إن لكل مجتمع تحيزاته ولكن ما حدث هو ان كثيرا من شعوب العالم بدأت تتخلى عن تحيزاتها النابعة من واقعها التاريخي والإنساني والوجودي وبدأت تتبنى التحيزات الغربية، وبدات تنظر لنفسها من وجهة نظر الغرب ولكن في الآونة الأخيرة ، بدأ كثير من العلماء العرب يشعرون أن المناهج التى يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماما بل ويرون أنها تعبر عن مجموعة من التحيزات الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية ، وهذا الكتاب هو محاولة لطرح هذه القضية المنهجية والفكرية للدراسة وتقديم نماذج بديلة.
الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، مفكر عربي إسلامي وأستاذ غير متفرغ بكلية البنات جامعة عين شمس. وُلد في دمنهور 1938 وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي (مرحلة التكوين أو البذور). التحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية وعُين معيدًا فيها عند تخرجه، وسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963 حيث حصل على درجة الماجستير عام 1964 (من جامعة كولومبيا) ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز Rutgers (مرحلة الجذور).
وعند عودته إلى مصر قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها جامعة الملك سعود (1983 – 1988)، كما عمل أستاذا زائرًا في أكاديمية ناصر العسكرية، وجامعة ماليزيا الإسلامية، وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970 – 1975)، ومستشارًا ثقافيًا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك (1975 – 1979). ثم عضوا بمجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج، بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا (مرحلة الثمر).
ومن أهم أعمال الدكتور المسيري موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد (ثمانية مجلدات) وكتاب رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في البذور والجذور والثمار. وللدكتور المسيري مؤلفات أخرى في موضوعات شتى من أهمها: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (جزأين)، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد (سبعة أجزاء). كما أن له مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأمريكية مثل: الفردوس الأرضي، و الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، و الحداثة وما بعد الحداثة، و دراسات معرفية في الحداثة الغربية. والدكتور المسيري له أيضاً دراسات لغوية وأدبية من أهمها: اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، و دراسات في الشعر، و في الأدب والفكر، كما صدر له ديوان شعر بعنوان أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية. وقد نشر الدكتور المسيري عدة قصص وديوان شعر للأطفال
قدم الدكتور المسيري سيرته الفكرية في كتاب بعنوان رحلتي الفكرية – في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية (2001) حيث يعطي القارئ صورة مفصلة عن كيف ولدت أفكاره وتكونت والمنهج التفسيري الذي يستخدمه، خاصة مفهوم النموذج المعرفي التفسيري. وفي نهاية "الرحلة" يعطي عرضًا لأهم أفكاره
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة ذاتية شخصية يغلب عليها التخصص يمكنك تجاوزها: من أجمل مصادفات عوالم الكتب أن ترتبط قراءتك لكتاب ما مع فكرة أرقتك ثم بعد ذلك ترتبط نفس القراءة مع كتاب آخر يسبقه، فتكتمل الفكرة وتتضح الرؤية. هذا ما حدث لي مع هذا الكتاب والكتاب الآخر هو خرافة التقدم والتخلف. ولأنه كما قال أورويل"أن أفضل الكتب تلك التي تخبرك بما تعرفه بالفعل" . لذا لن تشعر بعدها بالاغتراب الفكري، أن هناك من رأى نفس أفكارك في واقع مختلف. ____ لطالما تسائلت تساؤلات بسيطة كدارس للمعمار، لماذا ندرسه بتلك الطريقة المقززة؟ ما كل الجدوى من (الكونسبت) المعماري والذي يكون مبتذلا على الأغلب. لماذا لا تكون العمارة هي التعامل مع البيئة المحتضنة للبيت، لماذا لا تكون هي التعبير عن الهوية لا الحداثة، لماذا هذا الكم من السلالم الصاعدة والنازلة في مشروع واحد وهذا الكم من الزجاج والحديد والخرسانة القاتمة المقرفة؟ ترى هل غاب عن ذهن معماريي العصور الباهرة من الإسلام وعصور الفن الرومانسكي وغيرهم من عصور الإبداع المعماري، هل غاب عن أذهانهم هذا المفهوم القميء؟ أم أنهم أبدعوا وابتكروا طبقا لإمكانيات العصر وهويته؛ فأبدع هذا قبة بالكامل من الخشب وأبدع هذا بيتا بالكامل من الطين وابتكر هذا نوعا من الزخارف بالنحاس وأبدع هذا من الحجر ما أبدع.
والسبب الكلي هو التعميم للنموذج الغربي، ظن الغرب بغرور مثير للشفقة أن مكوناته عالمية وتعليماته عالمية وأنه وصل لقمة العقل البشري، لذا عندما يتحدث الغرب عن (الكونسبت) نتحدث نحن عن الكونسبت ونعممه وندرسه ونطبقه، وعندما تظهر في الغرب المدرسة السيريالية تظهر عندنا المدرسة المماثلة! حتى وإن كنت كدكتور جامعي لا تفهمه أصلا بشكل كامل ولا تجيد توضيحه للطلبة والطلبة لا يجيدون تطبيقه بدورهم، وتدور الدائرة السيزيفية إلى ما لا نهاية!
ولطالما جاءت إجابة أساتذتي أن الكونسبت هو هوية العمل المعماري؟ رباه! وهل هناك من هوية تفوق هوية المكان أصلا؟ وهل هناك هوية تفوق مواد بناء المكان نفسه أصلا؟ تلك هي أبرز تساؤلاتي عن المباني الممسوخة التي نقوم بتصميمها طوال العام بجهد المُقل والبدن والله! ثم ماذا ؟ نحتفي ببرج خمسون طابقا بلا أي معنى سوى أنه ربما شابه مبنى لفوستر أو لفرانك جيري وأشكاله المشوهة أو شابه تعريجات ولفات عجيبة لزها حديد. أو ربما نحتفي وننبهر بمبنى لأنه اتبع مدرسة (الدي ستيل) والمتأثرة بدورها بمدرسة لا تقل عنها قبحا التكعيبية (كيوبيزم) .
حينها ينبهر الأساتذة لأن الطالب أمكنه تشرب مدرسة فنية وأبدع خلالها! ولماذا تسمي هذا المبني المقزز المكعباتي بإبداع أو تشرب لفن ما أصلا! ولماذا تعد مهاجع النمل اللوكوربوزيهية تلك منازل أصلا! ولماذا يقتصر الإبداع عند ما توصل له الغرب من مدارس أصلا لا تمت لنا بصلة؟ وهي على الأغلب تداعيات النموذج المادي التجريدي البحث منزوع الدسم، فأي لعنة حطت علينا جراء تقليدهم يا ترى، وأي وبال على البشرية تسببوا به يا تُرى! هكذا تمر أيامي في هذا المكان البائس، وهكذا أرى في أشياء أخرى كثيرة حولي كالسروايل الجينز الضيقة والسُتَر الجلدية و(الفروة) وحتى سدادات الأذن الروسية والخاصة بالقطب الشمالي التي ذُهلت من انتشارها مؤخرا، مرورا باحتقار الوصفات الطبية للأجداد بالأعشاب، مرورا بالأثاثات الضخمة في المنزل والتي تعوق حركتي وتعوق النوافذ والمداخل ومرورا بالطبق الصيني والسيراميك والبلا بلا انتهاء بالمعمار: والتخلي عن الصحون (كورت) الواسعة وضمان وصول التهوية لكل مكان بالمنزل، ملاقف الهواء والمشربية التي تعطيك طلة على الشارع وخصوصية بنفس الوقت، الشخشيخة والتي استبدلناها بإغلاق تام للسطح ثم وضعنا بدلا منها (النجفة- في عز النهار والله) ووضعنا بدلا منها (مروحة السقف) ولا أنسى طبعا التخلي عن الشيش الخشب متعدد المزايا واستبداله بالشباك الطويل الألوميتال الذي يسحب ما بوسعه من أشعة شمس! وطبعا لا أنسى (الدوركيه) الأنيقة التي استبدلناها ب(لوبي المدخل) ولا أنسى طبعا عقد الباب(أرش) والذي استبدلناه بالعتب الخرساني! ولا أنسى طبعا المكيف الهوائي ولا أنسى الطوب الأحمر والحديد والخرسانة والسقوف المعلقة. ولا مجال للحديث عن فن الزخرفة والنقوش العربي ولا عن واجهاتنا العربية الخلابة يكفيك فقط زيارة صغيرة لشوارع المعز لترى أين كنا وإلى أين انتهينا، وانظر هناك إلى البساطة والمعنى الضمني ل(سبيل الكُتّاب) والعن الواقع معي! وهكذا تسير في شوارعك وأنت مغترب، تدخل منزلك وتشعر بأنك مغترب سقطت في حقبة زمنية لا تخصك، تدخل جامعتك وأنت مغترب، تفرش زوايا بيتك وأنت مغترب، كل حركة تشير إلى أنك مغترب كُتب عليك عنوةً أن تشاهد العالم بعيون مزرقة! نحن الذين استبدلنا الذي هو أدنى الأدنى بالذي هو خير. فياللتخلف!
-وبكل بساطة لا أجدني وحيدا فيما أفكر، فيجيبني المسيري بتلقائية عن أن السبب واضح، هو تحيز لنموذج على حساب نموذج آخر. ويجيبني جلال بأنه غزو ثقافي ضاري من حضارة على حضارة أخرى تطمس هويتها وتسحقها. وحينما جلست وصديقي بالمترو بمنطقة فارغة على الأرض كادتنا نظرات الناس، بالطبع هذا ليس سلوكا حضاريا (غربيا) فالأمم الآن تجلس على الكراسي! أجد المسيري يتبعني بأنه سبق وجلس على الأرض في المطار وحينها همس في أذنه عامل المطار بأنه (عيب يا دكتور!)
