٍ حياتية لم يَعِشْها. بل كان شفّافاً وحزيناً كغناء البحّارة، كخطى المشاة في جنازة عمر الزاهي، وهواجس صحافيٍّ عن مورفولوجيا المدينة المتغيّرة، والصّاحِبات الغريبات في شرفة ليلٍ طويل، والقطارات التي تغادر قبل الزلزال. "هذه أمورٌ تحدث" جاءت في 144 صفحة من القطع الوسط، ضمن سلسلة "براءات" لسنة 2019، التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية.
القطار، الزلزال، الرغاية، جامعة باب الزوار، المطر، الغسيل..هذه كلمات تتكرر كثيرا في هذه المجموعة القصصية الجميلة. الكاتب قرر دمج الدارجة بالعربية، في القصة الأولى لم يوفق، لكن توصل للوصفة الملائمة في بقية القصص
كنتُ أود قراءة شيءٍ غير مشهور، بلا تقييمات ولا تصورات ولا تهليلات مسبقة فوجدت هذه: مجموعة قصصية لكاتب جزائري شاب. لم أقرأ لكاتب جزائري من قبل غير أحلام مستغانمي في "الأسود يليق بك" في البدايات الأولى للقراءة.
لم تعجبني فيها إلا بداية قصة "حتى لا تسقط صورة كريم وتشي جيفارا مرة أخرى". استخدم الكاتب اللهجة المحلية كثيراً وباتساع وهذا مزعج بالنسبة لي. الزلازل والمواصلات ومباني الجزائر السكنية كانت هي التيمة الأساسية للقصص. هذا ليس كوب شايي.
" أشعر أني أقطع الليل كله دون أن أدري في أي إتجاه أسير. أتذكر تلك الليالي مع ماريا، كنت أسمع الأذان, فأعلم أن رحلة الليل قد إنتهت، وأنام ساعات إضافية، كنت أسمع صوت المؤذن بعيدًا وقتها، ولكن كنت أعرف أني وصلت إلى الصباح."
أذكر أنني في احدى مقابلاتي مع صلاح تحدثنا عن اللهجات وطريقة توظيفها في النصوص التي تكتب بالعربية الفصحى وقد قال لي حينها أن « يديه اليمين فصحى والشمال دارجة » في هذه المجموعة القصصية أثبت ذلك وتمكن من المراوحة بين الاثنين ببراعة ورغم أن الأمر لا يبدو مهما الا أنه أثار اهتمامي نظرا لاهتمامي بمسألة اللهجات عموما. أما عن القصص، فباديس يبني النص على تفاصيل ملاصقة للشخصيات هي التي تتشكل وتتظافر لتكون صورا مكتملة. مثلا، أشياء كالسجائر، النوافذ، السلالم، السيارات، نهود النساء هي التي يسلط عليها الضوء ويكتبها.. نعم، يكتب بأديس هذه التفاصيل وينسج حكاياته عبرها
ارفع يدي لألمس القمر، اريد ان أسقطه في البحر ليغرق. كي يعود البحارة إلى مسمكتهم، ويتوقفون عن مطاردة خيال القمر فوق الماء، وكي يموت الذًًئب الجريح'' الذي عاد في هيئة بابا، وتفيق ماريا من نظرتها الحزينة، وتأتي نحوي، وحتى يتوقف المدّ والجزر في البحار وداخل أجساد البشر، وتنتهي رحلتنا، وينتهي معها كل شيئ.''
ما يثير الاهتمام في هذه المجموعة أنه لا تحدث الكثير من الأشياء، وأن الكاتب ينجح في إدخالنا في عوالم الجزائر المتصدعة والمشحونة عبر القليل من اليومي الذي لا يخلو من السحر. هي مجموعة مهمومة، كأحد شخوصها، وككل عمل أدبي يحترم اسمه، بتسجيل صوت البحر!