عدد مميز جدًا من مرايا يحتوى على مقالات متنوعة حول ثورة 1919 كتبه عدد من المؤرخين والأساتذة المعروفين بمناسبة مرور مائة عام على تلك الثورة، في المقالات التمهيدية هناك مقال لخالد زيادة وآخر لخالد قطب تصب فكرتهما حول علمانية أو ليبرالية ثورة 1919 ، ويُكمل هذه الرؤية خالد عزب بكلامه عن عائلات النخب المصرية التي قادت الثورة مثل عائلة محمد محمود باشا التي أرسلت أبناءها للدراسة بالخارج فأصبحت مشبّعة بالثقافة الليبرالية.
لكن السؤال المطروح على مقالات هؤلاء الأساتذة هل كانت الجماهير الغفيرة التي نزلت إلى الشوارع مشبّعة بهذه الثقافة؟ وهل تلك النخب هي التي حشدت الجماهير وعبّئتها للنزول للشوارع وهي النخب التي عاشت حياتها في كنف الاحتلال معارضة أي أعمال ثورية ضده، هل ما طُبق في الشوارع على الحقيقة من أعمال ثورية هي من أفكار تلك النخبة أم من أفكار الحزب الوطني ومصطفى كامل!! هل كانت تلك الجماهير تهتف بالاستقلال التام أم كانت تهتف بسقوط الحجاب وفصل الدين عن الدولة وتنحية الشريعة! هل كانت عامة الناس تفهم ذلك!.
هي ثورة بلاشك لم تكن مؤدلجة عند عامة الناس بمفاهيم ليبرالية أو إسلامية، الناس نزلت وقتها لتطالب بمبدأ إنساني عام وهو حقها في الحرية، إن هذه الثورة لا يمكن وصفها بأيديولوجيا عامة، بل كما يقول صبري العدل في أحد مقالات العدد أنه يجب طرح أسئلة حول كل شريحة أو فئة من المجتمع المصري وأسباب مشاركتها في الثورة، بل ولا يجب حصر أسباب قيام الثورة في أسباب مادية تاريخية جدلية، ويمكن لك معرفة آراء الماركسيين في ثورة 1919 من خلال مقال عماد أبو غازي الذي طرح فيه ثلاث رؤى ماركسية للثورة مثل رؤية شهدي عطية وفوزي جرجس وفتحي الرملي، لكن بلاشك لا يكفي التحليل الطبقي الكلاسيكي لتفسير الثورة.
في مقال مهم للمؤرخ عاصم الدسوقي يوضح لماذا فشلت الثورة في تحقيق هدفها من " الاستقلال التام أو الموت الزؤام" ويُرجع ذلك أن الحياة السياسية تم تطبيعها بالشخصنة والانقسامية، وكيف أن القادة كانوا يخضعون لتفضيلاتهم الذاتية وأنهم لم يكونوا يعبّرون تعبيرًا حقيقيًا عن الثوار الذين انطلقوا في الشوارع وتعرضوا لرصاص الإنجليز، وبتقديري هذه السردية مهمة بل هي مفتاح لفهم الثورة ككل، ومفتاح لفهم طبيعة زعامة سعد زغلول بل وبرجماتيته ، فهو الذي استنكر في منفاه في مالطة أعمال التظاهرات والإضرابات في مصر قبل أن يقتنع بها أخيرًا، وهو الذي رفض تصريح فبراير ثم أصبح رئيسًا للوزراء في دولة قوامها هذا التصريح، وفي مقال مهم داخل العدد عن صورة سعد زغلول وخصوصًا عند جورج دونهام بيرس، يرى الأخير أن سعد لم يكن متطرفًا في وطنيته فلم يدع قط للعنف ولم يكن الوفد يسعى قط إلى محاربة البريطانيين .
وبقراءة خريطة الخلاف الفكري بين سعد زغلول ومخالفيه، يمكن لك الوقوف على حالة التشظي السياسي في البيئة المصرية وقتها بسبب الشخصنة، ففي مقال زينب البكري عن رؤية العقاد الموالي لسعد ولطه حسين عدو سعد، ترصد رؤية طه حسين حول طبيعة الخلاف بين سعد وعدلي، وهي رؤية ترى أن الخلاف بين الإثنين خلاف شخصي.
يوضح الأستاذ مجدي جرجس في مقال له نقطة مهمة، وهي أن الكنيسة اتخذت موقفًا مناوئًا من الثورة بسبب ركونهم لسلطات الاحتلال لتقوية موقفها على رأس الطائفة، ولعدم تمكين أعيان الأقباط في الظهور بمظهر الممثل لجموع القبط، وبحسب مجدي جرجس فإن ظهور القمص سرجيوس وهتافات الهلال مع الصليب أربك الطرفين، وسينتهي مع تجريد الكنيسة لسرجيوس من رتبته الكهنوتية، إذن هناك نقطة مهمة أن الكلام عن دور الكنيسة الوطني في ثورة 1919 بناء على وجود القمص سرجيوس ودور أعيان الأقباط في قلب الثورة هو مغالطة كبيرة، إذ الكنيسة نفسها أدانت أفعال سرجيوس وعدّت كل من يقوم بالخطابة في الكنيسة مغرضًا للعقوبة وامتثلت لرغبات سلطات الاحتلال.
العدد به مقالات جيدة عن موقف الصحافة من الثورة، وموقف الاحتلال من الصحافة المؤيدة للثورة، وكذا ترصد هذه المقالات كيف استعملت قوات الاحتلال الصحف الموالية لها كعصاة غليظة لإرهاب الناس مثل جريدة الوقائع المصرية وجريدة المقطم التي وصفت التظاهرات بأنها " شغب" يقوم به " جمهور من الغوغاء"، وكأن هذه التهمة تيمة متكررة على مر العصور تطلقها الأنظمة المستبدة على مناوئيها.
العدد بطبيعة الحال مهم وإن كنا لم نُلقي الضوء على أفكار بعض مقالاته، وفيه بعض المقالات المتواضعة التقليدية، لكن الغالب على العدد مقالات أراها مهمة عن حدث بلاشك مهم وفارق في تاريخ مصر الحديث.