_______________________________ يتحرك كتاب المسيري في محاور ثلاثة: (1) التحيز بوصفه طبيعيا وصحيا
يبدأ المسيري بتوصيف معنى التحيز وكيف أننا كبشر ومجتمعات محكومين بنموذج معرفي معين نرى من خلاله العالم وتلك النماذج لا نولد بها بل نستمدها من الواقع نتيجة عمليات تراكمية من التركيب والتفكيك والأخذ والرد مشكلين علاقات صريحة مع الواقع. وأن" لكل نموذج بعد معرفي ، أي خلف كل نموذج معاييره الداخلية ومعتقداته وفروضه ومسلماته وإجابات أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساساته" لكل نموذج مرجعيته وخريطته المعرفية بمعنى أدق.
ويمثل المسيري بأمثلة عديدة عن الخرائط المعرفية بمثال خريطة هوليوود ومجال الرؤية لدى الشعب الأمريكي ما بين إبادة وسحق الهنود الحمر واستعباد الشعوب الإفريقية، فيرى الأمريكي السطحي الملّقن أنهم جماعة من الهمج البدائيين المتخلفين آكلي لحوم البشر وأن الحق في تجليتهم عن أمريكا وأخذ مكانهم. لذا تلك الأشكال من العنف يمكنها المرور عبر نموذج ولا تمر عبر آخر. فبينما يرى الأمريكي أنه استوطن الأمريكتين لتعميرهما، يرى باقي العالم أنه تمت إبادة سكان المكان الأصليين! ومثال آخر على ويتمان المسمى بشاعر الولايات المتحدة في نموذج خارج الولايات المتحدة يكون شاعر الشمولية والفاشية! ومثال آخر خلاب وضعته في مسيرتي القرائية للكتاب في التحديثات عن نظرة الغرب المستعمر للعري في بداية الأمر بأنه تبدي للبدائية الإفريقية وتخلف عن الركب الحديث، ثم اختلاف النظرة في الوقت الحالي للعري بأنه تقدم وحرية وإبداع.
كذلك نرى أشكال هذا الانحياز في كل مكان حولنا قولا وعملا ولبسا، فمنا من يمتلك نموذج إدراكي انهزامي يرى أن إسرائيل قوة لا يمكن المناص منها، ومنا من يمتلك نموذج إدراكي يراهم مجموعة من الجرذان الجبناء.يرى أحد أنها دولة تعبر عن التقدم والقوة والنظام، ويرى آخر أنها مثال على قانون الغاب ونهب حق الغير والسكن بدون وجه حق. لذا لدينا نماذج مختلفة يمكننا تقبل العالم من خلالها بسهولة وينسحب على تصرفاتنا: نموذج دارويني نتشوي، نموذج براغماتي نفعي، نموذج هيوماني، إلى أخره. ______ ينتقل بعدها رحمه الله لمستوى آخر وهو حتمية التحيز
يبلور المسيري بوصفه مسألة حتمية طالما احتفظنا بإنسانيتنا ، وأنه مرتبط ببنيتنا لكون العقل فعال لا يدرك الواقع مباشرة وإنما من خلال نموذج معرفي محمل بالأشواق والأوهام والأهواء والذكريات والأساطير، فهو يستبعد ويبقي، يضخم ويهمش، يمنح المركزية ويسلبها. وينسحب ذلك على اللغة ومصطلحاتها وعلى المجاز اللغوي الذي لا يعكس الواقع بصرامة بل يصبغه بطابع بشري (عين الماء، رجل الكرسي...)
ويتحدث عن أن المناهض للتحيز بوصفه عارا هو متحيز في واقع الأمر للنموذج المادي لأنه يتعامل مع العقل على أنه مادة بحتة صماء تستقبل بكل حيادية بدون اختيار واعي مستقل عن الطبيعة. وأقتبس منه التالي" إن الإيمان بالتحيز هو رفض لفكرة بساطة الواقع ولآلية الإدراك السلبي ولفكرة القانون العام، وهو تأكيد بأن عقل الإنسان مبدع وفعال، ودوافعه مركبة وهو دفاع عن مركزية الإنسان ضد الفلسفات المادية الطفولية التي لا ترضى إلا بواحدية الطبيعة ولا تقنع إلا بعالم أملس يشبه الحالة الجنينية قبل أن يولد الإنسان أو ينضج ليصبح بشرا سويا.
ولهذا التحيز أثر في الفلسفات والعلوم والتفسيرات والفنون حتى مع تلك التي تدعي التجرد، ولهذا التحيز أنواع أبرزها التحيز الواعي واللا واعي والتحيز الكلي والتحيز الجزئي: ممثلا بمثال بسيط وأنيق هو انتقال الأثاث الإيطالي والفرنسي لبيوت الطبقة الارستقراطية في الفترة الملكية تقليدا للغرب وانتقال هذا الأثاث لبيوت الطبقة المتوسطة بدوره تقليدا للطبقة العليا، ومن هنا التحيز الواعي هو تحيز الطبقة العليا والتحيز اللا واعي هو تحيز مقلد الطبقة العليا. ولهذا التحيز البارز حضوره في الأفلام الأمريكية فيتشرب المتفرج لقيم ويتحيز لها بشكل لا واعي وهي قيما براغماتية أو داروينية بحتة قد تشاكل نموذج المتفرج المعرفي، وتسريب تلك المفاهيم من قبل الأمريكان يتم بتحيز واعي!
وهناك كذلك تحيز جزئي ينبع إما من جهل بنموذج الآخر المعرفي أو بفعل واعي يقوم به شخص له معالم واضحة واختيارات محددة.(أسماه الممسك بالميزان) وهناك طبعا تحيزات فاضحة كتلك في الأدبيات الصهيونية ك(أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، ففلسطين ليست أرضا بلا شعب، وكذلك اليهود ليسوا شعبا موحدا وينتهي في هذا المحور بالتأكيد على أنه حتمي لكنه ليس بنهائي، لذا لن نفجر صراعات بين تحيزاتنا بل سنتواضع عند معرفة أن لكل منا منطلقات وأن الحوارات اجتهادية تبادلية، وكذلك وجود مرجعية مشتركة بيننا كبشر هى التقوى والقيم الأخلاقية، ففي نهاية المطاف هناك شبه معيار موضوعي مطلق.
(2) (أ) المحور الثاني هو عن التحيز للنموذج الغربي والتحيز في الاصطلاح:
وقد عبر المسيري عنه بتحيز واقعنا المادي ضدنا، فكل شيء في الحقيقة لا يناسبنا جملة وتفصيلا ولكننا استوردناه بناء على رؤية غيرنا لنا. أبرز أمثلة تلك التحيزات بابا نويل الأبله في الشوارع العربية وأن أطفالنا لم يكونوا يدركوا مضمونه الرمزي، وكذلك الموضة وهي تعبير عن تغير موقف الإنسان الغربي المستمر للتصميمات، وهكذا يتبعه العالم بسلاسة، فهي كما أسماها المسيري (فيروسات التحيز) وكيف أنها تتسبب في إهدار فاضح للموارد في أشياء لا قيمة لها سوى الشكليات التي توحي بأننا (نلحق بالركب المتقدم!) فلماذا أضحى تقليد حضارة خاصة بعينها هو التقدم بعينه! دون النظر طبعا للتراث ولا البيئة الحاضنة. لهذا الغزو الحضاري الغير متكافئ هذا –بتعبير جلال أمين- أفضى لتخريب بالمعنى الحرفي، يقول المسيري: " وقد دخل العالم الإسلامي في صراع مرير مع هذا التشكيل الحضاري منذ البداية، وقامت جيوش الدولة العثمانية بحماية دار الإسلام في الشرق من الهجمة الاستعمارية، ولذا التف الاستعمار الغربي حول الدولة العثمانية فاحتل أطراف إفريقيا والهند ووصل إلى العالم الجديد والعالم الإسلامي بمنأى عن جيوشه، ومع أزمة الدولة العثمانية، بدأت جيوش الغرب في غزو الشرق وقطعت جيوش نابليون (كبداية) أوصال الدولة العثمانية إلى أن تم تقطيع وتقسيم باقي العالم الإسلامي"
وبدءً من هنا تسربت المضامين الغربية لنا مثل الفكر العلماني الليبرالي كفكر حدد "النهضة" مسبقا بشكل أعاد صياغة المجتمع المسلم وسلوكه ثم مفاهيم أخرى كالرأسمالية والبيروقراطية انتهاء بأن فلاسفتنا وعلمائنا لا يكتسبون شرعيتهم إلا بعد اعتراف الغرب بهم وبفلسفتهم، وكذلك ظهور جيل النهضة متمثلا في عرب يقومون بحملات تغريب على نطاق واسع.
فهدفنا دائما هو اللحاق بالغرب، وحتى المحاولات للحفاظ عالهوية (الإخوان المسلمين) تحمل في طياتها تقبل للنموذج وإعادة صياغة الهوية من الداخل بشكل إسلامي من الخارج. وهكذا، نكتشف شرعية الإسلام ومفاهيمه، وشرعية مفكرينا بقدر الاقتراب من الغرب ونموذجه الحضاري. كذلك هناك تحيزات للنموذج المعرفي يظهر في التحقير من دور الأم، وعبارة بسيطة مثل (هصرف آسف منين!) وتثمين كل شيء، والتحيزات الغربية الآخرى المتمثلة في نبذ الغائية والخصوصية الحضارية تحيز للحركة والقوة والتراكم والاستمرارية والخط المستقيم والدائرة الكاملة.
(ب) التحيز في الاصطلاح:
عودا على بدء في توضيح مفهوم العقل الفعال الواعي، فإن النتيجة الحتمية لذلك هي اختيار عدد لا بأس به من الدوال للإخبار عن المدلولات المتشابكة مع مدلولات أخرى. ومن هنا فإن لكل مجتمع مفاهيمه الخاصة ودواله ومدلولاته، لذا فالتحيز في الاصطلاح يعني استيراد مفاهيم لا مثيل لها في واقعنا، بل إنها تشاكله على الأغلب. لذا يوضح المسيري أننا لم نسك مصطلحات أو ننحتها بأنفسنا وتلك التي استوردناها لم نفحصها ، لذا لم نصنف الواقع حسب مقولاتنا المتفقة مع هذا الإدراك للواقع. لا يظهر ذلك بشكل كبير في العلوم الطبيعية أو المدلولات البسيطة ك(السيارة) مثلا لواحدية مدلولاتها. ولكنه يظهر بوضوح في العلوم الاجتماعية والإنسانية كما أسلفنا: المصطلح الغربي مرتبط بسياقه الحضاري، يفي بالغرض الذي سُك من أجله، وهذا يضع حدودا تاريخية وحضارية على فعاليته في الخارج، ومن هنا قصور هذا المصطلح
يمثّل المسيري بعدها بمفهوم الأسرة: وأي اختلاف شاسع بين مفهوم الأسرة في دولتنا المسلمة والاسرة هُناك، فالفرق بين بين مجتمع تناحري وآخر متضامن، بين مسئولية أبوين تستمر حتى السادسة عشر وآخرى حتى الممات، عن أب يعيش في دار مسنين وآخر يعيش في بيته.
وأهم الأمثلة على الإطللاق مصطلح العصور الوسطى، والتي تعني عصور التخلف والاضمحلال الثقافي، ولكن بالطبع عند نزع المصطلح من سياقه ومحاولة إسقاطه على رقعة آخرى وهي (عصر الرسالة والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان في تلك القرون) فإنه يصبح بلا أي معنى! ونفس الشيء على عصر النهضة: فهو نقطة تحول في التاريخ الغربي وبإسقاطه على فترة الاحتلال الفرنسي، فإنه يغدو بلا أي معنى! وينسحب ذلك على مصطلحات أوسع كالمغني "العالمي" والحروب "العالمية الأولى" والحركة "الصليبية" المنزوعة الحافز الديني أصلا.
وكل ما سبق من نقل بلا فحص للمصطلح وبدون تحديد هيكله يؤدي إلى ما أسماه المسيري "المصطلح الغائب" فيتم تناول مصطلح من جانب واحد يحدده الغرب. ويمثل هنا بمثال خلّاب هو رجل أوروبا المريض والمراد به الدولة العثمانية وهي صورة تقلل من العثمانية وتنسينا أنها كانت تحمي شعوبها رغم استبدادها وضعفها وهكذا رجل أوروبا لم يكن من أوروبا إنما يتزعم الشرق المسلم، لذا هذا الرجل المحتضر هو فقط تركة يجب تقسيمها على أوروبا، وهي رؤية بعيدة عن رؤية شعوب تلك الدولة. ومن هنا يأتي المصطلح الغائب الأكثر أهمية هو "رجل أوروبا النهم المفترس" وهو الغرب الذي أباد سكانا بالملايين وأمرض سكانا بالملايين (معونات طبية) وسرق ثروات بالملايين!
-مر في هذا المبحث أيضا بما أسماه (جيتوية المصطلح اليهودي). وهو الإيمان بتفرد التراث اليهودي. وهناك أيضا مصطلحا لم يذكره المسيري وهو مفهوم الإيمان: فهو عندهم التصديق بدون دليل، وهو المتماشي بدقة مع الحالة المسيحية المحقرة للعقل والمتناقضة مع بديهياته، ولكنه لا يصح نقله لحالة الإيمان بالإسلام الذاخر بالبراهين العقلية. (3) نحو نموذج بديل
-بعد إدراك حتمية التحيز وتفكيك النموذج الغربي وأبعاده المعرفية ومزاياه وعيوبه يوضح المسيري خصوصية النموذج الغربي بشكل موسع ومن الداخل أحيانا (رصدا لأدبيات الغرب) فينطلق المسيري من أن نموذجه لا يسعى أن يكون نموذج عام حالمة كالنموذج المادي (بل رؤية عالمية من خلال مقارنة البنى الحضارية المختلفة) لا عن طريق الحكم بفساد الآخر، ولا يسعى للقول بنهاية التاريخ والوصول لقمة العقل البشري، بل ينطلق من اجتهاد متواضع يتعامل مع آليات الواقع مدركا حدود العقل وإمكانياته.
ولن تتم عملية بلورة النموذج الجديد بدون أن يواكبها نقد كلي للنموذج الغربي للتخلص من الإحساس بمركزيته أو حاكمية مزاجه، ومن ثم يصبح التشكيل الحضاري تشكيل واحد له تاريخ وخصوصيته وسلبياته وإيجابياته، نموذج يحترم الخصوصية ولكنه يعلي من النزعة الفردانية، يحقق التقدم المادي ولكنه يستعمر البلدان ويستعبد الشعوب، يحترم حقوق الإنسان ولكنه ينظر للأعراق الأخرى نظرة دونية عرقية. -الانفتاح على العالم كله وليست أوروبا وحدها، مما سيجعلنا نأخذ حذرنا حين وصول المعارف المتنوعة فلا نتلقاها بسلبية كونها (عالمية)أي تعبر عن قانون عام متوهم، كفهوم المسرح الغربي امام مفهوم المسرح الياباني مثلا. -في تلك المرحلة سنقدر على تفكيك المفاهيم فلا نقبل بأن الصهيونية هي مثلا عودة اليهود لوطنهم، فنتساءل حينها عن سكان صهيون الحاليين، ولن نكتفي بالترجمة الجافة بل سندرس الظاهرة التي يشير لها بسياقها، لا بحسب أوهام الآخر، كما تعاملت الانتفاضة مع مفهوم "الرواد" أمام الجيش الصهيوني، وهم في الحقيقة مجرد غزاة جرذان. – خاتمة:
كانت تلك أطروحة مبسطة ويسيرة توجه بها بشكل عام للقراء وبشكل أقل للمتخصصين، ولكنها مع هذا وإن كانت متوجهة للقراء الفضوليين فإن المسيري أيضا يضع لنا في نهاية الكتاب كيف كانت استجابة المتخصصين لتلك الأطروحة في السبعة كتب الصادرة عن التحيز . وفي تأكيد أخير: انطلاقنا من التراث الذي سنحدده يعني الاحتفاظ بهويتنا وخطابنا الحضاري، ومن لا يحتفظ بهويته لا يمكنه أن يحتفظ باستقلاله وفقد الهوية يتم لكسرنا ابتداءً.لذا نموذجنا بالطبع سيحمل تحيزات، ولكنها تحيزات لنا لا ضدنا، تحيزات تقررها منظومتنا وحضارتنا ورؤيتنا نحن، "فالمأئنة ليست برجا طويلا، بل هي تعبير عن فهم البنّاء المبدع للكون، والنقلة من المربع للمثمن من خلال المقرنصات الإسلامية هي تعبير عن اجتهاد الإنسان وإجابته عن تساؤلاته" كانت تلك قراءة مشتركة مع العزيز قاطف الزهورمنذر بستاني، إلى قراءات أخرى ماتعة إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين
" وجبة مُقبّلات فكرية " يقدّمها الدكتور المسيري رحمه الله, "العالم من منظور غربي" هو تلخيص للمنظومة الفكرية التي يعتنقها كاتبنا مُغلّفة بأفكاره وخواطره عن مسألة التحيزّ, والتي يمكن أن نقارنها بمبدأ ال Worldview. 1) فقه التحيّز باختصار, يقول المسيري ب"حتمية التحيز" ويدعم هذه الفكرة بعدّة امثلة. حتمية التحيز, والتي تتمثل ب"انتقائية" الواقع لدى أي انسان, أي أن الفكر الانساني يُحلل ما يجاوره من الواقع ويختار ويركّز على بعض تجلياته على حساب تجليات أخرى, هذه الفكرة يُقدمها كورقة رابحة ضد الفكر الأُحادي (العضوي - الانسان كمظهر من مظاهر الطبيعة فقط /الآلي - الانسان كآلة) لصالح الفكر الثنائي (ثنائية الطبيعة والانسان), أي أنه, حسب منظومته الفلسفية, ينظر للانسان بكونه مُتجاوز لعضوية الطبيعة ولآلية الطبيعة ك"نظام مغلق" مُتخَيّل. من ايجابيات الكتاب من هذه الناحية, ولكن بنفس الوقت من نقاط ضعفه هو نوعية الأمثلة المذكورة وكمّيتها, فالكتاب مناسب جدا لأي قارئ تقريبا, فهو ينتقل من "الخاص" الى "العام", من الامثلة الملموسة في الحياة اليومية (كنضال الفلسطينيين ورمزية الحجارة) وصولا الى الكليّات التي يورد الأمثلة ليُعرّفها. هذه الطريقة في الكتابة تتسم بالسهولة وتيسّر على القارئ التعرف على المصطلحات, وهو مما يحسب للكاتب, الا أنني اجد نفسي بعد الكتاب مُشوّشا قليلا, لكثرة الأمثلة والأفكار الواردة. أحسست أنه, لو قام بعرض بعض الجزئيات فقط من منظومته الفلسفية من وجهة نظر فقه التحيز كان من الممكن ان يكون خيارا افضل من عرض كامل لافكار منظومته الفلسفية تقريبا في كتاب واحد! وهذا تقريبا مأخذي الوحيد على الكتاب, العشوائية في طرح الأفكار والكمية الكبيرة التي زادت من تأثير هذه العشوائية, على الرغم من أن الأمثلة بذاتها لا غبار عليها. 2) النموذج البديل بعد نقده لمظاهر الحضارة الغربية, وخصوصا جزئية محاولتها جعل "غربيّتها" هي نقطة الاستناد العالمية, أي تحويل "غربيتها" الى "العالمية", يُحاول المسيري عرض وجهات نظر بديلة وطرق للمحافظة على الاستقلالية الفكرية. من أهم الأفكار في هذا الجزء هي ضرورة "تمرين عضلات" الثقة الفكرية بالتراث وضرورة اعادة مبدأ الاجتهاد والنسبية في البحث الفلسفي, مُبرزاً بذلك أيضا محاولته شق طريقا وسطا بين التبعية الكاملة لثقافات أخرى, وبين تقليد ال"دالّ" التاريخي, أي الأخذ بمظاهر التراث لا الحقائق التي طَمَح إليها أصحاب هذا التراث (تقديس الرمز واغفال المرموز إليه). مجملا, الكتاب عبارة عن "سَلَطَة" من الأفكار والصور والأمثلة في كتاب بمقربة ال 400 صفحة, الا أن انسابية الطرح وسهولة اللغة النسبي وبساطة الأمثلة المذكورة سهّلا على القارئ مهمة فهم الأفكار التي يحاول أن يوصلها المسيري. وأخيرا, لا أرى أن الكتاب يحمل بذاته "أطروحة" مستقلة, بل أرى أنه مقدمة لأفكار المسيري الفلسفية ولمنظومته الفكرية, ستكون جدّ مفيدة لمن يبحث عن التعرّف أكثر عن هذا المفكر القدير, وطبعا أبرز لي المسيري مرة أخرى أنه "ريتشارد فاينمان" المفكرين العرب, بمحاولاته الدائمة لايصال الفكرة وشرحها بغض النظر عن صعوبتها. والشكر للأخ عبد الرحمن فتحي الذي عرّفني على الكتاب والذي استئنست به وبملاحظاته والأهم بحماسه المستمر في قراءتنا الجماعية, على أمل الاستمرار بهذه القراءات الجماعية المفيدة :) 29/08/2019
الكتاب خطوة في مشروع عبد الوهاب المسيري الفكري ببساطة يقوم عبد الوهاب المسيري بتفكيك الخطاب الغربي (المادي غالبا) و يحاول ان ينظر الي العالم من خلال هذا الخطاب خلال فصول الكتاب يستعرض كيف تري العقلية الغربية المادية المعاصرة العالم
ينتقد الكتاب الخطاب الغربي المعاصر و الدعوي التكنولوجية لاستهلاك العالم و الوصول الي ذروة لا تنتهي في التقنية يؤدي هذا حسب وجهة نظر الكاتب الي (حسولة العالم) اي تحول العالم الي مجرد وسيلة توظف لخدمة غرض التطور التكنولوجي ... و تنتفي فكرة القيمة التي من وجهة نظر الكاتب هي جوهر انسانية الانسان. يتساءل الكاتب في نهاية هذه الدعوة المحمومة للتطور هل الانسان كائن يبحث عن قضاء احتياجاته ؟ بأكبر كم ممكن ؟ وبأكثر رفاهية ممكنة؟ هل ممكن ان يفقد الإنسان وجود معني لحياته اثناء رحلة التطور واشباع الرغبات؟
من الكتب المهمة التي قرأتها عن موضوع الهيمنة الغربية.
تحدَّث عن مواضيع كثيرة كثيرة جدًا لكن جاءت بشكل مختصر، وأهم ما تحدَّث عنه بنظري: ١- النموذج الغربي السائد اليوم، وهو النموذج المادي القائم على: ١- موت الإله ٢- تأليه الإنسان. وظهور مذهب “الهيومانية” كما يسميه المسيري.
٢- لا وجود اليوم للقوانين الأخلاقية فكل ما يهم هو اللذة ومنفعة الاستهلاك.
٣- عالم ما بعد الحداثة يعتمد على نسيان الماضي والتاريخ.
٤- نقده للحضارة الغربية الاستهلاكية التي أنتجت لنا إنسان مادي، إنسان لا يحمل أي أعباء أخلاقية، وليس له ذاكرة تاريخية.
٥- تركيبة الواقع الإنساني.
٦- فعالية العقل الإنساني.
٧- علاقة اللغة بالإدراك، واستيراد المصطلحات من ثقافة أخرى وتنزيلها على ثقافتنا دون اعتبار للبعد الثقافي والحضاري للمصطلح. (وبالتالي هذا المصطلح يحمل وجهة نظر صاحبه فقط، ولا يصح تنزيله على أي ثقافة أخرى).
٨- الامبريالية الغربية هي أهم مدخل لاكتشاف حقيقة الحضارة الغربية الحديثة اليوم، وأكبر مثال “وجود إسرائيل”.
٩- التبعية المطلقة للغرب، التي جعلت من الغرب قيمة مطلقة يجب تبنيها، ونقطة مرجعية يجب أن نصل إليها أو نقترب منها، فكلما ازددنا تقليدًا لهم أصحبنا أكثر تطورًا وإن ابتعدنا عنهم ازددنا تخلفًا.
من لديه فضول عن أحد المواضيع المذكورة أعلاه، فهذا الكتاب خير ما يبدأ به، وعلى غير عادة كتب المسيري هذا الكتاب سهل اللغة، والحمدلله.
"الغرب يجب أن يصبح مرة أخرى (غربيًا) لا (عالميًا)، ويجب أن ندرك محليته وخصوصيته الحضارية والجغرافية وأن ننفتح عليه، بطريقة نقدية إبداعية تمامًا مثل انفتاحنا على الحضارات الأخرى."
يتحدث الكاتب عن التحيز وأصله الثقافي والحضاري واستنساخنا لـ'التحيز الغربي' بلا تمحيص، ومن ثم وجوب تكوين 'تحيزنا' تحيز عربي إسلامي يعكس هويتنا وحضارتنا. والانتفاضة الفلسطينية خير مثال
بذكاء وفطنة، كما هي عادة المسيري، يتتبع القوالب المُشكِّلة، عوضاً عن الانشغال بسطوح الظواهر، ليصل إلى النماذج الكامنة، الإدراكية والمعرفية. من موقف شخصي عابر، كقلقه على ابنه عند غياب زوجته، يستنتج "حالة وظيفية أو نماذجية" تتمثل في تقمص الأب نموذج الأم التي لا تكف عن القلق على أولادها، ومن تجاوزه لقاعة جامعية ظنا منه أنها غرفة حفلات، لطبيعة اللباس فيها، وانزعاج صاحبه على تركه ربطة العنق عند الذهاب لمسرحية شكسبير، ورمزية البطيخة الفلسطينية، يعرّف لنا "النموذج المعرفي أو الإدراكي" بكونه خريطة معرفية ينظر الإنسان من خلالها للواقع، أو كما أشار لذلك ديكارت ابتداء: الأشياء كما تبدو لنا. فقد يسمي الرجل الأمريكي الجمل بـ"حيوان ما"، إلا أن الرجل البدوي سيسميه: "القعود"، في الوقت الذي تسميه ابنته الحضرية "جملاً". وكلاهما ينطلق في أوصافه وتسمياته من تحيزاته ومعارفه المسبقة. وإذا ذهبنا بالفكرة لأبعد من ذلك، فإننا نقول: أن منظر العري في أعين المستعمرين البيض كان علامة تخلف، بينما أصبح ذات المنظر عند أحفادهم في الستينات علامة تحرر. وأن لفظة "أمة" تشير إلى مجموعة من البشر تتشارك اللغة والحدود الجغرافية، عند الغرب، بينما عند العرب قد تتسع لتشمل مشاركة الذاكرة التاريخية، والعقائد الدينية، وإن كانت مقسمة بين عدة دول. بعد إدراك المسيري لما سبق ثم إشراكه القارئ في تأملاته، يشير إلى أهمية جمع الدراسات التي تناولت قضية التبعية الإدراكية، وتجاوزها نظريا وتطبيقا، على أمل أن نصل إلى تعريف إشكالية التحيز في المنهج، ومعرفة سماته وآلياته، وأن نضع أيدينا على بعض الحلول المطروحة، التي قد تؤدي في النهاية إلى ظهور نموذج معرفي بديل. فاقترح إنشاء تخصص جديد يدعى "فقه التحيز". وآثر استخدام كلمة فقه بدلا من علم لأن الأولى تسترجع البعد الاجتهادي والاحتمالي والإبداعي للمعرفة، على عكس الثانية التي تؤكد جوانب الدقة واليقينية والحيادية والنهائية. وتأكيدا على جديته وضع في مقدمة كتابه مطلباً عنوانه: "تحيزات مؤلف الدراسة"، مبتدئا بنفسه في كشف تحيزاته. يذكر المسيري السمات الأساسية للتحيز، فيؤكد على حتميته، وفي مقدمة ذلك اللغة التي قد تتحيز لصورة دون أخرى عند قوم دون آخرين، كما يؤكد على أن إدراكنا بتحيزاتنا لا يستدعي الحزن، وإنما إدراك تركيبة الظواهر الإنسانية. يذهب المسيري في شرح فكرته بالعبارة الشهيرة "لنكن واقعيين" التي تفترض إمكانية وجود واقع لا تحكمه نظريات مسبقة. فقولك مثلا: "لنكن واقعيين ونعترف بوجود إسرائيل"، فيه تحيز مسبق للاستسلام، بينما كان الأجدر قول: "لنكن واقعيين في كيفية تعاملنا معها، دون الاعتراف بشرعية وجودها". فالاعتراف غير موجود واقعا، وإنما استنتاج عقلي تتحكم فيه النماذج الإدراكية. كما أن إدراك التحيز يقتضي إدراك الخصوصية، والتواضع العلمي، بنفي إمكانية الموضوعية المطلقة، التي كان ادعاؤها طريق الغرب للطغيان المادي، مقابل الاعتراف بمنهج بديل هو التفسيري، وأن تجاوز التحيز يكون بعد اكتشافه واستيعابه، وأنه أنواع، من حيث الخير والشر، والواعي وغير الواعي، والكلي والجزئي..إلخ، وأنه وإن كان حتميا، فليس بنهائي. في الفصل الذي يليه، ينتقل إلى الحديث عن التحيز للنموذج الغربي خاصة، ويتمثل بالكرسي مدخلا للقضية، فيستحضر مشهد الموظف الذي نهره عن الجلوس على سجاد وثير في صالة كبار الزوار بإحدى المطارات، لأن النموذج المهيمن، ربط الجلوس بالكراسي المرتفعة، رغم أنها نتاج حضارة مختلفة لطبيعة أرضها الباردة، إلا إن هذا النموذج انتشر، وأصبح النموذج الحاكم على بقية النماذج.. ليست هذه دعوة للجلوس على الأرض بقدر ما هي طلب لفتح باب الاجتهاد في جميع المجالات، باستحضار نماذج متعددة، تسهم في خدمة الحضارة. بل ويلفت النظر إلى أن محاولات محاربة بعض صور الغرب قد تكون بالدعوة لصورة أخرى هي نتاج الغرب ذاته، كما فعل التيار الشيوعي العربي المحارب للرأسمالية الغربية، وكما نفعل حينما نمجد ابن خلدون، بعدما أشادوا به. وفي كل مرة نتلقى فيها النظريات الغربية، ونطورها ونؤكدها بالأبحاث المحلية، فإنما نساهم في تنمية هذا النموذج وتوسيعه، مقابل فقدان سيطرتنا على الواقع والتعامل معه بكفاءة، لأن "من لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة عليها". يجلي السُتر عن النموذج المادي المهيمن، الذي تنكشف تحيزاته في طريقة نظرنا للأمور، كالعمل، المربوط بخارج المنزل، المحدود بساعات معينة، وبند أجور خاص، والفشل المرهون بالفشل التكنولوجي، فإن حاد قطار عن مساره، ستجد الخبر في نشرات الأخبار، بينما لا يمكن لها أن ترى الفشل الكامن في البشر العاملين فيه، نواقصهم المعنوية، واحتياجاتهم النفسية..إلخ. ومن أبرز إفرازات التحيز المادي: "شعار التقدم"، الذي يصبح بلا مرجعية، فنحن نتقدم كي نحرز مزيدا من التقدم، ومقاييسنا في ذلك مادية، فما لا يقاس، يستبعد. والذي يرى أن الأصح في حقه أن يسمى "التخلف الكوني"، وذلك أنه تقدم صناعي للغرب، وغزو إمبريالي للكون. فالعالم حيز بلا تاريخ، يتحرك فيه رأس المال بلا روح ولا ضمير، في نسيان نشط للماضي والتاريخ. وبعد مرحلة الإنتاج والتراكم، ينتقل المجتمع إلى مرحلة الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك. وإذا كان الإنسان الاقتصادي تبدياً لمبدأ المنفعة، فإن الإنسان الجسماني تبدٍّ لمبدأ اللذة. التحيز هنا ضد الغائية والخصوصية والفردية والتركيبية والذاتية، هو تحيز ضد الصفات الإنسانية للإنسان، للصفات المادية الطبيعية. والهدف من تلك التحيزات، تيسير التحكم الإمبريالي في الواقع، فما يتم ترشيده في إطار مادي، يمكن اختزاله، وبالتالي توظيفه. بعد ذلك، يحاول اقتراح آليات لتجاوز التحيز، ابتداء بسك المصطلحات. كما يقلب الطاولة الغربية، ويعيدها لمسارها الصحيح، بجعلها نسبية بعد محاولة إطلاقها، وغربية بعد محاولة عولمتها، بنقض الأسس والمقولات، فالـ"قوانين العلمية" مثلا، هي في واقع الأمر مقولات فلسفية قبلية، وهي نتاج تطور حضاري وتاريخي محدد، وهكذا دواليك. يؤكد بعد ذلك على أهمية أن لا تكون جهودنا تفكيكية وحسب، بل علينا إنتاج نموذج بديل، مسبوق بإدراك أولي بتواضع الذات، وأثر الإمبريالية، وعدم الاكتفاء بالبكاء ��لى الأطلال. وأن ننطلق بيقين ناقص واجتهاد مستمر، وإيمان بعدم القدرة على التحكم الكامل في الواقع، وعدم الاختزال وتصفية الثنائيات، ورفض الواحدية السببية، وأن نطمح لنظرية شاملة، ونموذج توليدي لا تراكمي، وأن ننطلق من مقولة الإنسان لا المادة، منبعنا في ذلك التراث، منفصلين عن القيم الحداثية. يوصي بتوصيات أدق على مستوى المصطلح، وكيلا نقع في ذات الفخ الغربي، فلا بد لنا أيضا من أن نلتمس الدقة والأمانة، فلا نرمي بالإطلاقات جزافا، وندرس الواقع منتبهين لخصوصية كل مجتمع وأفراده، مبتعدين عن التعميم، متنبهين للـ"مصطلح الغائب"، فهناك من الظواهر ما لا يمكن للنماذج المستوردة التعبير عنه بسبب حدودها الإدراكية الحتمية. وفي خضم بيانه وإرشاده لطرق سك المصطلحات، يرشد للمجاز طريقاً يُعبر به إلى تحقيق المعاني، فيستنطق المصطلح البلاغي فكرياً بكل عذوبة، مؤكداً أن "المجاز هو اعتراف ضمني بتركيبية العالم واستحالة رده إلى عالم الطبيعة/ المادة الأحادي." ومصداقاً لهمه الفكري، يختم كتابه بخطوات تطبيقية ينادي بها، ويعمل واقعيا على تحقيقها، تتمثل في المؤتمر الذي شاركه فيه أسماء متنوعة الاهتمامات والفكر، في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية..إلخ، حول "فقه التحيز"، وكانت ثمرته دراسات منشورة، سأسعى بحول الله للاطلاع عليها، لما تحمله عناوينها من واعد الدلالات.
كتاب رائع، يتخلله الكثير من الأفكار المألوفة، ولا تدري أألفتها لكثرة تداولها في كتب المسيري، أم لسطوة أفكاره عربياً، حتى أضحت تسمع من ألسنة غيره.
لا يخفى على أحد الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمهُ اللّه رجل فذ دمث الخُلق مثقف واسع الاطلاع، رغم نشأته التعليمية الغربية إلّا إن البعض يحب تسميته مفكر إسلامي وذلك لأسهاماته في الحقل الإسلامي التي لا تخفى على أحد بالأضافة إلى مؤلفهُ الأشهر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية والذي أمضى في تأليفها ما يُقارب من ثلاثون عامًا وإسلوبه العلمي والتفنيدي الرشيق
في هذا الكتاب مدخل لقراءة فكر الرجل ومعرفة جوانبه فهي دراسة عن التحيز يتناولها من كلّ جوانبها بالتحليل والفحص وينتقد الحداثة الغربية في بعض نتائجها والتي تُحاول طمث كلّ حضارة غيرها وجعل كلّ شيء في الحياة يتمحور حول فكرة المادية واعتبار إن الإنسان الأبيض أو الغربي على وجه الدقة هو وحده فقط مركز الكون وما دونه هم عبيد لا قيمة لهم وبالتالي له الحق في فعل كل ما يترأئ له بهم مثل قتل سكان الأمريكتين عند وصوله إليهم. أيضًا يُعيد تعريف بعض المفاهيم الخاطئة التي ترسخت عندنا مثل الصهيونية العالمية والتي في واقع الأمر هى غربية أمريكية وغيرها الكثير من المفاهيم التي اعتدنا عليها بدون وعي للمعنى الأصلي لها
الكتاب فى مجمله جيد جدًا اعتقد انه موّجه خاصةً للباحثين فالكتاب يناقش قضية التحيز وفقه التحيز وكيف ان فى عالمنا منحازين الى النموذج المعرفي الغربي وضرب بذلك عدة امثلة .. كذلك التحيز فى العلوم وهو ما تم نقاشه بشكل موسع فى كتاب إشكالية التحيز
العالم من منظورٍ غربيٍّ = (النّموذج والتّحيّز) د. عبدالوهاب المسيري
(قراءة هذا الملخّص مهمّة لفهم خط سير الملخّصات في الفترة القادمة)
- هل بالضرورة ما يصلح من تجاربٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وتاريخيّةٍ نجحت في العالم الغربيّ أن تنجح في اليابان أو الكاميرون أو العالم العربيّ؟!
لا، ليس بالضرورة.
- لماذا؟
لأنًّ لكلّ أمّةٍ تحيّزاتها ونموذجها الخاص.
- المُدرِك للتجارب النّهضويّة يستفهم أنّ لكلّ مجتمعٍ تحيّزاته النّابعة من واقعه التّاريخي والإنساني والوجودي، ولكن للأسف بدأنا نتبنّى التّحيّزات الغربيّة وبدأت تنظر المجتمعات المختلفة لنفسها من خلال وجهة نظر الغرب.
- لكن السّؤال الّذي يُطرح: ما هو أبسط تعريفٍ للنموذج المعرفي أو الإدراكي؟!
لدينا تعريفان:
التّعريف بالنسبة لممارس النّموذج من الدّاخل:
هو صورة عقليّة للعالم، ورؤية لا واعية للوجود. وتشكّلان نظرة إنسان لحضارة ما تعامله مع الآخر المختلف والأشياء والأفكار والواقع والخيال.
هذا النّموذج يشكّله الدّين والثّقافة والعرف والتّاريخ وتراكمات المعاش اليومي.
النّموذج: هو عمليّة تجريديّة عقليّة مركّبة تقوم بجمع بعض السّمات فتضخّم بعضها وتستبعد بعضها وترتّب كلّ سمةٍ من المركز حسب أهمّيتها.
النّموذج كالنظارة الّتي نضعها على أعيننا قبل النّظر إلى الكون.
مثال: النّموذج العلمي المادّي إذا تمّ استخدامه لرؤية الحياة بكلّ تفاصيلها فإنّه سيرى الإنسان كذرّاتٍ متلاطمةٍ لا قيمة لها.
التّعريف بالنسبة لمراقب النّموذج من الخارج:
هو الخيط الخفي النّاظم الّذي يتجاوز سطح الظّواهر والمعلومات المتفرّقة، ويحفر إلى أن يصل إلى الجذور والعناصر الخفيّة المتشابكة؛ الّتي لو فُهمت فمن الممكن أن تضع جميع قطع الأحجية المتناثرة في صورةٍ كاملةٍ واحدةٍ.
مثال: إذا حاولت أن تجد الخيط النّاظم في موضوع الشّيوع الجنسيّ بأشكاله المختلفة في المجتمعات الغربيّة؛ فستجد أنّ النّموذج يحكمه حريّة الإنسان في الوصول إلى اللذّة.
-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=- لو حاولنا أن نجمع التّعريفين بتعريفٍ واحدٍ نستطيع أن نقول:
النّموذج هو طريقة للتعامل مع أيّ ظاهرةٍ أو ممارسةٍ إنسانيّةٍ على أساس بُعدها المعرفيّ الذي يشمل المعتقدات والفروض والمسلمات الثقافية التي تحكم هذه الظاهرة أو ممارستها على أرض الواقع.
- السّؤال الآخر ما هو التّحيّز؟!
كما ذكرنا سابقاً أنّ النمّوذج يهمّش أجزاء ويضخّم أجزاء بشكلٍ لا واعي وهذا تبعاً لمعاييره الدّاخليّة.
عمليّة التّهميش والتّضخيم تدعى "التّحيّز" لذا أيُّ إنسانٍ يدّعي الحياد متوهّماً فهو متحيّز وإن أنكر ذلك.
التّحيّز: خاصية طبيعية من المعطى الإنساني المركّب الّذي يحقّق للإنسان إنسانيّته ككائنٍ مركّبٍ ومعقّدٍ.
- لذا نستطيع القول أنّ الغزو الثّقافي هو محاولة الإنسان الغربيّ فرض نماذجه على شعوب العالم حتّى إن كان النّموذج لا يتوافق مع طبائع الشّعوب الّتي طُبقّت عليه.
- ما هي سمات التّحيّز الإنساني؟
1- حتمي؛ كمؤكدٍ على حريّة الإنسان في تبنّي الآراء والاختيار.
2- لا يشكّل عيباً أو نقيصةً بل هو جزءٌ من تركيبة الإنسان المتناقضة بشكلٍ عبقري حيث أنّه يمكنه أن يجمع العدل والتّحيّز في آنٍ واحدٍ فيتحيز للعدل أو لنصرو المظلوم وهذا من عجيب صنع الله في خلقه.
3- التّحيّز كونه جزء من النّموذج فهو عمليّة تتبع نمطاً معيّناً ومتكرّر = (اكتشاف النّموذج والتّحيز سيساعد الباحثين على استخدام هذه الأدوات فيما يعرف ب "دراسات استشراف المستقبل").
4- التّحيّز له أنواع؛ منها ما هو للحقّ و منها ما هو باطل.
5- التّحيّز حتمي كمعطى إنساني لكنّه ليس مُجبر للإنسان بل مشجّع على ممارسة وفهم معيّن.
6- من الممكن أن يكون التّحيّز واعياٌ أو غير واعٍ كما في حالات الانبهار الثّقافي.
7- التّحيّز يحضر بكثافة داخل مواضيع الدّين والثّقافة والفنون والعلوم الإنسانيّة وتشكيل المصطلحات وبشكلٍ أبسط في الرّؤية للعلم وبشكلٍ أقلٍّ في العلوم التّجريديّة كالرّياضيّات.
8- التّحيّز هو خصوصيّة وفردانيّة وهويّة كلّ حضارة = هو هويّتها الكونيّة أمام الحضارات جميعها.
9- التّحيّز هو المفجّر للإبداع الحضاريّ الخاصّ.
- ما سبق يساعدنا على فهم ما هو الاستلاب الثّقافي؟
هو أن يقوم إنسان ما أو حضارة ما باستيراد الآراء والإسهمات والإبداعات والآلات وحتّى المقولات التّحليليّة الأساسيّة عن الذّات والكون من خلال نموذج حضارة أخرى= فيقع في أسر ما يعرف ب: (إمبراليّة المقولات).
- ما المشكلة إذا تمّ تبنّي نموذجٍ حضاريٍّ مختلفٍ؟
هذا يجعلنا أن نرى أنفسنا من خلال الآخر، لا أن نرى الآخر من خلال أنفسنا.
لنعيد ترتيب عالم الأفكار الخاصّ بنا بما يتناسب مع النّموذج الّذي تمّ استيراده بلا وعيٍ كما في حالات الانبهار الحضاريّ.
فعلى سبيل المثال: تصبح قيمة القرآن بمقدار ما يحتوي على الإعجاز العلميّ، وتصبح المصارعة والرّياضات الدّمويّة حلال ما دام لبسوا لباساً شرعيّاً، وحتّى الكلام يتأثّر فحتّى كلمة آسف لن تقدّرها لأنّك سوف تسأل من يقولها لك:
(وين أصرف آسف، بأي بنك !!)
حتّى قدواتنا تقاس بمسطرة الغرب فمثلاً ابن خلدون مهم لأنّه قدّم مقاربات تشابه ما يتمّ طرحه الآن في علم الاجتماع الغربيّ.
ويصبح الإسلام والحالة العربيّة ككلّ قيمتها بمقدار اقترابها من النّموذج الغربيّ الحديث.
حتّى مفاهيم التّقدّم والتّخلّف والأسرة والعدالة والحريّة والتّنوير والنّهضة تستورد من القاموس الغربيّ رغم اختلاف التّجارب الحضاريّة.
ما سبق أدّى إلى تأسيس ظاهرةٍ تُدعى (عقدة التّمركز الأوروبي) بمعنى احتلال الرّؤية الأوروبيّة المنتصف المركزي في مختلف النّماذج الحضاريّة المختلفة وتحوّلها من رؤية و نموذج يمثّل أوروبا إلى نموذج يمثّل العالم.
- هل هذا يعني إهمال منتوج الحضارات الغربيّة؟
بالطبع لا، فالمنتوج الإنساني الإبداعي الغربي مهم لنا كبشر بكلّ ما يحمل من تناقضات. لكن لا بدّ أن نصل لمرحلة نستطيع أن ننظر إلى النّماذج الحضاريّة البشريّة من خلال نموذجنا المتفرّد الخاص لا أن ننظر للآخر من خلاله.
وأن لا ننظر للغرب كمطلق بل كنسبي. أهميّته توازي أهميّة أيّة حضارة أخرى كونيّة.
فنقوم بعمل عمليّة إزاحة له من المركز إلى الهامش بجانب الحضارات الكونيّة الأخرى الّتي نستطيع الاستفادة منها كل على حدة بعد أن ننظر لها من خلال نموذجنا الخاص.
بعد إدراكي لمفهوم أداة النّموذج والتّحيّز؛ كيف ممكن أن أستفيد منها؟
من خلال التّوقّف عن عمليّة النّقد والتّحسر على حياتنا ووضعنا البائس, ثمّ الانتقال إلى عمليّة تحليليّة بحثيّة تقوم على فهم النّماذج والتّحيّزات الّتي ليست من إنتاجنا وتفكيكها وأخذ المفيد منها.
ثمّ تقديم نموذج بديل نابع من تراثنا العربيّ الإسلامي ينطلق من مقولة سعادة الإنسان في الدّنيا والآخرة على مستوى الخطاب والتّطبيق.
وتقديم خطّة عمل انتقاليّة من ��لنّموذج المسخي السّابق اللاواعي المكوّن من شتات أفكار إلى نموذجٍ حضاريٍّ خاصٍّ واعي منظّم يمثّلنا أمام المجتمع العالميّ.
و كما يعلق المسيري رحمه الله :
(( صاحب الفكر هو إنسان قد طوَّر منظومة فكرية تتسم أجزاؤها بقدر من الترابط والاتساق الداخلى (فهي تعبِّر عن قلقه وآماله)، ويكمن وراءها نموذج معرفيٌّ واحد، رؤية واحدة للكون. أما ناقل الأفكار، فهو إنسان ينقل أفكاراً متناثرة لا يربطها بالضرورة رابط، وتنتمي كل فكرة إلى منظومة فكرية مستقلة ))
هل تنصح بالعودة للكتاب؟
نعم، وبشدّة.
لو كان الأمر بيدنا لوضعنا الكتاب كمنهجٍ إجباريٍّ يتمّ تدريس لطلبة الماجستير و الدّكتوارة
فضلاً على أن يتمّ استخدامه من قبل الممارسين للبحث العلميّ.
يتناول الكتاب مفهوم التحيز الفكري والمعرفي، ويتحدث عن أصله الحضاري والثقافي، وكيف استُنسخ النموذج المعرفي الغربي في بلادنا، وكيف أصبحنا نتبنى التحيزات الغربية، وننظر إلى أنفسنا من خلال منظور ووجهة نظر الغرب.
يركز المسيري من خلال كتبه، وكتابه هذا بشكل خاص على وضع مشروع فكري يحدد لبنات وأسس منهج التفكير عن طريق النماذج.
ويحاول في هذا الصدد أن يفسر للقارئ أن النماذج بطبيعتها متحيزة في أي حال من الأحوال، وعليه فإنه يدعو إلى تبني نموذج يتماشى مع ثقافتنا وجوهرنا وخلفيتنا التاريخية كمسلمين معبرا على أن التحيز الجزئي ضار ويؤدي إلى التيه،فلا تراث ولا حضارة ترتكز على الحل الوسط.
عبد الوهاب المسيري يحلل كتابه بأسلوب إستقرائي ينطلق من الخاص إلى العام يرتكز على أمثلة متنوعة من الواقع المعاش، وهذه نقطة حميدة تجعل فكره أمرا يسيرا على كل قارئ مهتم رغم عمق أفكاره .
عبد الوهاب المسيري من الكتاب القلائل الذين ينجحون في تفسير القضية أو الموضوع الذي يريده بأوضح الأساليب حتى للقارئ المبتدأ .. فلا يجعلك أبدا تدخل في عناء فكريا لتتعمق معه في القضية المثارة .. لذا دوما أنصح الجميع بدخول عالم المسيري ...
هذا الكتاب كان محاولة من عبد الوهاب المسيري لطرح قضية منهجية فكرية هي أن المناهج التى يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماما بل أنها تعبر عن مجموعة من التحيزات الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية ،
«الغرب يجب أن يصبح مرة أخرى غربيًا لا عالميًا، ويجب أن نُدرك محليّته وخصوصيته الحضارية والجغرافية، وأن ننفتح عليه بطريقةٍ نقديةٍ إبداعية تمامًا مثل انفتاحنا على الحضارات الأخرى».
لقد خلق الله الناس شعوبا و قبائل و لكل جماعة منهم واقعها التاريخي و الوجودي الذي ينبع منه هوية و ثقافة هذه الجماعة كما تتكون لديها منظومة فكرية لها تحيزاتها الخاصة و لكن ماذا يحدث إذا تخلت تلك الجماعة عن تحيزاتها لتتبنى تحيزات جماعة أخرى من أجل حصد الثمار التى حصدتها تلك الأخرى هل تفلح تلك العملية أم تتحول إلى تقليد أعمى يودي بصاحبه إلى الخسارة ربما يكون هذا ما حدث لنا في اخر قرنين من الزمان بعد ظهور القوى الغربية على قمة هرم التطور التكنولوجي بجانب تفوقهم العسكري و الاقتصادي الذي تم تسخيره لغزو باقي بلاد العالم و منها بلاد العالم الإسلامي و العربي بهدف السيطرة و التحكم في موارد هذه البلاد الذي أدى إلى ظهور العالم الغربي بشكل المنتصر و المحق في كل ما يقول و يفعل و ظهر كل ما عند الغرب على أنه عالمي و ليس غربي أي أنه يعبر عن العالم و بسبب رغبتنا في الجلوس على عرش المنتصر الذي هو الغرب في تصورنا بجانب الغزو الثقافي القادم من الغرب قمنا بتبني جميع وجهات نظرهم بحجة اللحاق بهم و لكن دون أن نشعر ابتلعنا تحيزاتهم في جميع جوانب الحياة من دون فهم كنه هذه التحيزات و أن هذه حالة الغرب الخاصة التى تتلاءم مع واقعهم و ثقافتهم فأصبحنا ننظر إلى العالم بل و إلى أنفسنا بعيونهم و هذا ما استرعى انتباه الكاتب لأحد أهم الاشكاليات و هي إشكالية التحيز يطرح الكاتب إشكالية التحيز في هذا الكتاب و يبدأ بتعريف النموذج المعرفي بشكل عام أولا ثم ينتقل إلى شرح التحيز ما هو و ما هي سماته و أنواعه و هل يمكن تجاوزه أم أنه نهائي غير قابل للتجاوز ثم يبدأ في شرح النموذج المعرفي الغربي و يتجاوز المظاهر السطحية لهذا النموذج ليصل إلى لب الأفكار و التحيزات الكامنة في النموذج و التي بدورها تظهر على أنها تحيزات مادية تقوم على إلغاء الثنائيات ( ثنائية الخالق و المخلوق - ثنائية الإنسان و الطبيعة ) أي أن كل ما يوجد هو مادة و حسب فيتم اختزال الإنسان في البعد المادي فهو جزء من النظام الطبيعي يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى و ليس له هدف أو غاية أو إرادة مستقلة عن الطبيعة كما يقوم هذا النموذج على إلغاء المعايير الأخلاقية لتثبيت معايير نفعية و تعظيم اللذة و تعظيم الإنتاج من أجل تعظيم الاستهلاك فهو يتحيز للمحسوس و المادي على حساب اللامحسوس و الكيفي و يتحيز للعام على حساب الخاص كما أنه يتحيز للموضوعي على حساب الذاتي و الهدف من تحيزات النموذج المادي تيسير التحكم الامبريالي في الواقع من أهم التحيزات الغربية أيضا هو مفهوم التقدم الذي يستند إلى مفهوم المادة فهو حتمي لا يمكن إيقافه و هو مستمر و دائم يؤدي الإيمان به إلى حتمية التغير فيصبح كل ما هو جديد جيد و كل ما هو قديم سيء و هو يسير في اتجاه واحد يتبدى في كل زمان و مكان و في جميع المجتمعات و جميع المجالات حسب متتالية واحدة تقريبا كما أنه يفترض أن المعرفة تتراكم بشكل مطرد مما يزيد القدرة على التحكم في الطبيعة و تفترض أن عقل الإنسان غير محدود و أن موارد الطبيعة غير محدودة و لكن هذا يجعل من عملية التقدم عملية بلا غاية و إنما هي حركة دائمة و مستمرة بلا هدف أو مرجعية كما أن هذا المفهوم لا يراعي الخصوصية التقليدية ( إثنية و دينية و أخلاقية ) كما أن افتراض أن عقل الإنسان لا حدود له أو أن موارد الطبيعة لا نهائية افتراضات غير صحيحة و هذا بجانب العديد من التحيزات الأخرى التي تم ذكرها في الكتاب ثم يبدأ الكاتب بشرح الحل للوصول إلى النموذج البديل الذي يبدأ بآليات تجاوز التحيز من إدراك حتميته و الوصول بعد معرفي للنموذج كما أنه يجب أن تتم عملية نقد كلية للنموذج الغربي تظهر فيه إيجابيات و سلبيات النموذج لا التركيز على السلبيات أو الإيجابيات فقط و التأكيد على خصوصية الحضارة الغربية فليس كل ما عند الغرب عالمي أو يعبر عن العالم بأسره و إنما هي تجربتهم و ينتقل إلى النموذج البديل الذي له خطواته الأولية من رفض تمجيد الذات فمجرد معرفتنا لما يحوي النموذج الغربي ليس دليلا على أننا قد قمنا بحل المشكلة كما يجب إدراك أثر الإمبريالية الغربية و أنها ما زالت تتدخل في شئوننا و ايضا إدراك الضعف الداخلي أما عن منطلقات النموذج البديل فهو يجب أن يكون نموذج قائم على الاجتهاد و لا يقوم باختزال أو تصفية الثنائيات التي تؤدي إلى اختزال كل شيء في المادة و لن يهتم النموذج بالكلي دون الجزئي أو العكس و يجب معرفة أنه لا يمكن التحكم في الواقع بشكل كامل بجانب فصل الحداثة عن الاستهلاكية و مفهوم التقدم المادي و الفردية المطلقة و منطلقات أخرى أبرز ما في الكتاب كم الأمثلة الكبير التي يضربها الكاتب و هي قادرة على إيضاح المعلومة التي تبدو صعبة الفهم
This entire review has been hidden because of spoilers.
بلا اي مبالغة هذا الكتاب من أجمل الكتب التي قرأتها في حياتي يحاول الدكتور الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه هذا ان يرسم الحدود الفاصلة بيننا وبين الحضارة الغربية، فيبدأ بداية برسم الصورة الواقعية والحقيقية لها، ومن ثم ينتقل لإظهار حجم التحيز الذي نتحيزه لها أحيانا عن قصد وأحيانا بغير قصد، قبل أن ينتهي في الختام بوضع مقترحات لكيفية الخروج من هذا التحيز والذهاب نحو بناء حضاري خاص ومستقل وقوي ومتفاعل مع الحضارات العالمية (وليس الغربية فحسب) مع التطبيقات الموجزة لمقترحاته كتاب لا بد من قراءته
كتاب فكري ممتاز، وعلى خلاف الكتب التي تكتب بأسلوب أكاديمي جاف فإن طريقة المسيري في الشرح والانتقال من نقطة إلى نقطة رشيقة ومنطقية وليست عصية على الفهم حتى بالنسبة لغير المتمرسين بمطالعة هذا النوع من الكتب. تناول الكاتب العديد من المواضيع المهمة بما يتعلق بالهوية وكيفية النظر إلى الأمور بشكل متوازن و رصين وبلغة جزلة جعلت من محتوى الكتاب (الثقيل بعض الشيء) متعة حقيقية.
وحده عبدالوهاب المسيري الذي يستطع التحدث عن قضية شائكة وحسّاسة مثل قضية الغزو الفكري والثقافي بطريقة منهجية واضحة بل "لذيذة" بعيدا عن التجريد والفلسفة. فغزو الحضارة الغربية وموجة الاستهلاكية والفردانية التي تجتاح العالم من جهة، والتمسك والاعتزاز بالهوية العربية والإسلامية من جهة أخرى ليست مجرد شعارات يتم ترديدها، أو حملات يتم الترويج لها، بل هي جوانب الحياة اليومية التي نعيشها جميعا، بدءا من تصميم الشوارع والمباني، واختياراتنا في أثاث منازلنا، مرورا بألعاب أطفالنا وليس انتهاءً بتصميم مناهج التعليم وساعات العمل لدينا..
أول كتاب أقرأه للمسيري. الجميل أن الكتاب يدفعك إلى التنبه لتفاصيل الأمور والأفكار وتفكيكها عوضا عن القبول المباشر بها لأجل مصدرها غربي، خصوصاحديثه عن تحيز المصطلحات، لأول مرة أفكر فيها.. جميل للقراءة النقاشية مع مجموعات.
الدكتور المسيري كتب فأجاد، تحليل لظاهرة التحيز للفكر الغربي وتأثيره ومظاهره على ثقافتنا الإسلامية والعربية.
الحقيقة استمتع بطريقة تحليل الدكتور وتبهرني عباراته، وكم كنت اتمنى لو أن الله أمد في عمره لكي ينظر للواقع الحالي ويحلله بطريقته وبنماذجه التفسيرية، كنا سنحصل على كتب مثمرة لو أنه كان حاضرا معنا هذه الأيام.
ينبه الكتاب على ضرورة التفكير قبل الأخذ من الثقافة الأوروبية، فنحن في هذه الزمن أشبه ما نكون بالببغاء المقلد لكلام صاحبه، لكننا لا نقلدهم في كلامهم، بل في كل شيء استطعنا تقليدهم فيه. من الأفكار التي كانت مسلّمة عندي -أو لم أفكر فيها من قبل- وبسبب هذه الكتاب لاحظتها: _ لماذا نبدأ يوم عملنا الساعة الثامنة وننام الساعة الحادية عشر!، أليس المناسب لنا أن ننام بعد العشاء ونبدأ العمل بعد الفجر؟ _ لماذا مجالسنا مثل مجالس الأوروبيين فيها الكراسي الغير مريحة، ولما لا نعود للمجالس العربية الأكثر راحة وأكثر إفادة للبيئة إذ لن نضطر لقطع شجر الغابات للكراسي والطاولات العالية. _ لماذا نلبس لبسهم! ولما لا يكون لنا لباسا خاصا يميزنا ويريحنا ويناسب بيئتنا الحارة أكثر منهم! والكتاب يتحدث عن التحيز ويحاول تجاوز هذه المشكلة من خلال الدعوى لإعادة التفكير بما نأخذه من الحضارة الأوروبية، ويدعو لدراسة الحضارات الأخرى مثل الحضارات: الصينية واليابانية والشرق أوروبية وحضارات أمريكا الجنوبيا ووسط أفريقيا، والحقيقة أننا جاهلون لهذه الحضارات ولا نأخذ منها شيئا وكأن الحضارة الأوروبية الغربية هي النقطة المركزية وغيرها ليسوا إلا جماعات من المتخلفين. يثيرُ أيضا فكرة المصطلحات التي نسخناها دون أن نضع لمستنا الخاصة بها، وأوضح مثال على هذا: الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، ففي الواقع هاتان حربان في أوروبا فقط وليسا في العالم أجمع، لكن الأوروبي يعتبر أن العالم هو أوروبا لذلك سُميت عندهم بهذا الاسم، لكن بالنسبة لنا هي حرب بعيدة وقعت في قارة أخرى، فلماذا نسميها أيضا بالعالمية! وصرنا معترفين أن العالم هو أوروبا، أو أن أوروبا هي مركز الحضارة في العالم.
يُناقش الكتاب موضوعا خطيرا جدا، لم أقرأ من قبل لأحد بسطه مثل هذا البسط وأصّله هذا التأصيل طويل النفس. ألا وهو موضوع (التحيّز)، والتحيز للغرب بخاصة، بحيث حلّل ذلك فلسفيا وتاريخيا وحضاريا وأدبيا إلخ..
ولو تأمّلتَ لوجدت الكثير من آرائك واختياراتك ليست هي آراءك تماما ولا اختياراتك حقا.. اللباس والأذواق والعمران واللغة والأقوال المأثورة والمناهج والطقوس والمشاعر والمقتنيات، (ولا داعي لألج ميدان الموسيقى والسينما..). كل أولئك مصبوغ بصبغة غربية نهائية.. كأن العالم هو ما يراه الغرب.
وليت شعري ماذا كان قبل هذه الحضارة الغربية ؟ ألم تتعاقب على هذه الأرض حضارات وشعوب شتى ؟ ولغات وعلوم وأطعمة وأزياء لا حدّ لها.. بل هناك من يزعم وجود علوم متقدمة جدا اندثرت في الماضي فلم يصلنا منها شيء تقريبا.. كمثل أسرار الفراعنة وطرقهم في البناء والتحنيط التي لم يعثر العلم (=العلم الغربي) عن مفاتيحها بعد.
يُعجبني في المسيري رحمه الله، وضوح عبارته وذكاء مجازه، وجرأته في نحت مصطلحات جديدة وربطها بظواهر نراها رأي العين - وإن كان يُبالغ أحيانا – ولكم أطربني ذكره مثالين في غاية من الإبداع والإعجاز. بحيث لو تأملهما القارئ كما ينبغي وخرج بهما فحسب من الكتاب كله، لكان غانما مُستفيدا إن شاء الله.
أما المثال الأول فهو (اكتشاف أرض جديدة تُدعى أمريكا).. هذه العبارة التي تكررت أمامنا كثيرا في المناهج الدراسية والعناوين الكثيرة، وفي أقوال الناس. وبغض النظر عن أكذوبة اكتشاف (كولومبوس المبيد) لهذه الأرض، فهل كانت فعلا أرضا (جديدة) ؟ أم كانت (قديمة) بالنسبة لمن يقطنها من الهنود الحمر الذين أُبيدوا عن بكرة أبيهم. أي أنه تمّ تجاهل وجودهم تماما ؟ فالإنسان الغربي المغرور لم يكن يرى إلا نفسه فوق هذه الأرض، أما الشعوب الأخرى فحشرات ليلية أو دود يدوسه بامتعاض ثم يصيح غير عابئ: (انظروا هذه أرض جديدة !).. لكن هل انتبهنا نحن لهذا الغرور القبيح وصحّحنا العبارة.. للأسف لا. نحن فقط نردد ما يقولون.
وأما المثال الثاني فهما (الحربان العالميتان الأولى والثانية)، وكيف انقسم (العالم)، وانفجر العالم، وتعسكر العالم، وتضرر العالم إلخ.. وهذه ملاحظة طالما عذبتني. هل كان العالم كله معنيا فعلا بتلك الحربين المهلكتين ؟ فلماذا إذن وُصفتا بالعالميتين ؟.. ببساطة – يقول المسيري – لأن الغرب يرى نفسه هو العالم.. أما الباقي فمجرد محميات ومستعمرات دواب - هذه قلتها أنا - قد يستعملون بعضهم في حروبهم وأشغالهم، ومن بقي يملؤون بهم أسواقا ضخمة لمنتجاهم !
ثم تكلم بعدها عن التحيز في المصطلحات، وكيف نلهث وراء كل ما يسكونه من مصطلحات لندخلها في قاموسنا بتعسّف وحماسة مضحكة وإقصاء للذات يثير الشفقة والغيظ لمن له عقل يعقل به.. إلى آخر تأصيلاته العجيبة للموضوع.
حقا.. كيف نعمى عن وجود حضارات ورؤى أخرى في هذا العالم (الصين واليابان والهند وهلمّ جرا..)، مع استبعاد الوثنيات والشركيات والخرافات بطبيعة الحال.. فلا نحن حافظنا على هويتنا وتراثنا ورؤيتنا للعالم – التي هي أكثر إنسانية من رؤيتهم المادية الاستغلالية – ولا نحن انفتحنا على رؤى وحضارات أخرى لها ما لها وعليها ما عليها..
وبصرف النظر عن الربع الأخير من الكتاب الذي بالغ فيه الكاتب برأيي في تقديس (مبدأ الحجارة) في الانتفاضة الفلسطينية باعتباره (رؤية فلسطينية عبقرية)، ما أثار حفيظتي. فالقوم يرموننا بالقنابل والصواريخ المدمرة فيقع الآلاف من الضحايا ، ونحن نرقص طربا لأننا استطعنا قذفهم بالحجارة بدل أن (نعدّ لهم) !.. بصرف النظر عن هذه المبالغة العاطفية التي لا معنى لها عندي، فإن الكتاب خطير جدا في موضوعه، ويبدو أن نظرتي للعالم تغيرت فعلا بعد قرائته. ولن أقبل بعد اليوم رأيا أو ذوقا فقط لأنه من الغرب.